مقاربة تقنية دلفي ودراسات المستقبلات

ا.د. مازن الرمضاني*

لقد سبق لنا القول أن تباين انماط التفكير الإنساني قد أفضى إلى تباين مماثل في المقاربات المنهجية التي تم إستخدامها لترجمة هذه الأنماط إلى واقع ماموس. وقد تنوعت مجمل هذه المقاربات وتوزعت على أما مقاربات إتجاهية بادواتها الكمية وأما مقاربات معيارية بادواتها الكيفية، وكذلك مقاربات تجمع بين هاتين المقاربتين وبادواتها الكمية والكيفية.

تباعا سنتناول في عدد من المقالات العلمية نماذج لكل من المقاربات اعلاه، ولغاية تكمن في التعريف بكيفية إنجاز دراسة مستقبلية بكفاءة.في هذا العدد من الحصاد ستكون مقاربة تقنية دلفي هي موضوع الاهتمام.

 تكتسب هذه المقاربة تسميتها من اسم معبد دلفي، الذي اتخذه الكهنة الإغريق القدامى حوالي 580-570 ق.م مكانا لعبادة الاله أبولو، فضلا عن ممارسة تقديم النصح للسائلين، وبضمن ذلك، التكهن بالمستقبل. على ان اقتران مقاربة تقنية دلفي بهذه التسمية لا يعني انها تُعد امتدادا للممارسات الدينية الغيبية لاولئك الكهنة. فتقنية دلفي، كما تُفهم اليوم، هي على النقيض من تلك الممارسات بالضرورة.

تاريخيا تعود الجذور الحديثة لإستخدام هذه المقاربة الى نهاية عقد الأربعينيات من القرن الماضي. فأنذاك دفعت حاجة تأمين الأمن القومي الأمريكي بالمؤسسة العسكرية الأمريكية الى تكليف مؤسسة راند الأمريكية إنجاز روية تسهل الإستشراف بعيد المدى لمشاكل عسكرية مستقبلية كتأثير تطور القدرات التكنولوجية العسكرية للاتحاد السوفيتي السابق. وقد تجسدت هذه الرؤية في ابتكار مقاربة تقنية دلفي.

ولم تبدا مقاربة دلفي بالانتشار إلا مع بداية عقد السبعينيات من القرن الماضي. وقد تبع كثافة الاهتمام بها توظيفها العملي على صُعد متنوعة. فبعد أن كان جل هذا التوظيف ينحصر في الإستشراف التكنولوجي بعيد المدى ولاسيما العسكري، الا انه أمتد عبر الزمان الى مواضيع أخرى كالمعطيات الإنسانية و/أو الإجتماعية الداخلية، كذلك شتى العلوم، بل أن مقاربة تقنية دلفي صارت تُستخدم حتى من قبل طلبة الدراسات العليا: الماجستير والدكتوراه، في اعداد رسائلهم او اطروحاتهم الاكاديمية.

كذلك لم يًعد الاخذ بمقاربة تقنية دلفي مقتصرا على المؤسسات الرسمية. فمؤسسات غير رسمية كالجامعات ومراكز البحث والمؤسسات المالية والتجارية، والمنظمات غير الحكومية…الخ اضحت تاخذ بها أيضا.

ان الانتشار الواسع لهذه المقاربة ادى الى الغاء احتكار توظيفها أمريكيا وأوربيا كما كان هو الحال ابتداء. فإستخدامها صار محط اهتمام عالمي مكثف أيضا. ففي اليابان، مثلا تُعد أحد أبرز المقاربات المستخدمة لإستشراف مشاهد المستقبل. وفي الهند تعود تجربة توظيفها الواسع الى عقد السبعينيات من القرن الماضي.

تتأسس مقاربة تقنية دلفي على افتراض مفاده ان تكرار التفاعل الهيكلي وغير المباشر بين مجموعة محددة ومختارة بدقة من الخبراء الذين يّصار الى اخفاء هوية كل منهم عن سواه تأمينا للسرية والحيادية للحيلولة كذلك دون تأثرهم نفسيا ببعض، هو الذي يفضي الى استشراف موضوعي يحظى بإتفاق أغلبية أراء الخبراء في الاقل على المشاهد الممكنة و/او المحتملة و/أو المرغوب فيها لمستقبل موضوع الاهتمام. ومرد التركيز على مثل هذا التفاعل غير المباشر قناعة مفادها أن حصيلة الرأي الجماعي الناجم عنه تكون بالضرورة أكثر دقة وموضوعية من الرأي الفردي و/أو من التفاعلات المباشرة.

