من ذاكرة السينما-كارمن اللاهبة واللاهية

 من الاوبرا الى المسرح والسينما على مرّ الحقب

ملبورن ــ جاد الحاج

قلما شهدت السينما  أفلاماً بالجملة مستوحاة من قصة  واحدة كما هي الحال  مع اوبرا  »كارمن« المستوحاة من رواية قصيرة   نشرها  الفرنسي ـروسـير ميريمه سنة 1845 واقتبسها للمسرح الأوبرالي مواطنه جورج بيزيه  بعد ثلاثين سنة.  الا ان الجمهور الباريسي آنذاك وجدها هجينة وغير اخلاقية. مع ذلك تعددت  عروض  »كارمن« وتنوعت على مرّ السنين والحقب، فما مضى موسم  ثقافي في اوروبا واميركا من دون  الأندلسية اللاهبة  واللاهية في آن معاً. واللافت في احداث سنة 1983 مثلاً ان المخرج البريطاني الكبير بيتر بروك بدأ يعرض على مسرح  »بوف دي نور« اوبرا ’مأساة كارمن‘ في موازاة  عرضين  سينمائيين للحكاية نفسها على شاشة مهرجان كانّ! واتسمت كارمن بروك بالمنحى التجريبي الاختباري حيث اختار المخرج اربعة افراد فقط من النص الاصلي للأوبرا ودعمهم بخمس وعشرين

غاديس وديل سول في اوبرا كارمن

منشداً ومنشدة من المدربين على الأداء الاوبرالي. لكن، وعلى رغم الإقبال الكبير على كارمن بروك، صوّر المخرج عمله في ثلاثة مقاطع، ثم دمجها وقدمها على خشبات الولايات المتحدة بنجاح ملحوظ.

  موسيقى بيزيه  التي مزجت   بين الفولكلور الأندلسي والشأو الاوبرالي والطاقة الميلودرامية شكلت  رافعاً قوياً للإقبال الشعبي على  »كارمن« منذ بدايات   الفن السابع.

عام 1915 ظهرت الغجرية الاندلسية على الشاشة الصامتة  بصوت السوبرانو الاميركية جرالدين فرّار : تجربة لا مثيل لها في مطلع السينما الصامتة حيث يأتي الصوت من جهاز مستقل ليتماهى مع الصورة المتحركة. وسنة   1946 لعبت الممثلة الفرنسية فيفيان رومانس  دور كارمن  في شريط بالابيض والأسود لم يكتب له الرواج المتوقع خارج فرنسا.  ثم تلقفت الدور الاميركية الشهيرة ريتا هيوارث سنة 1954  وسنة 1968 اقتبس الحكاية رادلي متزغرز عبر موسيقى  »روك« معاصرة ونوطات بيزيه! بعد ذلك

 ثم سنة 1983 اقتبس الإسباني كارلوس ساورا والإيطالي فرنشيسكو روزي  شريطين عن قصة  كارمن باعتبارها  اكثر الأوـرات واقعية وتعبيراً عن المزاج الأندلسي الحار.  القاسم المشترك بين الفيلمين أن أنطونيو غاديس، طليعة مصممي الرقص في إسبانيا، وضع الكوريغرافيا للشريطين. وهو يقوم أيضاً  بدور دون خوسيه في شريط كارلوس ساورا.

دون خوسيه واحد من الضباط الإسبانيين الذين خدموا في معسكر مدينة إشبيلية عاصمة صناعة التبغ والتنباك في اسبانيا. امام مدخل الثكنة تقع عيناه على  غجرية رائعة الجمال. شرسة. هجومية. وردة حمراء في شعرها. وفي عينيها ألف نداء.  كانت تماشي رفيقاتها العاملات في مصنع السجائر حين اصابه منها سهم كيوبيد. لكن خوسيه المرتبط بأمه وحبيبته ميكاليا والمعتبر أحد أبرز الجنود المرموقين والمخلصين لم يعد يعرف كيف يصرف النظر عنها. بسرعةمدهشة تدهورت قناعاته الثابتة   ووقع في حبّ كارمن مثلما وقعت هي ايضاً في حبه.  وما هي سوى اسابيع قليلة حتى أقنعته بالفرار من الجندية والانضمام إلى عصابة من قطاع الطرق. ثم  ما لبثت أن خانته مع مصارع الثيران إسكاميليو. مجروح الكرامة  كاد دون خوسيه أن يُجنّ،  ويرجوها أن تعود إليه لكنها ترفض، فيطعنها على طرف الحلبة إثر سقوط الثور بسيف حبيبها

كارمن بيتر بروك

الجديد.

