مهرجانات السينما.. غاياتها وأدواتها

اختلاف الرؤى والمناهج يحدد نوعية العروض والتكريم

أمين الغفاري

السينما أوسع الفنون انتشارا، وأكثرها قربا لقلوب الجماهير، انها المتعة في المشاهدة، وقوة التأثير في المتابعة، نبتسم ان لم نضحك ونبتهج في قوالبها الكوميدية، وندمع ان لم نكن نبك ونأسى في فصولها الدرامية السينما تمثل راحة الذهن من ضنك العمل، ورفقة الأصدقاء في أيام الراحة والعطلات. لذلك يحظى نجومها خصوصا والعاملون في فلكها عموما بجماهيرية واسعة وحب صادق بين مختلف الأعمار، وخصوصا الشباب بطموحاتهم وتطلعاتهم المتجددة، ولكن للسينما كذلك شروط للنجاح، وهي أولا وأخيرا وجود الموهبة الحقيقية، ثم الدراسة للصقل والاجادة. نجحت السينما في تقديم نجوم كبار للشاشة، ونجح النجوم بدورهم في تقديم أعمال كبار تبقى مع الزمن، ولذلك عمدت بعض المؤسسات إلى اقامة المهرجانات الفنية، لتقديم الأعمال المتميزة التي لمست جوانب إنسانية رفيعة أو تقديم موضوعات ذات قيمة، أو شخصيات تركت أثرا في حياة البشر، وتعدد ت في ذلك الأطار الأعمال اللافتة للنظر، والجديرة باعطائها جوائز، تدخل في اطار التقدير المعنوي، أكثر منها التقدير المادي. ولايختلف أحد حول التعريف الجامع للسينما أنها (فن وعلم وصناعة وتجارة)، فالفن موهبة في الأساس ولكن الموهبة أيضا في حاجة إلى ترشيد وتدريب ودراسة حتى تصقل، وتتفتح، وتكشف عن مخزونها الأعمق في القدرة على الأداء الأمثل، والتعبير الصادق، أي انها في حاجة للعلم حتى تقدم فنا قادرا على التأثير، ومن ثم على الأمتاع. ولأن السينما لابد ان تقدم ضمن شروط مستوفاة من حيث الاعداد للقصة الجيدة، والتنفيذ الدقيق لتطور وتسلسل الأحداث، في اطارمن الصورة المبهرة،

