وحدة

سهير آل إبراهيم

قد لا نعرف بالضبط الدافع الاول الذي حدا بالانسان الى اختراع التقويم الزمني، أو كيف برقت الفكرة في ذهن احدهم أول مرة، قديما في اعماق التاريخ البعيدة. مهما كانت الأسباب ومهما تعددت فلا أشك ان من ضمنها هو حاجة الإنسان الى خلق بدايات جديدة؛ بداية يوم جديد أو سنة جديدة أو غيرها من البدايات الزمنية التي تشكل في اللحظة ذاتها نهاية فترة زمنية مماثلة، فتُطوى صفحة بما تحويه من حزن وفرح لتبدأ اخرى جديدة تتيح للانسان ان يرسم ويدون عليها أهدافا واحلاما وبدايات جديدة.

 بداية سنة جديدة تمثل بالنسبة للكثيرين نقطة انطلاق تبدأ منها بعض التغييرات التي يطمحون الى تحقيقها على الصعيد الشخصي أو ربما أوسع من ذلك نطاقا، فتعطي تلك الأهداف والسعي في سبيل تحقيقها قيمة أكبر للزمن الذي يمر ويتسرب من عمر الإنسان. من ضمن الأهداف والقرارات المألوفة جدا والتي نسمع عنها من الكثيرين حولنا ممارسة الرياضة والعمل على إنقاص وزن الجسد والمحاولة للوصول الى وزن مثالي، أو البدء بممارسة هوايات جديدة تملأ أوقات الفراغ وتُهزم أشباح الضجر والملل. تلك وغيرها من الأهداف تسهم في سعادة الاشخاص الذين يسعون الى تحقيقها، أو ذلك ما يبدو لهم على الأقل، إلا ان بعض الناس يجدون الرضا والسعادة في المساهمة في مساعدة الاخرين ومساندتهم في محن وظروف صعبة يمرون بها، على أمل بث بعض السرور و السعادة في نفوسهم، مهما كان ذلك يسيرا.

أخبرتني احدى الصديقات ان من الأهداف التي سوف تسعى الى تحقيقها في السنة الجديدة هو البحث عن عمل تطوعي، لا تريد عليه أجراً، يكون في مجال مساعدة الذين يعانون من الوحدة، والتي اصبحت تُصنف ضمن أمراض العصر الحديث التي أفرزها تسارع الحياة في الدول المتحضرة. وهنا ينبغي ان نميز بين مشاعر الوحدة التي تصيب الانسان نتيجة افتقاره الى الألفة والتواصل مع آخرين يأنس بصحبتهم وبين العزلة الإختيارية التي يلجأ اليها الانسان أحيانا حيث يبتعد عن الآخرين ويختلي بنفسه بحثا عن صفاء الذهن أو لاسباب اخرى قد تختلف من إنسان الى آخر.

يعرف المختصون الوحدة بانها وباء من الأوبئة التي تصيب الانسان. يأتي وصفها بالوباء بسبب تسارع وتزايد انتشارها بين الناس في الزمن المعاصر، ولتصور حجم تلك المشكلة يكفينا ان نعرف ان بريطانيا مثلا استحدثت وزارة تختص بذلك الشأن، حيث عينت تيريزا ماي وزيرا للوحدة، حينما كانت تقوم بمهام رئاسة الوزراء. الدافع الرئيسي لاستحداث تلك الوزارة وذلك المنصب تبينه الكثير من الدراسات التي توضح الآثار السلبية لمشاعر الوحدة ومخاطرها على صحة الانسان النفسية والبدنية، فقد تكون عاملا مؤثرا في الإصابة بالجلطات وبعض أمراض القلب، كما انها ترفع مستوى التوتر عند الانسان الى الحد الذي يؤثر سلبا على صحته. مشاعر الوحدة تزيد من احتمالات الإصابة بالكآبة والتي قد تدفع الانسان الى الانتحار، في الحالات الشديدة منها. كما ان تلك المشاعر تؤثر على ذاكرة الانسان فتضعفها وتقلل من قابليته على التعلم. تضاف الى ذلك تولد حالات الإدمان على الكحول أو العقاقير أو المخدرات، وغير ذلك الكثير.