ولان الغاية المنشودة من مقاربة دلفي تكمن في إستشراف المشاهد البديلة لمستقبل موضوع الإهتمام، فأنها لا تندرج ضمن مقاربات التنبوء الجازم، كما يرى ذلك مثلا رحيم الساعدي قائلا: »…يُعد اسلوب دلفي من أفضل الإساليب المستخدمة للتنبوء في مجال العلوم غير الدقيقة«.

وتتعدد صيغ استخدام مقاربة دلفي في الوقت الراهن. أن تعددية صيغ توظيف هذه المقاربة لا تلغي ان الهيكلية الاصلية التي اقترنت بها هي الاكثر استخداما وبالتالي انتشارا.

تنطلق مقاربة دلفي من آلية تأخذ بإجرات شكلية ومنهجية تنفرد بها عن سواها من المقاربات المستخدمة في دراسات المستقبلات.

فأما عن الإجراءات الشكلية، فهي تكمن في قيام الجهة الراعية للإستشراف، سواء كانت رسمية عامة أو غير رسمية خاصة، بالآتي:

أولا. تحديد موضوع الإستشراف، ومداه الزماني )المستقبل القريب أو المتوسط(.

ثانيا، إختيار فريق العمل من مستقبليين محترفين بعد إخضاعهم لمعايير موضوعية لتقويم مستوى خبراتهم، ومن ثم إختيار عدد محدود من بين أفضلهم.

ويتكرر القول: أن المفاضلة بين الخبراء المستقبليين تُعد أحد أهم خطوات مقاربة دلفي، سيما وأن نوعية مخرجاتها تحدد على وفق مدى كفاءة هولاء الخبراء وكيفية إنجازهم لمهام عدة، ولاسيما:

  1. القيام بترشيح عدد من الباحثين أصحاب الإختصاص في موضوع الإستشراف، أوفي بعض جوانبه، ومن خلفيات علمية متعددة للمشاركة في عملية الإستشراف.
  2. الإشراف على تنفيذ مجمل الإجراءات المنهجية التي تتبناها مقاربة دلفي.
  3. إعداد التقرير النهائي عن مجمل عملية الإستشراف بعد الإنتهاء منها.
  4. الإشراف على الإجراءات التنفيذية اللاحقة.

وأما عن الإجراءات المنهجية، التي تعبر محصلتها عن آلية نتفرد بها مقاربة دلفي، فقوامها تكرار عملية التفاعل الهيكلي غير المباشر بين مجموعة الخبراء وعلى وفق جولات متعددة ومتعاقبة زمانا ومتجددة مضمونا ولغاية محددة تكمن في تأمين إجماع كافة أو اغلب الخبراء على رؤية محددة بشأن المشاهد البديلة لموضوع الإستشراف..

وتكمن هذه الإجراءات في الآتي:

اولا إجراء إستطلاع، أولي ومفتوح، لافكار وتصورات الخبراء بشأن مستقبلات موضوع الاهتمام، ومن ثم ترتيب مخرجات هذا الاستطلاع على شكل قائمة تمهد لإعداد استبانة مفتوحة قد تكون إستقرائية أو إستنتاجية، لإستطلاع الراى تتضمن اسئلة محددة ذات صياغات دقيقة لغويا وواضحة مضمونا لها علاقة بمجمل أبعاد مستقبل موضوع الاهتمام، فضلا عن وضع خيارات للاجابة على هذه الاسئلة، وتحديد درجة الموافقة عليها )كموافق جدا، او موافق، او محايد(.

ثانيا، توزيع هذه الإستبانة على الخبراء عبر ادوات الإتصال المتاحة، دون الاشهار عن الاسماء تأمينا للسرية، للتعرف على رؤاهم الاولية بشأن التساؤلات التي تتضمنها، ويرفق بها رسالة تشرح الغاية المنشودة جراء توظيف مقاربة تقنية دلفي، وتتضمن كذلك تحديد الفترة الضرورية للاجابة. وهذه هي الجولة الاولى.

