أمجد ناصر سليل المجد والنقاء والمقاومة

بيروت من ليندا نصار

أمجد ناصر أديب وشاعر أردنيّ واسمه يحيى النميري النعيمات ولد عام1955، وهو يعتبر من رواد الحداثة الشعرية وقصيدة النثر. يعيش أمجد منذ مدة طويلة في لندن، وكان قبلها في قبرص وبيروت، وقد عاد حديثًا إل الأردن بعد مرضه للخضوع إلى علاج آخر. كان يعمل في صحيفة القدس العربي منذ صدورها، ثمّ استلم الإشراف على التحرير في موقع ضفة ثالثة من صحيفة العربي الجديد.

أصدر ناصر عدّة كتب من شعر وأدب وروايات، وإلى جانب ذلك، خاض أمجد مجال أدب الرحلات، ومن أحدث أعماله الروائية  »هنا الوردة« (2017) التي اختيرت ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية. من أعماله الشعريّة: مديح لمقهى آخر، منذ جلعاد، رعاة العزلة، سرّ من رآك، حياة كسرد متقطّع… بالإضافة إلى شقائق نعمان الحيرة وهي مختارات من دواوينه، صدرت عن دار المتوسّط. من أعماله الأخيرة ديوان بعنوان  »مملكة آدم«، صدر عن دار المتوسط أيضًا 2019. بالإضافة إلى العديد من المقالات. ترجمت أعماله إلى اللغة الفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية والهولندية والإنكليزية وغيرها… شارك أمجد ناصر في عدد كبير من المهرجانات الشعرية العربية والدولية.

تميّزت رؤية أمجد للشعر بأسرها للمتلقّي فآمن بالأصوات الشّابّة ولم يغلق لها الباب، ولم يدّعِ أنّه يفتح لها المجال. هذه الأصوات ظلّت تعيش خرسها، فجاء أمجد وكان صوتها، بل صار صوت الحناجر المبحوحة. وفي ديوانه الأخير  »مملكة آدم« خصّص الشاعر طبقة لهؤلاء الذين يقفون في وجه الشعراء الشباب.

بالانتقال إلى أعمال أمجد ناصر الأدبيّة وما راكمه من دواوين شعرية، يلاحظ قرّاؤه أنّه يقف أمام شاعر مختلف من عالم خاصّ، يجده يبدع بصمت دهشة السؤال وقلق الوجود، بحواسه التي يستفرها جميعها ليبني عالمه الأورفيوسيي، كأنه ناسك من زمن بعيد يجرب في كل مرة طقوسية الكتابة بما هي أثر فني، تتأسس في جوهرها على احتمالات قصوى لجعل المعنى يحمل أفقًا ذا أبعاد كونيّة. فلا غرابة أن تشكل هذه التجربة مختبرًا بحثيًّا لنقاد من أجيال عديدة تجاورت فيها مقاربات نقدية. كيف لا وهي التي تجعل من الرمزية وإمكانات التأويل، فضاء للكتابة التي تتحول في رؤية أمجد ناصر إلى منجم خصب لتوليد شعريات تأبى على أن تصنّف في قواعد جاهزة. إنها كتابة قلقة تعرف أن تنتقل من مفهوم القصيدة إلى الكتابة باعتبارها اختيارًا جماليًّا في الوعي الكتابي من جهة، والحياة من جهة ثانية.

فلا غرابة في أن يسعى في حفرياته داخل أرض الكتابة إلى إعادة تشكيل حدود العالم وفق تصوّرات غير موجّهة، فالحرية في قول الحقيقة على نحو شعري كانت من سمات الخصوصية التي مكنته من ترويض القصيدة، لتستجيب إلى شروطها النوعية والإقامة في حالات الممكن والمستحيل.

جسدي

جسدي يتداعى كمركب للاجئين في بحر هائج.

الألواح تسقط..

المياه تصعد إلى السطح.

المحرك يتلقى ضربة من قرش أو حوت.

الحصار محكم.

وأنا لا أستطيع الفرار.

ليتني أستطيع أن أترك جسدي هنا.

وأنجو ببضع حبات جوز وضعتها في آخر لحظة في جيبي.

**

جسدي يخذلني.

وهذا ليس جديداً.

كان يفعل ذلك مراوغة.

الآن صريح ومباشر في مسعاه.

كلما نهضت وقعت على الأرض.

لا أستطيع أن أبقى واقفاً على قدمي ما تبقى لي من أيام.

حتى الشجرة لا تفعل.

ألم نر أشجاراً ممددة إلى جانبها لكي ترتاح من عبء الوقوف؟

تحمل قصائد أمجد ناصر إبدالاتها ما يتيح لها أن تكون حاملة لرمزيات عديدة، تجعل من النهايات بابا ينفتح أكثر على احتمالات مفاجئة تجعل متلقيها ينخرط في فعل تأويلي كان من أبرز تجليات الوعي المفارق الذي يصدر عنه في ممارسة طقوسية القصائد؛ فالشعر بالنسبة إليه هو النفس وليس مجرد وظيفة موقّتة، بل هو الروح أو الكهرباء التي تسيّر حياتنا. إنّ القصيدة تسكنه وهي شاغله الذي يفتح له الأبواب ليعبّر عن قضايا جمّة.