على مدى عقود قليلة خلت ساهمت الاختراعات العلمية في استحداث وسائل مختلفة للتواصل الاجتماعي، فأصبح للفرد أصدقاء في بقاع مختلفة من العالم، يستطيع التحدث اليهم والتواصل معهم بدون الحاجة لمغادرة مكانه وبلده، واصبح لدى بعض الاشخاص أعدادًا كبيرة من الاصدقاء الافتراضيين، المئات منهم أو ربما الألوف، وللمشاهير من الناس عشرات الألوف أو الملايين من المتابعين، ورغم ذلك فإن زماننا هذا يعرف بأنه زمن الوحدة؛ تلك الآفة التي إن استفحلت فانها تُضعف قابلية الانسان على التواصل الاجتماعي على أرض الواقع.

تتزايد مشكلة الوحدة في المجتمعات المتحضرة بين كبار السن، فقد يتزامن تقاعد الانسان من عمله مع رحيل شريك الحياة، فيملأ شبح الفراغ أيامه، وقد يعجز البعض عن التعامل مع ذلك الوضع الجديد الذي يفتقد أهم ما كان مألوفا ومحببا. يصاحب التقدم في العمر في الكثير من الاحيان تراجع في صحة الإنسان، وذلك يزيد مشكلة الوحدة تعقيدا.

كانت لي جارة ارملة مسنة، وكانت حبيسة الدار بسبب مشاكل صحية شديدة ومزمنة، لم يكن باستطاعتها مغادرة المنزل بمفردها، فكانت رحمها الله تقضي أيامها جالسة قرب النافذة، تراقب من مقعدها حركة الناس والسيارات، تراقب الحياة تتخذ مسارها المعتاد خارج جدران منزلها، فكانت مشاعر الوحدة مشكلة اخرى مضافة الى مشاكلها الصحية الكثيرة، ويبدو لي ان تلك المشكلة كانت هي الأكبر من بين ما كانت تعانيه.

لا يخفى ما للتقدم العلمي في زماننا هذا من دور في إطالة عمر الانسان، اذ أصبح الفرد يعيش عقدين من الزمان أو اكثر بعد بلوغه سن التقاعد. لذلك تسعى الجهات المسؤولة في الدول التي تهتم بالانسان وصحته النفسية والبدنية الى ايجاد برامج ونشاطات لاولئك الذين تجاوزوا العقد الخامس من العمر. مثال على ذلك هناك جامعة تسمى University of Third Age والتي يشار اليها اختصارا بـ U3A، وهي جامعة لا شروط للقبول فيها سوى ان يكون الفرد قد تجاوز منتصف العمر، أو بالتحديد من بلغ الحقبة الثالثة من العمر. تعتمد الدراسة في تلك الجامعة في المجمل على مهارات الأعضاء وخبراتهم، فقد يدرس فيها الفرد مادة يرغب في تعلمها وفي نفس الوقت يقوم بتدريس موضوع يمتلك الخبرة فيه. كانت بداية تلك الجامعة في تولوز في فرنسا عام 1973، ومنها انتشرت الفكرة الى بريطانيا ودول أوروبية اخرى، بالاضافة الى كندا واستراليا. يساعد ذلك التجمع الأعضاء على ممارسة هوايات محببة اليهم والتعرف على هوايات جديدة، ولكن الجانب الأهم هو توفير وسط للقاء والتعارف وتكوين صداقات جديدة، وبالنتيجة فان تلك الجامعة تقدم بعض الحلول لمشكلة الوحدة لمن يعاني منها من الأعضاء.

لا أجد للوحدة تعريفا ووصفا أصدق وأدق مما كتبه فيتزجيرالد، حيث كتب انه يتصور جهنم عبارة عن جنة وارفة الظلال يعيش فيها إنسان بمفرده؛ إنسان وحيد دون أليف.

العدد 100 –كانون الثاني 2020