الكاتب والسيناريست محمد حفظي
رئيس مهرجان القاهرة السينمائي الدولي

والصوت الواضح، فعليها أيضا ان تكون في اطار صناعة راسخة تضمن الجودة في تكامل العمل من حيث عناصره الأساسية، مهنية التمثيل، وقوة الموضوع، وجودة الاخراج، وحرفية التصوير، وكلها عناصر لابد ان تستند إلى طاقة متوازنة في العملية الأنتاجية، حتى تتمكن في النهاية من اكتساب سوق موسع للتوزيع، وهنا تأتي أهميتها كعنصر تجاري، يحقق دورة رأس المال في انتاج أعمال أخرى تتوالى مع تسجيل نجاحات واعدة وايرادات تدفع للاستمرار. تأتي بعد ذلك تباعا وظيفة الاعلام أو بمعنى آخر الاعلان. نتذكر أنه في احد المؤتمرات التي عقدت في فترة الستينات من أجل الترويج وبالتالي التسويق للأفلام المصرية، أن وقف الفنان الراحل (رشدي أباظة) وقال تعبيرا، كان مثارا للسخرية الشديدة لاحقته زمنا (ان السينما همبكه) وهو تعبير يقع ضمن (افيهات) الفنان الراحل أيضا (توفيق الدقن)، ثم شرح وجهة نظره، في أننا في متابعتنا لأخبار النجوم في الخارج رأينا احد كبار الفنانين فرانك سيناترا في (هوليوود) يأتي إلى أحد المؤتمرات وسط موكب كبير من راكبي الدراجات البخارية تحيط به من كل جانب، بشكل يلفت النظر، ويمكن معه تأكيد مكانة الفنان ومدى نجوميته، وفي حادثة أخرى قديمة قرأت عنها أن الفنان (بوب هوب) كان قادما من رحلة خارجية، وذهب عدد كبير من جمهوره للقائه في الوقت الذي هبطت فيه طائرة الرئيس الأمريكي ترومان، وكان الفارق في الاستقبال ملحوظا، ولذلك قال ترومان (يبقى أن الفنان هو الأحب للجماهير من السياسي حتى لو كان رئيسا). ولذلك اقول ان الفن (همبكه) وضحك جمهورالحاضرين، وتدخل رئيس المؤتمر، وقال (يا أخ رشدي حضرنا للبحث في قواعد الفن وما يخدمه من اعلام، وليس ما يدبر له من همبكه). كان من الطبيعي، وقد قطعت السينما المصرية شوطا طويلا في صناعة السينما منذ ان نشأت على ايدي رواد كبار مثل يوسف وهبي وعزيزة أمير وبهيجة حافظ ومحمد كريم، وكذلك آسيا داغر وإبراهيم وبدر لاما وغيرهم الذين اقتحموا هذا المجال من الفنون، وقدموا أعمالا لافتة سواء في اطار السينما الصامتة أو الناطقة. أقول كان من الطبيعي ان تفكر في اقامة المهرجانات الفنية السينمائية لما تقدمه أولا لدعم التعارف بين اقطاب تلك الصناعة ذات الطابع الفني، من ممثلين ومخرجين وكتاب سيناريو وإلى باقي مفردات ذلك الفن ذو الجماهيرية الكاسحة، ثم ما يترتب على ذلك التعارف من تعاون أو اطلالة على خبرات متميزة، ثم الزخم الاعلامي لتلك المهرجانات وما ييسره من خدمات من اتساع دائرة التوزيع للأفلام التي نالت جوائز، وابطالها المرموقين، وعلى الصعيد الوطني فانها تساهم في تنشيط السياحة. لكن السؤال هل هذا الزخم والتسابق لعمل هذه المهرجانات الذي نراه الآن في اقامة المهرجانات السينمائية، معني حقيقة بقضايا السينما ومشاكلها، ومحاولة النهوض بها، وتيسير حركتها بما يحقق رسالتها نحو خدمة المجتمع، أم ان بعضها اختصر، واصبح مجرد عرض دعائي اعلامي، يجري في اطار ضيق لتحقيق بعض المصالح الخاصة؟.

مهرجان القاهرة السينمائي

هو أكثر المهرجانات السينمائية شهرة وأجدرها بالمكانة المتميزة، والدراسة الجادة لأعماله، وتعود فكرة انشاء ذلك المهرجان إلى الكاتب الصحفي، والناقد الفني، وأيضا عالم الآثار (كمال الملاخ) الذي يرجع إليه الفضل أيضا في اكتشاف (مراكب الشمس) 1954 بعد ان ظلت في باطن الأرض زهاء خمسة آلاف عاما، وهي من آثار الملك (خوفو) وتعرض الآن في متحف ملحق بمنطقة أهرامات الجيزة، كما أنه أسس كذلك (الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما) 1973، وعنها أسس (مهرجان القاهرة السينمائي) 1976، ويعد ذلك المهرجان أول مهرجان سينمائي دولي يعقد في العالم العربي. استمر كمال الملاخ في رئاسته لذلك المهرجان، ونجح في ممارسته للرئاسة لمدة سبع سنوات حتى 1983، حين لاحظت وزارة الثقافة بوادر تعثر في انطلاقاته، 1985 بادرت بتشكيل لجنة مشتركة من الوزارة واتحاد نقابات الفنانين للأشراف على هذا المهرجان، وتيسير سبل استمراريته، وعهدت إلى الكاتب المسرحي سعد الدين وهبه بالأشراف على هذا المهرجان، ووفرت له الكثير من العوامل التي تكفل له المواصلة على نطاق أوسع وأكبر. تحقق ذلك بالفعل وانطلق المهرجان ليحقق نجاحا، كان من شأنه أن أورد تقرير الاتحاد الدولي لجمعيات المنتجين السينمائيين 1990(ان هذا المهرجان يقع ضمن أهم ثلاثة مهرجانات للعواصم، وجاء مهرجان القاهرة السينمائي في المركز الثاني بعد مهرجان لندن السينمائي، في الوقت الذي جاء فيه مهرجان ستوكهولم السينمائي في الترتيب الثالث.