ثالثا، بعد استلام ردود الخبراء على اسئلة الاستبانة الاولى، يُصار الى تلخيص مضامينها احصائيا وتوزيعها على حقول لتحديد مستوى الاتفاق بين الخبراء او اختلافهم. وبعد ذلك يصار الى اعداد استبانة ثانية، ولكن مغلقة اكثر تركيزا من سابقتها، وارسالها الى الخبراء مرفقة بإجابة كل منهم على اسئلة استبانة الجولة الاولى.

 وبهذا الإجراء يراد اتاحة الفرصة لكل خبير للإطلاع على آراء سواه، ولاسيما اصحاب الاختصاص في غير اختصاصه الدقيق، وكذلك الإستفادة من المعلومات المكتسبة جراء ذلك. هذا أما لدفع كل خبير الى اعادة النظر في رأيه السابق على نحوٍ آخر جديد، او اعادة تأكيده مرة اخرى. وهذه هي الجولة الثانية.

رابعا بعد استلام ردود الخبراء على اسئلة استبانة الجولة الثانية، يتم تحليل وتقيم فحواها أحصائيا لتحديد مدى الاتفاق بين الخبراء. وفي ضوء حصيلة ذلك يصار الى اعداد استبانة جديدة ومغلقة تتضمن اسئلة ذات مضامين أكثر تحديدا عن موضوع الاهتمام، وثم ارسالها الى الخبراء للتعرف على رؤاهم النهائية في شأن المشاهد البديلة لمستقبل موضوع الاهتمام. وهذه هي الجولة الثالثة.

خامسا في حالة استمرار الإختلاف بين الخبراء يتم الاخذ وعلى وفق ما جاء في ثالثا اعلاه، بجولة او جولات اخرى حتى يضحى ممكننا الوصول الى راي يحظى بموافقة اغلب الخبراء في الاقل وبنسبة لا تقل عن 68 -70 في الاقل. وعند الوصول الى مثل هذا الراي يكون الهدف جراء توظيف مقاربة تقنية دلفي قد تحقق، علما ان هذه الموافقة قد تتحقق بعد بضعة جولات او اكثر. وكلما زاد عدد هذه الجولات، زادت واياها دقة مخرجات تقنية دلفي ودرجة مصداقيتها، سيما وان تكرار هذه الجولات يتيح للخبراء فرصة لإعادة النظر في تقديراتهم اكثر من مرة وعلى نحوٍ يتماهى مع المعرفة المكتسبة جراء تبادل المعلومات بين الخبراء.

وبصدد مجمل هذه الاجراءات المنهجية، نتفق مع الرأي القائل: إن مقاربة دلفي تعبر عن نمط من التفكير يستوي والتفكير الديالكتيكي لهيجل، أي أن الصراع بين رؤية محددة، وبين رؤية أخرى مضادة، يفضي إلى تركيب رؤية ابداعية ثالثة.

وجراء اجراءاتها المنهجية اعلاه تباينت الآراء في شأن الفائدة العملية لهذه المقاربة. فمن ناحية ذهبت آراء الى تأكيد جدواها العملية وقالت بإيجابياتها . وأما من الناحيه الثانية عمدت آر اء أخرى إلى التشكيك بها. وغني عن القول أن هذه المقاربة كسواها تقترن بإيجابيات ولا تخلو من السلبيات.

فأما عن الايجابيات، التي تميزها عن سواها من مقاربات إستشراف المستقبلات فهي كالآتي مثلا :

أولا امكانية استخدامها إستكشافيا/ استقرائيا لإستشراف مشاهد المستقبلات الممكنة والمحتملة او استهدافيا / معياريا لإستشراف المشهد المرغوب فيه مستقبلا او توظيفها إستكشافيا ومعياريا معا.وهي بهذا وكما يؤكد المستقبلي الأمريكي، بريخر تستوي»… والمقاربة التي يلجأ اليها الافراد عندما تكون حاجتهم لإستشراف المستقبل حاجة عالية«.

ثانيا إنها، وجراء خاصيتها في إخفاء اسماء الخبراء بعضهم عن البعض الاخر تفضي إلى احتواء السلبيات الناجمة عن عمليات التفاعل الهيكلي المباشر بين الخبراء ولاسيما التأثير النفسي المباشر وغير المباشرالذي يتمتع به بعض هولاء الخبراء، ولأسباب مختلفة، في سواهم. وبهذا تتيح مقاربة تقنية دلفي بناء بيئة تُشجع على التفكير المستقل والحر وإعادة صياغة الرأي على نحوٍ يتماهى والمعارف المكتسبة جراء خاصية تبادل المعلومات والإستدلال بين الخبراء التي تتميز به هذه المقاربة.

