ترامب  بين سندان الكونغرس ومطرقة   الدستور

عزلان متتاليان للمرة الاولى في  تاريخ الولايات المتحدة الاميركية

واشنطن ــ جاد الحاج

الاتهام والإقالة بحق كبار السياسيين من الأمور النادرة جداً في الولايات المتحدة الأميركية. فعلى مدى ما يقرب من 250عاما، لم تحصل إطاحة أي من الرؤساء الثلاثة الذين وجهت إليهم  اتهامات سلوكية أو سياسية، وقد خضعوا للمحاكمة،وهم بيل كلينتون وأندرو جونسون ودونالد ترامب. مع ذلك، بعد اتهام كل من كلينتون وجونسون، خسر حزباهما الانتخابات الرئاسية التالية. عملياً، لا بد للرئيس، أو أي من المسؤولين الحكوميين الفدراليين، أن يكون قد ارتكب أحد الانتهاكات التي يصنفها الدستور على انها “خيانة أو رشوة أو غيرها من الجرائم والارتكابات الكبرى”.   لكن الاتهام وحده ليس الخطوة الفريدة لإزاحة الرئيس عن منصبه، بل هي الجزء الأول من عملية مزدوجة المسار،  فلكي يتم اتهام أحد المسؤولين وعزله أو إقالته، ينبغي لمجلس النواب أن يقر بنود الاتهام والمواد  التي تتهم الرئيس رسميا بإساءة التصرف والتدبير. وبمجرد أن يصّوت مجلس النواب على الاتهام والعزل،  يفترض بمجلس الشيوخ أن يجري محاكمة الرئيس المتهم  كي يقرر عزله  من منصبه، او عكس ذلك.

أيد مجلس النواب الأميركي قرار اتهام الرئيس دونالد ترامب يوم 13كانون الثاني (يناير) الماضي بأكثرية 232 ومعارضة 197نائبا. وقد صوت جميع النواب الديمقراطيين الحاضرين وعددهم  222على الإدانة، وانضم إليهم عشرة نواب جمهوريين، بمن فيهم كتلة مؤتمر الجمهوريين النيابية . وهكذا أضحى دونالد ترامب ثالث رئيس أميركي يتعرض للاتهام والمطالبة بعزله، علما أنه أول رئيس توجه إليه الاتهامات ويخضع للمحاكمة مرتين.

 لكن الاتهام وحده ليس الخطوة الفريدة لإزاحة الرئيس عن منصبه، بل هي الجزء الأول من عملية مزدوجة المسار.فمن اجل اتهام أحد المسؤولين وعزله أو إقالته، ينبغي لمجلس النواب أن يقر بنود الاتهام ومواده، التي تتهم الرئيس رسميا بإساءة التصرف والتدبير. عندئذ، بمجرد أن يصوت مجلس النواب على الاتهام والعزل،  يفترض بمجلس الشيوخ أن يجري المحاكمة ليقرر ما إذا كان يجب عزل الرئيس من منصبه   او لا.

 هيأت الأجواء والأحداث التي أعقبت الحرب الأهلية الأميركية  مناخاً يسمح بتوجيه الاتهام  لمحاكمة الرئيس الأميركي للمرة الأولى في تاريخ البلاد. فبعد وفاة الرئيس ابراهام لنكولن، خلفه نائبه أندرو جونسون. وكان جونسون ديمقراطيا مؤيدا للاتحاد الفدرالي، وقد رفض أن ينفصل مع ولايته  تينيسي، عن الدولة الاتحادية   خلال الحرب الأهلية. إلا أنه كان   من المؤمنين بتفوق العرق الأبيض، ويميل إلى اعتماد مقاربة غير متشددة إلى عملية الإعمار وإعادة البناء، أي عملية استعادة الولايات شبه المتحدة وشبه المنفصلة  حين مارس حق النقد على  قوانين  ومشاريع   اعتبرها قاسية ضد الجنوب، بما في ذلك قوانين مكتب فريدمان، التي خولت أبناء الجنوب المهجرين والنازحين، بمن فيهم الأميركيين ذوي الأصول الأفريقية حق الحصول على الطعام والمأوى والمعونة الطبية والأراضي للتملك  أو الزراعة. أوجدت هذه المقاربة نوعا من عداوة بين  جونسون والكونغرس  . أما القشة التي قصمت ظهر البعير، فكانت استبداله وزير الحرب (الدفاع) إدوين ستانتون الذي كان قد عينه الرئيس لنكولن.