رحل سعد الدين وهبه عام 1997، وجاء الفنان حسين فهمي ليتقلد رئاسة المهرجان بتكليف من وزير الثقافة (فاروق حسني)، واستمر في رئاسته لأربع سنوات، حاول فيها ان يضع تقاليد جديدة، منها ارتداء (الأسموكن) في حفلات الأفتتاح والختام، ولكنه لم يستمر، نظرا لحاجته لمزيد من التطوير في أداء المهرجان، ولعدم توفر ذلك أثر الاستقالة، ثم جاء بعده الكاتب بالأهرام شريف الشوباشي، ونظرا لكونه كان مديرا لجريدة الأهرام في باريس، فقد حاول ان

السينارست الروائي وحيد حامد
جائزة الهرم الذهبي ـ مهرجان القاهرة السينمائي 42

يطور تجربته من خلال الانفتاح أكثر على التجارب الفنية الفرنسية، وان كان محصولها طفيفا فغادر بعد أربع سنوات ليأتي الفنان عزت ابوعوف، ويقوم بتنصيب الفنان (عمر الشريف) رئيسا فخريا للمهرجان، ليكسبه بذلك بعدا عالميا أكثر، مما كان عليه وبعد سبع سنوات في رئاسة المهرجان، جاءت الناقدة المصرية المقيمة في باريس (ماجده واصف)، والآن يرأسه الكاتب والمنتج السينمائي محمد حفظي. ولكون هذا المهرجان هو الأرسخ والأكثر شهرة فقد تحددت له قواعد في المسابقات التي يجريها منها في اطار المسابقة الرسمية الدولية لابد أن يعرض الفيلم بلغته الأصلية مع ترجمة باللغة الانجليزية، ويتضمن وجود نسخة ومواد دعاية الفيلم لدى لجنة الاختيار قبل شهر الانعقاد، وأن يحق لكل دولة الاشتراك بأكثر من فيلم روائي طويل.

وللمكانة المتميزة دوليا للمهرجان فلقد كان من النجوم الذين تم تكريمهم من الأجانب تلك الأسماء اللامعة ومنها بيترأوتول ـ جينا لولو بريجيدا ـ صوفيا لورين ـ ايرين باباس ـ كلوديا كاردينال ـ صامويل جاكسن ـ كاترين دونوف ـ عمر الشريف ـ آلان ديلون ـ جون مالكوفيتش. من المخرجي: ايليا كازان ـ مصطفى العقاد ـ اوليفر ستون وغيرهم.

المهرجانات السينمائية في العالم العربي

يقول الفنان السوري الكبير (دريد لحام) ان السينما كصناعة في العالم العربي لا توجد سوى في مصر، ولها أكثر من مائة عام، ولكنها توجد في بقية العالم العربي (كمحاولات)، وتبعا لتلك المقولة فان المهرجانات في العواصم العربية، وان كانت موجودة، إلا انها غير متوالية سنويا، ولكن هناك مهرجانا شهيرا في تونس (مهرجان قرطاج) وان كان ذا طابع موسيقي غنائي قبل ان يشمل السينما والمسرح، ويعد ذلك المهرجان بطابعه الغنائي الموسيقي أقدم المهرجانات

الفنانة المتألقة منى زكي
جائزة فاتن حمامة للتميز دورة المهرجان 42

العربية فقد تأسس عام 1964، وبذلك يعد الأعرق، وقد وقف على مسرح قرطاج اسماء ذات شهرة واسعة ورنين اخاذ ومنهم ام كلثوم وفيروز وعبدالحليم حافظ ووردة الجزائرية وداليدا وغيرهم من اساطين الفن.

