نافذة على الحياة.. أطفالنا

سهير آل إبراهيم

قد تكون تربية الأطفال من أكثر المهام التي يؤديها الإنسان دقة وحساسية، ولا أبالغ إن قلت انها تبدو من أصعب المهام أحيانا. بالنسبة للبعض، وخصوصا في ما مضى من الزمان، فإن تربية الطفل كانت تعني توفير الطعام والكساء والمأوى له، إضافة الى (ترويض) ذلك الكائن الصغير الذي لا يفقه من الحياة شيئاً.

يضطر أولياء الأمور الى رفض الكثير من طلبات الأطفال في معظم الأحيان، وبالتحديد تلك الطلبات التي قد تضر بصحته وسلامته؛ فقد يبدو القفز من سطح الدار الى الحديقة عملا مسلياً ومثيرا لطفل في عامه الثالث او الرابع من العمر، خصوصا اذا كان متأثراً بالشخصيات الخيالية الخارقة التي يشاهدها من خلال شاشات التلفزيون والأجهزة الذكية. يقول ذلك الطفل لأمه أو أبيه: أريد ان أقفز من أعلى الدار مثلما يفعل سوبرمان، فيأتيه الجواب قطعا؛ إياك ان تفعل.

ينشأ الطفل في الحالات الإعتيادية تحت رعاية والديه، أو أحدهما. يقوم الوالدان عادة بتنظيم شؤون حياة الطفل والمراهق، لأنهما أكثر منه معرفة بما ينفعه ويبعد الأذى والضرر عنه. يحدد الوالدان أنواع الطعام التي يأكلها الطفل وأوقاتها، فيمنعونه من الإفراط في تناول الحلويات مثلا، أو الإستعاضة بها عن الوجبات الغذائية الرئيسيّة، يحددان للطفل الصغير موعد النوم، فيذهب الى فراشه في وقت معين من المساء كي ينام الساعات التي يحتاجها ليستيقظ مرتاحا ونشيطا في الصباح التالي، وعندما يطلب الطفل السهر مع والديه يأتيه الجواب بالرفض.و الأمثلة كثيرة على الأسباب التي تدعو الوالدين الى رفض مطالب أطفالهم او الاعتراض على رغبات أبنائهم وبناتهم في سني الطفولة والمراهقة.

قبل عقود خلت كان الحزم في تربية الأطفال أمرا مفضلا ومرغوبا في ثقافة الكثير من المجتمعات، واعتقد ان ذلك الأسلوب في التربية لا يزال سائدا لدى بعض المجتمعات او الأفراد. قد يبالغ بعض أولياء الأمور في التعامل بسلبية مع اطفالهم عن طريق رفض معظم طلباتهم وربما الاعتراض على جميع رغباتهم ومنعهم من نيل ما يطلبون او عمل ما يحبون. مما لا شك فيه انه لا يمكن إفتراض تمتع جميع أولياء الأمور بالحكمة والوعي الكافي والمطلوب لتنشأة الأطفال نشأة سليمة، كما لا يمكن استبعاد تأثير بعض المشاكل النفسية، في حالة وجودها، على أساليبهم في التعامل مع الاطفال، فلا اعتقد ان الشخص السادي او النرجسي مثلا ينجح في تربية طفل يتمتع بصحة نفسية سليمة.

الاطفال هم المستقبل، هم بناة البلد والمجتمع الذي ينشأون فيه، أو ربما يصبحون أدواتاً لتقهقر المجتمع وتخلفه. لذلك نجد المختصون في سعي دائم لإيجاد أفضل السبل لتربية الأطفال وتوعية أولياء الأمور حول ذلك. وكما هو الحال مع الصرعات الغريبة والجديدة في مختلف مجالات الحياة، هناك من يدعو، ومنذ سنوات، الى رفع جميع الحدود المتعارف عليها في تربية الاطفال. دعوة الى عدم الإعتراض على ما يفعلونه بل والسماح لهم بالقيام بكل ما يرغبون القيام به مهما بدت رغباتهم غريبة او ان قبولها غير مألوف في عالم الآباء والأمهات. ومن يبحث عن هذه الطريقة في التربية، او ما تعرف بـ (yes parenting) يجد حولها الكثير من المقالات والكتب.