يومها أعد الكونغرس 11مادة اتهامية تدّعي أن جونسون   انتهك قانون العهدة التي تحد من سلطة الرئيس وصلاحياته في عزل المسؤولين الفدرالين المعينين من مناصبهم، كونه عيّن وزيراً  مكان آخر من دون   استشارة مجلس الشيوخ. تعرض جونسون للاتهام بأكثرية فائقة تعادل ثلثي مجلس النواب، وانتقلت القضية إلى مجلس الشيوخ لإجراء المحاكمة. وبعد انقضاء سنوات عدة، قضت المحكمة العليا بعدم دستورية هذا التدبير.فعندما تعرض جونسون للمحاكمة في مجلس الشيوخ، استطاع الرجل أن يحتفظ برئاسته بفضل تأييده من قبل شيخ واحد زيادة على معارضيه، وذلك نتيجة اتخاذ سبعة شيوخ جمهوريين قرار التصويت مع الديمقراطيين تأييدا لاستمراره في منصبه. وكان  محامي الدفاع عن  جونسون قد احتج بالقول أن الرئيس لم يكن هو من عين ستانتون في المقام الأول، الأمر الذي يعني أنه لم يكن قد انتهك قانون العهدة الرئاسية.

كذلك يجادل المؤرخ هانس تريفوز بأن الشيوخ الذين صوتوا ضد العزل قرروا أن  محاولة  العزل قائمة بالدرجة الأولى  على اهداف محض سياسية . وكان ضعف الدعوى القانوني قد أقنع الكثيرين بأن الاتهامات فعلاً سياسية بطبيعتها، وأن انتهاك قانون العهدة الرئاسية لم ?ولا ?يشكل جريمة ولا انتهاكا للدستور، وإنما هو مجرد ذريعة يستغلها خصوم جونسون ومعارضوه. وقد أرست هذه النتيجة سابقة كبرى في عمليات توجيه الاتهام مستقبلا إلى الرؤساء. معنى ذلك أن الرؤساء يجب ألا يتهموا ويحاكموا ويتعرضوا للعزل لأسباب سياسية، ولكن فقط في حال ارتكابهم فعل “الخيانة او الرشوى أو جريمة كبرى أو انتهاكا خطيرا”، وفق ما ينص الدستور.

 عن ذلك، قال الشيخ الجمهوري جايمس غرايم، وهو من المنشقين عن صفوف حزبه معلقا وشارحا: “لا يمكنني الموافقة على تدمير عمل الدستور المتناغم من أجل التخلص فقط من رئيس غير مقبول”.

على غرار الرئيس أندرو جونسون، أثار الرئيس كلينتون مقدارا هائلا من السخط في أوساط مجلسي النواب والشيوخ بعدما   افتضحت علاقته المشبوهة مع المتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي، وذلك في كانون الثاني (يناير) 1998،  في البداية أنكر كلينتون   بعناد وأصرار أمام المحققين الفدراليين وجمهور العامة “إقامته أي علاقة جنسية مع الفتاة”. وقد زعمت مواد الاتهام أن كلينتون  كذب على المحققين بشأن العلاقة التي أقامها مع لوينسكي. كذلك ادعوا أنه أعاق العدالة وعرقل مسارها بفعل تشجيعه موظفي البيت الأبيض على إنكار وجود تلك العلاقة. لكن، لماذا لم يصر إلى عزل كلينتون من منصبه؟

لقد أعادت حصيلة محاكمة كلينتون تأكيد السابقة التي   تشدد على أن من الواجب محاكمة الرؤساء وعزلهم من مناصبهم فقط في ظروف واضحة ومحددة دستورياً.   وفيما وافق الكثير من أعضاء مجلس الشيوخ على سوء سلوك الرئيس كلينتون وتصرفه، فإن رأيهم استقر في نهاية المطاف على أن تصرّف كلينتون لم يكن على مستوى “الجرائم والارتكابات الكبرى والخطيرة”.

ويقول أستاذ القانون الدستوري في جامعة كارولينا الشمالية، البروفسور مايكل غيرهارد: “وجد الكثير من هؤلاء الأشخاص في ذلك إساءة تصرف وتعامل، ولكنه لم يكن كافيا لاتهام الرئيس وعزله أو إقالته”.أما العضو الجمهوري في مجلس الشيوخ، سوزان كولنز، التي صوتت ضد الاتهام والإدانة، فأوضحت في بيان أصدرته أنها لا تعتقد أن كلينتون   ارتكب جريمة، ولكنه في الواقع أساء السلوك والتصرف. واستطردت مؤكدة: “عند

التصويت لتبرئة الرئيس، أفعل ذلك مع شكوك هامة وجدية لأنني لا أقصد أبدا إعفاء هذا الرجل وتبييض صفحته” . من جهتهم، يؤكد الخبراء أن الجهد الرامي إلى إقالة كلينتون كان محكوما بالخيبة وعدم الإفلاح، وذلك لأن الرأي العام انقلب ضد خلع كلينتون من منصبه. والحقيقة أن نسبة الرضى عن أداء الرجل لمهامه ووظيفته خلال أسبوع المحاكمة، بحسب   استطلاعات مؤسسة غالوب،  فاقت كل التوقعات في ايجابيتها وضد محاكمته!

 في 18  كانون الأول (ديسمبر) 2019 انشغلت الإدارة الأميركية بشأن تهمتين هما: إساءة استعمال السلطة وعرقلة عمل الكونغرس.وترجع التهمتان إلى مكالمة هاتفية جرت بين الرئيس ترامب في 25تموز (يوليو) 2019  والرئيس الأوكراني فلادمير زيلنسكي. وقد استرعى مضمون المكالمة  انتباه العامة وأثار  غضباً شعبياً  ما   ادى الى إطلاق   التحقيق في نشاط واحدة  من شركات الطاقة،  حيث يندرج في عضوية مجلس إدارتها ابن منافس  ترامب، جو بايدن.  في ذلك الوقت قررت إدارة ترامب حجب المعونة العسكرية عن أوكرانيا، التي   كانت تهيء  لقاء  قمة بين زيلنسكي وترامب.وكانت شهادات الموظفين الحاليين والسابقين في الإدارة الأميركية، التي أدلوا بها في خريف العام 2019، قد أنتجت رواية تتناول    قيام بعض المسؤولين المتصلين بإدارة ترامب ?بمن فيهم محاميه الشخصي رودي جولياني وسفير واشنطن لدى الاتحاد الأوروبي غوردون ساوندلاند– بدفع السلطات الأوكرانية الى القيام بعملية التحقيق هذه، علاوة على التصدي للنظرية الجوفاء التي تزعم أن أوكرانيا قد تدخلت في انتخابات   2016.

  من جهتها، تقول اللجنة القضائية في مجلس النواب التي يقودها الديمقراطيونفي تلخيصها الدعوى ضد الرئيس “إن ترامب  خان الأمة عبر إساءة استعماله منصبه الرفيع لتجنيد قوة أجنبية في سبيل إفساد العملية الانتخابية الديمقراطية”، وحاول التدخل في سلطة الكونغرس المحمية دستوريا والتي تسمح له باتهام الرئيس وإدانته وإقالته.ويجادل المشرعون أيضا بأن سوء تصرف ترامب وتدبيره استمر طوال فترة التحقيق في الاتهام. كما يزعمون أنه حاول أن يتدخل في التحقيق عبر إصدار الأوامر للمسؤولين التنفيذيين بالانصياع للمستندات ولمذكرات الكونغرس القضائية والتقيد بها. وفقا لبنود الاتهام التي أقرها الكونغرس، تقع هذه التهم تحت بند “الجرائم والارتكابات الكبرى  والخطيرة”.   لكن، لماذا لم تتم إزاحة ترامب من منصبه  آنذاك؟

 في الخامس من شباط (فبراير)   2020  أصبح ترامب ثالث رئيس في تاريخ الولايات المتحدة يوجه إليه مجلس النواب اتهاما يجعله عرضة للمحاكمة واحتمال العزل. غير أن مجلس الشيوخ برأه بعد ذلك.وقد أتت تبرئته وفقا للتصويت في مجلس الشيوخ حسب توزع المقاعد بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، الأمر الذي عزز الانقسامات التي تثبتت بتأثير عملية النزاع الحزبي.فمجلس الشيوخ صوت بأكثرية 52في مقابل 48لتبرئة ترامب من تهمة سوء استعمال السلطة والنفوذ، وبأكثرية 53في مقابل 47   لتبرئته من تهمة عرقلة عمل السلطة التشريعية. وكان الشيخ الجمهوري عن ولاية أوتاه، والمرشح الرئاسي لمرات عدة، ميت رومني هو الشيخ الوحيد الذي انشق عن صفوف حزبه بل والحزبين، إذ صوت لمصلحة إدانة ترامب بتهمة إساءة استغلال السلطة واستعمالها.وكان الكثير من الشيوخ الجمهوريين، الذين صوتوا لمصلحة تبرئة ترامب قد أعلنوا أن لا مفر من ترك الحكم النهائي  في الاقتراع الرئاسي خلال الأسبوع الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.

 وعلى مدى الأشهر التسعة التالية ظل السؤال مفتوحا بشأن ما إذا كان تدبير الإدانة قد ألحق الأذى أو وفر المساعدة للرئيس ترامب على الصعيد الشعبي والانتخابي. على أن ترامب وبعض مساعديه رددوا طوال الفترة السابقة للانتخابات الرئاسية بأن توجيه الاتهام والمحاكمة من الأمور المحتمل أن تعود عليه بالفائدة سياسيا عبر حشد مؤيديه وتعبئتهم. في المقابل، كان  بعضهم قد جادلوا بأن الإجراءات سوف تسهم في تعزيز هالة الفوضى التي تكتنف إدارة ترامب. وكان   استراتيجيي من العاملين سابقا مع حملة آل غور الانتخابية قد أبلغ صحيفة  ?لوس آنجلس تايم? باعتقاده :” انه على الرغم من ظن بعضهم   أن محاكمة بيل كلينتون قد ساعدت الديمقراطيين، فإنها في الواقع عززت حظوظ الجمهوريين. مما سمح   لجورج بوش الابن بإطلاق الوعد بأنه سوف يعيد للبيت الأبيض شرفه وكرامته. وهذا ما أفاده وعاد بالنفع عليه” .

 لقد واجه رؤساء آخرون التهديد بالتعرض للاتهام والإقالة. وأمام خضوع ثلاثة رؤساء فقط للاتهام والمحاكمة والتهديد بالإقالة، فإن من البديهي أن يكون عدد أكبر قد واجه دعوات في صفوف النواب والشيوخ لاتهامهم وإقالتهم أكثر مما قد يتوقع أحد. أما الرئيس الأول الذي تحرك مجلس النواب ليوجه إليه اتهاما ويطالب بمحاكمته،فكان جون تايلر.بعد أن خلف الرئيس وليم هنري هاريسون، الذي توفي بعد شهر واحد فقط على توليه منصبه الرئاسي، مارس  تايلر حق النقد ضد تشريع كان حزبه اليميني قد عمل على سنه وكان هاريسون قد وعد بالمصادقة عليه. طرد اليمينيون تايلر من حزبهم، وتلقى مجلس النواب عريضة تطالب باتخاذ قرار يطالبه بالاستقالة وإلا تعرض للاتهام والإقالة. مع ذلك، لم يعمد مجلس النواب إلى التزام نهج الاتهام والعزل

.أما الرئيس المشهور أنه شارف على حافة الإقالة، ولكنه في الحقيقة لم يتعرض للإدانة والإقالة، فهو ريتشارد نكسون. فخلال تتبع تسلسل حوادث فضيحة واترغايت، أعدت اللجنة القضائية في مجلس النواب ثلاثة بنود   من قرار الاتهام والعزل بحق الرئيس لارتكابه “جرائم كبيرة خطيرة”. إلا أن نكسون قدم استقالته من منصبه يوم 9آب (أغسطس) 1974قبل أن يتمكن النواب من   توجيه الاتهام والتهديد با قالته.

 في التاريخ الأميركي المعاصر، واجه الرؤساء من هربرت هوفر إلى باراك أوباما مناقشات راوحت بين المعقولية والصدقية إلى المطعون بصحتها والمشكوك في صوابها والمشحونة أو المعبأة سياسيا، وقد تناولت اتهامهم والتهديد بإقالتهم. وفي لحظات التمتع بذروة التأييد الشعبي، يجدر بالرؤساء أن يعرفوا في أعماق فكرهم وقلبهم أنه على الرغم من ندرة حالات الاتهام والعزل، فإنها تظل احتمالا قائما وفقا لما أراده صائغو الدستور.

لكن ، ومع بدء جلسات المحاسبة المتوقعة لاحظ المراقبون تغيراً جذرياً في مواقف الجمهوريين الذين انحازوا الى المعسكر الديمقراطي خلال مرحلة تنفيذ العزل، وذلك بالدرجة الأولى خوفاً على مردود النتخابات المقبلة خصوصاً مع وجود السواد الأعظم من ناخبيهم في الولايات التي استجابت الى نداءات ترامب التي اسفرت عن اقتحام الكونغرس وسقوط خمسة قتلى وعدد كبير من الجرحى، ناهيك عن الحاق الإهانة المعنوية الوقحة بهيبة الكابيتول وتاريخه العريق.

من هنا لا يتوقع المرافبون ان تؤول جلسات المحاسبة الى ابعد من العزل الإداري المزدوج الذي تحقق حتى كتابة هذة السطور. مع ذلك ليس في امكاننا استبعاد المفاجآت اذا طال النقاش وتشعب واثار المزيد من التحركات الشعبية المختلفة.

العدد 114 / اذار 2021