لكن على المستوى العربي العام، اقيمت مهرجانات في أكثر من عاصمة عربية، وبل وعلى خشبة المسرح في مدن عربية اقيمت مهرجانات عدة، وتم تكريم نجوم عربية واجنبية، ولكنها لم تكتسب ذيوع مهرجان القاهرة السينمائي، لما اكتسبه من شهرة عالمية.

افتتاح المهرجان هذا العام

تنطلق اعمال المهرجان هذا العام من خلال دورته 42 بالفيلم البريطاني الفرنسي (الأب) اخراج فلوريان زيلر، وذلك في عرضه الأول بالعالم العربي وافريقيا، ويشارك في بطولة هذا الفيلم الممثل الكبير (أنتوني هوبكنز) الحاصل على مجموعة من الجوائز العالمية منها الأوسكار والبافتا والممثلة البريطانية أوليفيا كولمان، وهي حاصلة أيضا على جائزة الأوسكار. الأفلام المتنافسة على الجوائز تبلغ خمسة عشر فيلما. يكرم المهرجان الكاتب والسيناريست البريطاني كريستوفر هامبتون، بجائزة  »الهرم الذهبى التقديرية« لإنجاز العمر، وذلك تقديرا لمسيرته المهنية الممتدة، التي استحق عنها الحصول على جائزة الأوسكار، والبافتا، بالإضافة إلى ترشحه لجولدن جلوب. ويعد  »هامبتون« ثالث تكريمات هذه الدورة للمهرجان، حيث أعلن المهرجان أيضا عن تكريم الكاتب والسيناريست المصري الكبير وحيد حامد بجائزة  »الهرم الذهبى التقديرية« لإنجاز العمر، كما يكرم المهرجان أيضا النجمة

الكاتب والسينارسيت البريطاني  كريستوفر هامبتون
جائزة الهرم الذهبي  مهرجان القاهرة السينمائي 42

المصرية منى زكي بجائزة (فاتن حمامة) للتميز. كريستوفر هامبتون، كاتب مسرحي وسيناريست، تنقلت عائلته في صغره بين عدة بلدان منها مصر في مدينة الإسكندرية، قبل أن تستقر في إنجلترا. بدأ اهتمام  »هامبتون« بالمسرح أثناء دراسته في جامعة أوكسفورد قبل أن ينقل خبرته الأدبية للسينما بداية من سبعينيات القرن الماضي، واقتبس أشهر أعماله للسينما من نصوص أدبية ومسرحية بشكل خاص نظرا لخلفيته في الكتابة المسرحية. في المسابقة الدولية أيضاً يشارك أحد أبرز الأفلام العربية هذا العام؛  »غزة مونامور« من إنتاج فلسطين وفرنسا وألمانيا والبرتغال، وإخراج الأخوين عرب وطرزان ناصر، والذي كان عرضه الأول في مسابقة  »آفاق« في مهرجان فينيسيا، قبل أن يحصل على جائزة NETPAC كأفضل فيلم آسيوي في مهرجان تورونتو.

ينبغي الأشارة أيضا إلى ان المهرجان منذ بدايته، حرص بالكامل على عدم خوضه في المعارك السياسية، وانه يخضع فقط للمعايير الفنية، ويفرض حصارا على نهجه القومي العربي، والتزامه بالموقف الجماهيري بالنسبة لقضايا امته، وعدم خوضه في قضايا مثل التطبيع وغيرها مما يمس المشاعر العربية، وذلك انجاز يمكن ان يضاف إلى رصيده من انجازات.

العدد 112 / كانون الثاني 2020