تلك هي القصة بحسب اقتباس بيزيه، الا ان ميريميه كتبها حكاية مبنية على حقائق اندلسية خلال بحثه في لغة الغجر وتقاليدهم. نعم، كانت كارمن الواقعية غجرية ’على حلّ شعرها‘ كقول المثل، لكن خوسيه لم يكن ذلك الضابط المنضبط النبيل، فهو ايضاً مغامر، أرعن احياناً، شديد الغيرة، يتورط بسهولة مع عصابات الغجر والفارين من وجه العدالة.  بيزيه  ازال تلك الشوائب عن شخصية دون خوسيه  تماشياً مع متطلبات اللعبة الاوبرالية التي تقضي بفصل الشر عن الخير في الشخصيات الرئيسية  فصلاً كاملاً مما يشد عصب الحكاية المغناة.

يقول فرنشيسكو روزي إن اثر كارمن في الحياة الإسبانية   صورة طبق الأصل عن إسبانيا   بشوارعها وساحاتها وبيوتها وثكنات جنودها  ومصانع التبغ في جنوبها الساخن. طبعاً تغيّرت المظاهر الخارجية بفعل النهوض الصناعي، لكن الجوهر لم يتغير، ويضيف روزي:’لقد أدخلنا الغناء والحوار والرقص والموسيقى إلى كارمن السينمائية  لأنها عناصر أساسية في حياة الغجر الأندلسيين‘.

وتفتتح كارمن مشهدها الاول ’بالعصفور المتمرد‘ إحدى اشهر الالحان الاوبرالية  على الاطلاق:

الحب عصفور متمرد

لا يمكنك ترويضه

عبثاً تراك تناديه

وإن لم يكن مصغياً

لا التهديد ولا التوسل ينفعاك.

واحدكما يتوسل

والاخر صامت

وانا افضل الصامت

ولو لم يقل شيئاً

لكنه يعجني!

 الحب طفل جوًال

ما عرف القوانين يوماً

انه العصفور

الذي حلمته في قبضتك

لكنه رفرف وطار.

إن ما احببتني

انا ساحبك وإن احببتني

انتبه الى نفسك جيداً!

أما فيلم كارمن لكارلوس ساورا فقائم أساساً وبصورة شبه كاملة على الفلامنكو. يقول ساورا: ’عندما كنت صغيراً كان لاسم كارمن وقعه الخاص عليّ. لا أعرف بالضبط لماذا بل كلما سمعته كنت اتخيّل  امرأة أندلسية جميلة، فاحمة الشعر، مكتنزة الشفتين، مكحّلة الجفنين كعينيّ غزال. وحين كنت أذكر اسمها في المدرسة كانت بالنسبة إليّ نموذج الفتاة المتحرّرة الجميلة. لكنها االيوم  امرأة ، وأصبحت رمزاً عالمياً للإغراء والإغواء والخيانة.‘

   صمّم رقصات  لكارمن ساورا، انطونيو غاديس، وأنتجها إيميليانو ـيادرا.   لكن غاديس لم  يصمّم الرقصات وحسب بل  قام بأدائها كما حصل سابقاً لدى تقديم ’عرس الدم‘ لغارثيا لوركا حيث جرى استبدال  الحوار بالرقص والموسيقى. ويقول غاديس: ’أمضينا شهوراً نبحث عن أسلوب مناسب يصهر الموسيقى والرقص والقصة بالرغبة الجامحة التي تقود الأبطال إلى تدمير أنفسهم. من غير المجدي أن نفتعل أحداث القصة فقوّة تلك الأحداث كما هي كفيلة بخلق عالم وخطٍ دراميين رائعين. إنها

كارمن وفلامنكو

قصة هوس وحب فاجع . . . أبدي‘.

استطاع ساورا تحويل الأوـرا إلى حياة معاشة من خلال مزج الرمز بالواقع ضمن ثنائية بالغة الدقة. صحيح أنه يوقعنا في ارتباك  سحري بين الفترة والأخرى، خصوصاً عندما يتجوّل غاديس بإصرار وعزم على معاهد الرقص تفتيشاً عن الممثلة المناسبة لدور كارمن، الى ان يجدها ويخرجها من السياق التجاريّ السياحيّ، ويضعها ضمن ازدواجية الباليه الكلاسيكيّ والفلامنكو وصولاً إلى الجنون التعبيريّ الحارق والدمويّ. صحيح ان ساورا حاز جائزة  »الابداع المميز« في مهرجان كانّ  على شريطه المميز بحق، الا ان النقاد لاحظوا اجمعوا على ان غاديس تميز كراقص ومصمم للرقص في فيلم ساورا لكنه لم يستطع إيفاء دور دون  خوسيه حقه كممثل، وبالتالي لم تكن الممثلة الراقصة التي اختارها لدور كارمن، لورا ديل سول، بأفضل حال منه كممثلة، ولا حتى كراقصة تعبيرية. ولعل القول الفصل بالنسبة الى تلك الفجوة أن فيلم ساورا ما زال جتى اليوم أفضل الاعمال الفنية المقتبسة من اوبرا كارمن بإجماع المؤرخين.

العدد 104 – أيار 2020