تقول الانكليزية بي مارشال، التي وضعت الأسس لذلك الأسلوب في التربية، والتي تدرب الراغبين من الآباء والأمهات على تربية اطفالهم بتلك الطريقة، انها بدأت بتربية طفلها الأول بالطريقة الكلاسيكية المعروفة، وكانت تتبع معه اُسلوب الثواب والعقاب، العقاب طبعا ليس عقابا جسديا وإنما التهديد بحرمانه من مشاهدة التلفزيون مثلا، وان طلب منها شيئاً فيكون حصوله عليه بالمقايضة؛ سوف تحصل على الحلوى بعد ان ترتب فراشك! تقول اننا لا نستخدم هذا الأسلوب في تعاملنا مع الاخرين، فلماذا نستخدمه مع اطفالنا؟ تذكر ان تلك الطريقة في التربية لم تمنحها العلاقة التي كانت تطمح اليها مع طفلها؛ علاقة يسودها المرح والتقارب والسعادة، لذلك غيرت طريقتها بشكل تام واصبحت تتعامل مع اطفالها بأسلوب معاكس لما هو مألوف وسائد؛ اسلوب إجابتهم بكلمة نعم دائما!

تؤكد السيدة مارشال ان طريقتها في التربية تجعل الطفل واثقاً من نفسه، قادرًا على اتخاذ قرارات صحيحة ومنذ عمر مبكر. عندما يمتلك الطفل الحرية في ان يعمل ما يشاء فان ذلك يخلق بينه وبين والديه رابطة قوية تسودها الثقة ومشاعر الامان، والحب طبعاً.

قرر احد القضاة سحب حق حضانة الاطفال من احدى الأمهات، بسبب اهمالها لهم وعدم وضعها الحدود اللازمة في تربيتهم، والضرورية لنموهم وتطورهم نفسيا واجتماعيا. وقد علقت السيدة مارشال على ذلك ان هنالك فرق بين الإهمال وبين إعطاء الحرية الواسعة للطفل. ربما هي على حق، اذ يبدو ان الامر يحتاج فعلا الى تدريب دقيق لأجل التمييز ومعرفة الحد الفاصل بين تربية طفل حر وبين إهماله.

قبل سنوات طويلة أتت لزيارتي صديقة اجنبية ومعها طفلها الذي لم يكن آنذاك قد أكمل عامه الاول من العمر. عندما حان وقت طعامه أجلسته على الطاولة ووضعت صحن الطعام أمامه، فبدأ يأكل بكلتا يديه، وما هي الا لحظات حتى تحول وجهه وملابسه والطاولة من تحته الى لوحة سوريالية ملونة بعصير الطماطم وحبات الرز وقطع الخضار. ولم يكتف بذلك بل انه رفع الطبق بما تبقى فيه من طعام ووضعه فوق رأسه كمن يلبس قبعة! وقد استغربتُ من موقف الام حينها لانها وجدت تصرف طفلها مضحكاً ولم تنزعج من الفوضى التي احدثها ذلك الصغير حوله، فقلت لها انها حتما تتعب كثيرا في الحفاظ على نظافة وترتيب منزلها، أجابتني، ولم أنس ما قالت رغم مرور السنين. قالت عندما يكبر الاطفال لن يذكروا ان كان بيتنا نظيفا او مرتباً، لكنهم حتما سيذكرون كم كانوا سعداء فيه!

كتب فريدريك دوغلاس، الذي حرر نفسه من العبودية في القرن التاسع عشر، واصبح من أشهر الدعاة لمحاربتها، ان بناء أطفال أقوياء أسهل من إصلاح رجال محطمين، وأجده بهذه المقولة قد لخص الكثير مما يستحق التفكير والتأمل. كيف تتم تنشأة أطفال أقوياء ذهنياً ونفسياً، يتمتعون بالمميزات الشخصية التي تؤهلهم للإبحار في هذه الحياة والقوة لمجابهة أعاصيرها؟ قد لا أملك الإجابة الصحيحة او الكافية لذلك، وربما لا توجد إجابة محددة، فكل إنسان منا فريد متفرد بمجموع طباعه وخصاله، ولكن يبقى السعي متواصلا لإيجاد أفضل طرق وأساليب تربية الأطفال، يبقى الإنسان يتعلم من تجاربه الناجحة منها والفاشلة على حد سواء.