 »قناع المحارب

لا يولد فجر من دون جرح

على جسد الليل دم وتراب ومشيمة«

كذلك نلاحظ أنّ أسلوب أمجد ناصر يمتاز بجماليّة لا تظهر تكلّفًا، بل تأتي الصّور على طبيعتها مستمدّة من المشاهد التي يعاينها الإنسان في حياته اليوميّة، وذلك من خلال الحكي والوصف وإدخال الحوار أحيانًا. واستطاع بذلك الشاعر الرّبط بين أسئلة العصر والأسئلة الجماليّة. فما دام الشّعر يمثل هويّة أمجد ناصر الذي لا يتركه حتى وهو ينزاح نحو جزر الكتابة الروائية العذراء ليدون تاريخًا جديدًا أكثر التباسًا نكاية في الاطمئنان، باحثا جوالًا عن منطقة احتمال يشيد عليها تاريخ إنساني آخر لما حفظناه خلسة في بطون الكتب السيارة.

(راية بيضاء

في آخر زيارة إلى طبيبي في مستشفى تشرينغ كروس في لندن. كانت صور الرنين المغناطيسي عنده. من علامات وجهه شعرت بنذير سوء. قال من دون تأخير: الصور الأخيرة لدماغك أظهرت للأسف تقدماً للورم وليس حداً له أو احتواء، كما كنا نأمل من العلاج المزدوج الكيمو والإشعاعي.)

في لحظات الفاجعة لم يسكن قلم أمجد ناصر، بل جعلنا نستشعر كلّ معاناة عاناها فكأنّها صارت تحيط بنا من كلّ الجهات. ولم ينتظر أمجد ناصر لحظات رثائه، فقد أراد أن يكون الشاهد على ما سيحصل من بعده فكتب وكتب، معترفًا بصدق وبجرأة الفارس العربيّ عمّا حدث معه في فترة يصطلح أن نسمّيها فقدان الأمل الذي تعلوه الراية البيضاء.

(مما كتبه أيضًا أمجد ناصر راثيًا نفسه)

عدو شخصي

ليس لي أعداء شخصيون

هناك نجم لا يزفُّ لي خبراً جيداً،

وليلٌ مسكون بنوايا لا أعرفها

أمرُّ بشارعٍ مريبٍ وأرى عيوناً تلمع

وأيدياً تتحسس معدناً بارداً،

لكن هؤلاء ليسوا أعداء شخصيين،

فكيف لجبلٍ

أو دربٍ مهجورٍ أن يناصباني العداء،

أو يتسللا إلى بيت العائلة؟

أيها الشيء القاتم الذي أخذ أمي وحبيبتي الأولى

والأنفاس التي رفعت عليها مداميك حياتي إلى الجانب الآخر من التراب

ما أنت؟

ما مشكلتك معي

إن كنت رجلاً اخرج إليَّ من مكمنك

تعال نلتقي في أي جبَّانة تريد

وجهاً لوجهٍ

لسوف ألقنك مواثيق الرجال

كما لقنتني إياها الصحراء والغدران الجافَّة

أرني وجهك قبل أن تنتضي قناعك الذي تسمّيه عقاباً إلهياً

فأنا لي آلهتي أيضاً لكني لن أدعوها لنزال الوجوه السافرة

إن كان لك دين عندي

أو مشكلة شخصية كأن أكون خطفت هيلين الشقراء من حضنك

ومرغت شرفك في الوحل

مع أني لا أذكر شيئاً كهذا

لا تسترد دينك من الذين يمرون في هذه الدنيا

كما تمر أنفاس الرعاة في قصب الناي

أمجد سليل المجد والنقاء إنّه المقاوم في أشدّ الصعوبات لطالما كان يجمح نحو العبور إلى عالم روحانيّ نظمأ إليه جميعنا. صرخة من القلب كانت طعنة في قعر كتلة أطلق عليها أمجد  »كتلة هنري مور«، وبرغم كبر حجمها في دماغه، إلّا أنّها حتى الآن، وبسبب مقاومته وشجاعته، لم تمسّ ذاكرته ولم تستطع إيقافه عن التّفكير بالكتابة.

أمجد ناصر أو يحيى النميري، انتصر للشعر والحياة صرخة من أعماق القلب تجعلنا نسأله : أمجد هل أنت مطمئنّ إلى ما تكتبه اليوم؟ وهل الرّاية البيضاء التي كتبت عنها هي عن الأدب في قوّته الأسطوريّة؟ أم هي السّلام الذي نفتقده جميعًا في لحظات الضّعف والخوف؟ أمجد كم السّاعة في قلبك الآن؟

ألا نستطيع ان نتعلّم البدايات الجديدة والمقاومة من الشّعراء؟ كيف نتعلّم أن تكون السّاعة في قلبنا مختلفة عن ساعة الكون؟

 

العدد 94 – تموز 2019