شجر لن ترى أنت ولن أرى أغصانه

رؤوف قبيسي:

لست من أنصار الاقتصاد الموجه والثقافة الموجهة، ولا أعتد بالسياسات التي تعامل الشعب كطفل رضيع يحتاج إلى توجيه وعناية دائمين. في هذه السياسات، يظهر الحكام كأنهم قوامون على الناس ومن خيرتهم، ومن صفوة الفكر والرأي، مع أن التجارب أثبتت أنهم في الدول النامية، من أكثر الناس فساداً واحتياجاً إلى التأهيل الخلقي والسياسي والثقافي والاجتماعي، وحالنا في البلاد العربية خير مصداق. لهذا السبب، وربما لهذا السبب وحده، انهارت الأحزاب التي اعتمدت سياسة »الشمولية« المنظمة، وكان حكمها احتكاراَ وتعسفاً.

الإنسان بالفطرة يولد حراَ، وحريته تفرضها قوانين الطبيعة والجغرافيا. وإذا كانت نظرية النشوء والارتقاء صحيحة، وبعض العلماء يؤكدونها، فهذا يعني أن الحرية لازمة لطبيعة هذا الكائن الذي اسمه الإنسان، والذي نما جسديا وفكرياَ وأصبح على ما هو عليه الآن. هناك من يرى في هذه الحقيقة شيئاً يشين، وقد يقول: »على رسلك يا محترم.هل يعقل أن أجدادنا من أصل غير »إنساني«؟ ألا يتعارض ذلك مع موروثنا الخلقي والروحي؟«!

الرافضون، »اصحاب العقائد الغيبية«، وهم أكثر الناس بعداُ عن العلم، وعن تقبل نتائجه في حقول الاختبار والتجارب. يرفضون تجارب العلوم يتجاهلون حقيقة ما يحدثه »هذا الموروث الخلقي والروحي« في حياتنا من تدمير، وما أحدثه في الماضي من حروب قضت على البشر والحجر. من هذا الموروث، العصبيات القومية التي تتحجر مع الزمن، وتصبح عوامل هدامة تجلب الحروب. هذا ما أحدثته »القومية الشوفينية« زمن هتلر وموسوليني، فكانت المحرك في إيطاليا وألمانيا وسبب حروب راح ضحيتها الملايين، ثم أخذت بعداً آخر بعد الحروب، كما في أسبانيا في عهد فرانسيسمو فرانكو، وكما في البرتغال زمن دكتاتورها الصارم أنطونيو سالازار.

كثيرة هي الحقائق التي يتجاهلها الحاكمون في الدول النامية، لأنهم لا يهتمون بمصلحة الشعب، بل بمصالحهم الخاصة، ومصالح من يدور في فلكهم من الزبانية والأجراء. يلجأون إلى إثارة الغرائز القبلية والدينية والعشائرية، ليتحكموا بالناس. حتى الفكرة الدينية التي قامت على أساس »الشمولية« يساء استخدامها من الحاكم وبعض رجال الدين، فتصبح سلاحاً ضد النفس البشرية وتوقها الدائم إلى عيش كريم، لذلك يقول الفيلسوف البريطاني برتراند راسل إن العقائد الغيبية سفكت من الدماء عبرالتاريخ أكثر من أي عقائد أخرى!

قد يسأل قارىء وقد يتساءل آخر: ما الحل إذن لتنهض الشعوب العربية من عثارها، وتسير إلى الإمام، وما على حكومات الدول العربية أن تفعل حتى لا تسوء أحوال الدول العربية أكثر مما هي سيئة، وتتحول شعوبها إلى قبائل متناحرة تحكمها عقائد الماضي؟

في الدول المتطورة تقوم السياسة على العقل والمصالح التجارية، في حين أنها في البلاد العربية ثقافة تقليدية دينية وقبلية. يظهر ذلك بوضوح في سياسة هذه الدول على الصعيد المحلي والصعيد الخارجي. لو أن هذه الدول استلهمت العقل والمنطق، والمصلحة التجارية، وتحديات الحاضر وآفاق المستقبل، لما اندلعت في بلادنا هذه الحروب كلها، وكوت نيرانها أراضي قديمة مثل ليبيا ومصر والسودان والعراق ولبنان واليمن وسوريا.

 العصبيات الدينية وممثلوها وجنودها في هذه الدول هي المحرك الأول، أصل المشاكل هي، بعدها تأتي العوامل القبلية والعشائرية، وإذا هناك من يستفيد، فهم ممثلو الطبقة الحاكمة، والدول التي لها مصالح مباشرة وغير مباشرة في إذكاء الصراعات، على حساب الشعوب المغلوبة على أمرها، الخاضعة لسلطة التراث وسلطة الواقع. شعوب تموت في اليوم مرتين، مرة بسياسة تفرضها عليها طبقات فاسدة، ومرة بحكم معقتقدات موروثة تفرضها هي على نفسها.

لكل شعب ثقافته وسياسته، وإذا كانت السياسات العربية خارج العقل والمنطق، فلأن الثقافة العربية لم تتغربل بعد، لذلك لا لن يأتي الخير من حاكم يخرج من معجن هذه الثقافة. هو سيخاطب غرائز الأمة لا عقلها، وبوجوده تتعثر عجلات التطور وتبقى الأمة ضعيفة، وبعيدة كل البعد عن الطريق التي تؤهلها لتكون أمة منتجة، لها مكانها اللائق بين الأمم.

هل تحتاج الشعوب العربية إلى »توجيه« وما دور الإعلام في ذلك؟

أشك أن يكون ذلك حلاً، لأن فكرة »لتوجيه« أصلاً فكرة خاطئة، وقد عاناها العرب كثيراً عندما فرضها الزعيم الأوحد، والحزب الواحد في الأنظمة التي اصطلح على تسميتها بالشمولية. هذه الأنظمة لم تراع في حقيقة الأمر إلا مصالح القيمين عليها، وجلبت على البلاد الويل والثبور وعظائم الأمور، في حين أن المطلوب سياسة تراعي المصلحة المادية للشعب، وحقوق المواطنين جميعهم، بغض النظر عن العرق واللون والعقيدة. هكذا صارت أوروبا دولاً راقية غنية قوية ومتمدنة، أما السياسة الضيقة التي لا تحسب حساباً إلا لفئة من المجتمع فمصيرها الفشل. هي سياسة تدفع الفئات لأخرى »المهمشة« إلى التمرد والعصيان، عندها يظهر »الشغب« وتظهر »فرق مكافحة الشغب«، وتتحول الدولة إلى ساحة حروب تبدأ ولا تنتهي، كما حدث في غير بلد عربي. لهذا السبب يتوقع دارسون أن يحدث »الشغب« في بلاد أخرى لم تراع بعد قيم العدل والمساواة والحرية. وإذا كان الرخاء الإقتصادي في بعض الدول يؤخر »الشغب« فإن ظهوره آت لا محالة!

العرب يحتاجون إلى ثقافة جديدة معاصرة متحررة من ثقافة الغيب، ولن يتم ذلك على يد حكامهم. هي عملية طويلة تستغرق عشرات السنين، ومدينة مثل روما لم تبن في يوم واحد، كما يقول الغربيون في أمثالهم. لن يحرك عملية التغيير البطيئة هذه ويسرّعها إلا المتنورون، أصحاب العقول الذكية والضمائر الحرة والنفوس الحرة، والذين على يدهم وحدهم يحدث التغيير الذي يحتاجه العالم العربي، حاجته إلى الماء والهواء.

لقد ظهر ولا يزال يظهر في هذا العالم العربي البائس كثيرون من المتنورين، منهم من كتب ولا يزال يكتب، ومنهم الذي صرخ ولا يزال يصرخ، ومنهم الذي رحل بصمت، ومنهم من استشهد، لكنهم أحدثوا الحراك المطلوب في المياه الآسنة. هو حراك ضئيل قياساً إلى ما في البحيرة من ماء آسنة، إلا أنه يؤسس لثقافة حضارية حرة تحل محل ثقافة عربية بالية تقليدية لا تزال تفعل فعلها في حياة الناس وتحجب عنهم الضوء، وهي لن تزول إلا بعد وقت طويل، وزيادة عدد المتنورين.

أريد أن أثب من ميعان العاطفة وقد أبدو غير لائق، فأقول إن صديقي الشاعر نعيم تلحوق كان طلب إلي أن أكتب مقالاً في المجلة التي تصدرها وزارة الثقافة في لبنان عن »دور الإعلام الثقافي في توجيه المجتمع«، والحق أنه لو جاء الطلب من صديق آخر ليس له عليّ ما لهذا الشاعر الصديق من دالة لاعتذرت، لكني آثرت أن ألبي الطلب على رغم كرهي الشديد لعبارة »توجيه المجتمع«، خصوصاً أن المواطن العربي قد »شبع« بما فيه الكفاية من سياسات فرضها عليه الحكامون وأحزابهم في التاريخ المعاصر وعبر العصور.

أقول للصديق الشاعر الا يأمل كثيراً، ولا ينتظر الخير من » كنيسة خربانة وخوري أعور« كما تقول أمثال الجبل. التغيير الحقيقي لن يأتي من هذا النظام أو ذاك، ولا من هذا الحزب أو ذاك، ولا من هذا الزعيم أو ذاك، ولا من هذا المتمول أو ذاك، لأن القاعدة غلط، ولأن وسائل الإعلام مهيضة الجناج مسلوبة الإرادة، ولا يمكن،«تحت أي ظرف« أن تنتج فكراً خلاقاً واعداً، وهي ليست حرة لتدعوا الناس حتى يكونوا أحراراً!

العملية طويلة ومعقدة أيها الصديق الحالم دوماً. إنظر إلى ما يدور حولك من أنظمة ومن ثوار في فلك هذا العالم العربي الشاسع يأتيك الجواب اليقين! أما أصحاب العقول الحرة والإرادات الحرة، الذين بحراكهم وحده يكتمل التغيير الموعود، فهم ما زالوا في بلادنا قلائل، ملعقة عسل أذيبت في طشت من الماء، شجر يحتاج إلى وقت طويل لينمو ويزهر، ولا أخفي عليك اعتقادي أننا راحلون، ولن نعيش إلى زمن فترى أنت وأرى أنا أغصانه، حتى في أحلام عذاب!

)نشرت أيضاً في المجلة الصادرة عن وزارة الثقافة اللبنانية(