ثالثا، قدرتها على الجمع، وبتكلفة رخيصة، بين اعداد من الخبراء حتى وان كانوا في اماكن متباعدة جغرافيا عن بعض، عبر توظيف شتى أدوات الإتصال المتاحة. وبهذا تتميز بقدرتها على تأمين تبادل المعلومات بين الخبراء بسرعة نسبية، ومن ثم بلورة حالة من التفكير الجمعي الإنساني المبدع. وهذه الخاصية هي التي تجعل هذه المقاربة مختلفة عن سواها التقليدية التي تتطلب عادة حضور اهل الإختصاص في مكان محدد.

رابعا، إن مخرجات الإجراءات المنهجية المتكررة لمقاربة دلفي تلغي مضمون ذلك الإفتراض التقليدي الذي يؤكد على أن الإتجاه التاريخي الممتد لمسار تطور أحد المواضيع هو الذي يحدد مستقبله اللاحق، هذا فضلا عن أن هذا التكرار المدعوم احصائيا لاستبانات إستطلاع الرأي ينطوي على دعم مضاف لمصداقية هذه المقاربة.

خامسا ان مقاربة دلفي تعد الأكثر ملائمة للبحث في تلك المواضيع التي لا تتوافر عنها في الحاضر معلومات كافية، و/او انتفاء مقاربة اخرى للبحث فيها. ومن هنا تمت تسميتها بمقاربة الملاذ الاخير. وإلى هذا المعنى، يذهب المستقبلي الأمريكي، ريخر مؤكدا على إنها المقاربة، التي يتم اللجوء إليها عندما تكون الحاجة لاستشراف المستقبيل حاجة عالية.

سابعا ان سهولة تطبيق اجراءاتها المنهجية يتيح امكانية توظيفها على شتى الصعد هذا فضلا عن امكانية استعانة مقاربات اخرى بإجراءات مقاربة تقنية دلفي دعما لمصداقية مخرجاتها . ومثال ذلك استعانة مقاربات بناء المشاهد، والنماذج العالمية، بها.

وعلى الرغم من الإيجابيات التي تقترن بها مقاربة دلفي، إلا أنها لا تلغي سلبياتها. ومثالها الاتي:

أولا ان انجازها قد يحتاج الى زمان طويل نسبيا، خصوصا عندما تتعدد جولات إستطلاع الرأي، وهو الامر الذي قد يٌفضي، متفاعلا مع اسباب اخرى تتعلق بالخبراء أنفسهم، الى صعوبة الإبقاء على اهتمامهم بذات الفاعلية والحماس مما قد يؤدي الى تآكل استعدادهم للإلتزام بديمومة مشاركتهم فيها بل وربما حتى الإنسحاب منها.

ثانيا، إمكانية إستخدامها على نحوٍ غير دقيق وعلى صعيدين: فأما عن الاول، فهو يكمن في إحتمال عدم مهارة إعداد استبانات استطلاع الراي، التي تشكل أساس هذه المقاربة، الأمر الذي يجعل الاسئلة التي تتضمنها هذه الإستبانات أما على علاقة غيروطيدة بموضوع الإستشراف او تنطوي على قدر من الغموض او التحيز .

وأما عن الصعيد الثاني فهو يرتبط باحتمالية أما نقص المعرفة بإجراءات مقاربة دلفي، و/ أوعدم موضوعية بعض الخبراء، و/او عدم ادراكهم للترابط بين المتغيرات ذات التأثير في موضوع الاهتمام، و/او عدم متابعتهم لتطوراته وبمخرجات تؤدي إلى مقاربة تتماهى مع هذا الخلل أيضا.

ثالثا، احتمال ذهاب فريق العمل الى التغاضي عن الروئ »المتطرفة« لصالح صيغة منتصف الطريق لضمان الوصول الى اتفاق بشأن المشاهد البديلة لمستقبل موضوع الاهتمام. وغني عن القول أن هذه الصيغة تفضي الى التغاضي عن مشاهد أخرى قد تكون اكثر اهمية من تلك التي تم الإتفاق عليها.

*استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات