لارا ملاك بيروت

فعلٌ كتابيٌّ متمرّد. والتمرّد ليس شكليا فحسب، بل هو تمرّدٌ يصيب المعنى وضدّه ليفاضل بينهما ويلحظ وجهتهما.
هذا الكتاب فعلٌ جماليٌ مضبوط الوتر حرّ الإيقاع. له جرأة السؤال في كل مرّةٍ فيسأل عن الهوية، وهويته غير منفصلة عن المحيط الإجتماعي.
نرى مثلا في قصيدة »من أنت؟« التي يبدأها الشاعر بسؤالٍ ملحٍّ عن هويته، ثلاثية في الضمائر. هذه الثلاثية توضِح صورة التفاعل بين شخص الشاعر )الأنا(، والمرأة )هي(، وبين الناس الذين يُرهقون الزّمن بمعاصيهم وأحقادهم )هم(. المرأة تسأل »من أنت؟« وهو يرى في تنورتها أسئلة وجوده. ليعلن انتماءه الى الزّمن لا الى الأرض. أبعاد الانتماء هنا مختلفةٌ عن السائد المعروف، وشاملةٌ أكثر. إن كانت الأرض تحصر الانتماء بجنسيةٍ أو بقوميةٍ أو بعرق، فالانتماء الزمنيّ شامل الأبعاد نحو إنسانيّةٍ ساميةٍ وهويةٍ راقية. لكن يبدو أنّ محاولة الانتماء الى الزمن تفشل أيضا. الزمن الآن مشوّهٌ بأفعال أولئك الذين سبق وشوّهوا الأرض. فيقول الشاعر بعدها »لقد أضعْتُ حقيبتي« في إشارةٍ واضحةٍ الى انتهاء زمن الانتماءات ولكنّه لهذه الفكرة يختار فعل »أضعْتُ«، وكأنّ الأنا سُلبت انتماءها ولم تتخلَّ عنه بإرادتها. إنّه الضياع، الفراغ الذي يفصل بين الأرض والتاريخ يخلق فجوة الهويّة الموجعة في قلب الشاعر، فينتهي الشاعر إلى المرأة وإلى الحبّ علّه يجد فيهما أناه الحائرة. ونلاحظ، إن قمنا بإحصاءٍ بسيطٍ للضّمائر المستخدمة، أنّ تلك العائدة الى أنا الشاعر أقل عددا من العائدة الى المرأة وإلى مشوّهي الانتماء من أبناء مجتمعه. وذلك لأنّ الأنا هنا ليست فاعلة بقدر ما هي متأثرة بمحيطها. غير أنّ هذه الأنا تعود وتحضر بقوّةٍ في نصوصٍ أخرى، لتؤكد تلوّن الزمن بلونها. تختار انتماءها الزمنيّ الذي يشبهها وترتاح في سكونٍ وجوديٍّ عميق.
والمرأة جزءٌ عظيمٌ من اكتشاف الانتماء، فهي كلمةٌ سريّةٌ تكشف الوجود المطلق، هي الحلّ لاستبصار ما لا تراه العين. السحر قد يفشل في رؤية المستور وقد يبقى علم الغيب قاصرا عن بلوغ الكشف. أمّا الأنثى الّتي لا عيب لها ولا جسد، فهي معانقة السّر ومدركته. إنّها الوحي الذي لا يعجز عن حقيقة، فتنزل شعرا وفنّا على الورق. لعلّ هذه الأنثى هي الملتصقة بالحقيقة، ولكن إن دقّقنا أكثر في تفاصيلها أدركنا إمكانية أن تكون الحقيقة بذاتها، الحقيقة المُعرّاة من الجسد ومن العيوب ومن الخرافة.
وإذا تَبِعنا النّور أحيانا في نصّ شوقي هلال، لاحظنا أنّه رديفٌ للموت. إنّها الحقيقة العنيفة حين تُميت من يراها، فتكون ضبابيّة معناها خلاصا. تغفل العين عنها، وتحيط بها، وترى ما قبلها وما بعدها فتدرك بذلك كُنهها بحذرٍ دون أن تصطدم بها وتضمحلّ في قوّتها.
وتدخل النّص أحيانا أخرى لتلاحظ كيف يتجلّى المفهوم بين ضدّين. ليس اجتماع الضّدين فراغا، بل اكتمال لما لا يمكن أن يتمّ. إنّه البحث عن المعنى، لا يهمل أيّ جانبٍ من جوانب الذات. كأنّ الحياة لا تعبس إلّا وهي تبتسم. المشهد الّذي يتراءى لنا من حياتنا، له أكثر من وجهٍ إذا. نظنّ الوجوه متعارضة، لكنّها إلى اكتمال. وفهمُ كلّ فردٍ لمعناه يتطلّب إذا شمولية الرّؤية، من هنا لا تكون العدمية إلّا في الجسد الماضي إلى زوال. لذلك يقول إنّ الموت والخلود شيءٌ واحد. الموت والحياة ليسا متعارضين، إنّما الموت حياةٌ خالدة. يبقى المعنى فوق السّقوط، وفوق المكان، وفوق الصور الحسّيّة. هناك دوما خلف الصورة صورةٌ أخرى. من هنا تتشكّل ضبابية النّص الآخذة إلى انجلاءٍ في عين الكاتب، وفي شعور القارئ الجيّد الذي يشبه صفاءُ رؤياه شفافية الكلمة.
والقصيدة تنزف في أحد أركان هذا الكتاب، ودمها دم المخلّص المصلوب على خشبتين. إنّه الدور التبشيريّ للكلمة، أي أن يحمل الشّاعر وجوده ووجود الآخرين، ويسير على طريق الجُلجُلة ليُنْتِج النّص وينزف منه، فيخلّص مساحات التّفكير في المتلقّي. القصيدة وجعٌ وخلاص، وينتهي الموجوع دوما إلى قيامةٍ ما تكون على مستوى الألم، أي على مستوى الحياة.
ويرفض شوقي هلال، وعلى الرغم من الرموز الدّينيّة التي يستعين بها، مفهوم الإله والقانون الغيبيّ الثابت، لأنّه يرفض الخضوع العقليّ للتّجارب التاريخية والأساطير. لكنّه يعود الى قصيدته ليُطعن بها كأنّها ظلّه المصلوب. هي قراره الفكريّ الشجاع الذي لا يخاف الشك، بل يخوضه بجسارة فكرٍ وبإنسانيةٍ مثاليّةٍ توّاقةٍ الى السلام. وحتّى العفاريت لا تغيب عن الإيقاع الدلاليّ للكتاب. العفاريت هي نفسها الآلهة لأنّ شعوبنا تحكمها الأساطير الغيبيّة والتسليم للتربية الدينيّة الّتي تبني لنا الإله كما تشاء، فيصير عفريتا يتحكّم بنا، وينشر ندوبه على العقل والروح والذاكرة. والندوب منتشرةٌ على جسد المجتمع وعلى تاريخه، وعلى الحضارة الإنسانيّة المشوّهة بالوهم.
أمّا في الروح والجسد، فيقول هلال إنّ بينهما كشفا، والكشف هنا هو الحقيقة. تعترف الروح للجسد بسطوته، بدوره في تعريتها من همومها وغموضها المتعِب. هنا يعود التضادّ للظهور على نحوٍ متكاملٍ مكتمل. الودّ بين الزهد والإباحيّة، بين الروح والجسد. يصير الحسّ ضوءا، يبدأ خافتا خجولا وينتهي قويّا واثقا. ولا ينفرد بطاقة الجسم، بل ينتقل إلى الحقيقة الروحيّة، ويحقّق انكشاف الذّات أمام نفسها. في هذا دعوةٌ لمصارحة المرآة والتحرّر من الخوف حتّى الصّدق.
أمّا الجمال، فهو قضيّةٌ أخرى مختلفة لدى شوقي هلال. لا يمكننا القول إنّ الجمال لديه انزاحَ عن معناه، وذلك لأنّنا لم ندرك يوما معنى واضحا له لندرك أيّ انزياحٍ يحاول شاعرٌ تحقيقه. لكنّ الجمال في الدلالة النصيّة هنا تمرّدٌ على النمط التقليديّ، لا يُختصر بالمرأة الجسد أو بالإله أو بالطبيعة المتآلفة والألوان، إنّما يختار له معنى الظهور. فالجمال هو الحقيقة، هو ظهور الذّات الخفيّة لتمارس التصوّف، فتحبّ نفسها وتحبّ الله. أن تؤمن ببصيرةٍ وتحبّ وتنكشف لتعرف من هي.
والتمرّد المعجميّ في قصيدة شوقي هلال يبرز أيضا في مفهوم الفراغ الّذي لا يشبه عنده العدم. هو اللامعنى، أو الثبات. حين يؤول المعنى إلى الموت في هذا الوجود، وحين يصير الجسد انتظارا لكلمةٍ هي الموت، يكون اللقاء بالآخر خلاصا. في اللقاء الإنسانيّ معنى يحمي الروح من الفراغ، أي يقيها الثبات. اللقاء حركةٌ شعوريّةٌ تعيد تكوين الأنا مرّة بعد مرّةٍ كي تبقى جديدة في هذا الوجود، والجِدّة من مقوّمات الحياة. ولأنّ الوجود يشكّل لديه تحدّيّا يستنطقه في عصفورٍ سجين. في العصفور شيءٌ من الفلسفة، قد تكون فلسفة الفرح الحرّ. لعلّ الحريّة في الفرح، في التغريد والغناء. وإن كان الجسد سجينا، فالصوت حرٌّ طليقٌ قادرٌ أبدا على التعبير وملاحقة المعنى. بالصوت يحافظ الكون على كبريائه وعلى لونه، ويحارب الفراغ، فتولد الحركة الّتي منها تكون الولادة المتجدّدة. نولد إذا دون أن نموت إن استطعنا اللّحاق بالمعنى النابع من قاع النفس الإنسانيّة والمنعكس في أبعاد الكون.
كتابة الشعر عند شوقي هلال بحثٌ حثيثٌ عن الحقيقة. يريد المعرفة بأيّ ثمن، فيرحل مرّة إلى الإله ومرّة إلى الجسد، ثمّ يعود مرارا إلى نفسه. وإن لم ترضِهِ نفسه ينتقل بنظره إلى الوجود يقيم اتّصالا به، ويتابع تطوّره فيحزن ثمّ يفرح ثمّ يغضب. الكتابة عنده تمرّدٌ على الكذب، تمرّدٌ على المراوغة والظّلام. الحقيقة وحدها قادرةٌ على البناء لأنّها لا تزول، بل تتحرّك بعيدا عن العدم، وتنتظر إنسانا آخر ليأتي، لتقوم ببنائه من جديد.
ـ الشاعر شوقي هلال
ـ غلاف »شرشف القمر«