في ذكراها 38 الحرب المظلومة

معن بشور

منذ أن عشنا أيام تلك الحرب المجيدة في حياة لبنان والأمّة قبل 38 عاماً، والتي استمرت حةالي 90 يوماً، وأنا أتساءل كل عام عن سبب «تهميش» تلك الحرب والنقص في  الاهتمام بها شعبياً وثقافياً وإعلامياً وتوثيقياً، حتى بتنا نسميها «اجتياحاً» فيما هي في الحقيقة الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأطول في تاريخ الصراع العربي ـ الصهيوني، والتي خسر فيها جيش الصهاينة المئات من جنوده وكبار ضباطه، فيما قدم اللبنانيون والفلسطينيون والجيش العربي السوري والمتطوعون العرب، الاف الشهداء من مدنيين ومقاتلين، وكنت أتساءل عن سبب عدم إقامة المهرجانات والندوات والتحقيقات الإعلامية والمؤتمرات البحثية إلاّ نادراً عن حرب غنية بكل المعاني.. بل كنت أشعر أن وراء محاولات تجاهل هذا الحدث التاريخي في الماضي رغبة بمحاولات لرسم حاضرنا وإعادة ترتيب مستقبلنا بأشكال معينة..

فهل ظُلمت هذه الحرب، لأنها كانت حرباً عربية بالمعنى الكامل للكلمة، شارك فيها وطنيون لبنانيون، ومقاومون فلسطينيون، وعسكريون سوريون ومتطوعون عرب، فجسدوا وحدة النضال القومي وعروبة المعركة التي لا يخشى أعداؤنا شيئاً كما يخشونها، بل يسعون بكل وسائلهم إلى تفتيت مجتمعنا العربي وتشجيع كل قطر أو مكون من مكونناته على الانسلاخ عن الجسد الأكبر الذي هو الأمّة.

بل هل ظُلمت هذه الحرب، لأنها حرب شعبية بكل ما في كلمة شعبية من معنى، حيئ ارتسمت في آتونها معادلة ما زالت ترتعد منها فرائص الأعداء وهي معادلة مقاومة لبنانية وفلسطينية تواجه جحافل العدو من أقصى الجنوب إلى قلب العاصمة، وجيش عربي سوري يوقف تقدم العدو على أكثر من محور في الجبل (بحمدون، عين دارة)، والبقاع (السلطان يعقوب، وبيادر العدس) في محاولة مستميتة منه قطع الطريق بين بيروت ودمشق، وهو هدف استراتيجي لهذا العدو ما زال يسعى إليه حتى اليوم، وما قانون «قيصر» هذه الأيام إلاّ أحد عناوين هذا الاستهداف.

وهل ظُلمت هذه الحرب لأنه في رحمها ولدت مقاومة لبنانية وطنية وإسلامية، نجحت بدعم حلفائها العرب والمسلمين في دحر الاحتلال عن عاصمتها وأرضها وصولاً إلى ردع عدوانه عام 2006، فقبل هذه الحرب كان الدخول إلى أي منطقة لبنانية نزهة، وكانت كل حرب إسرائيلية في لبنان اجتياحاً (عام 1972، 1978)، ولكن بعدها بات الأمر مختلفاً..

ثم هل ظُلمت هذه الحرب لأنها كانت بداية تحوّل حقيقي في موازين القوى في المنطقة، وربما في العالم، فبات للحق قوة، بعد أن كانت القوة هي «صاحبة» الحق أينما كانت..

هل ظُلمت هذه الحرب، لأنها كشفت عجز وفشل أصحابها في تحقيق أهدافهم الرئيسية منها، وهي إخراج المقاومة من لبنان، وفرض اتفاقية صلح عليه ليكون البلد الثاني بعد مصر يوقع مثل هذه المعاهدة..

صحيح أن تلك الحرب أخرجت قوات المقاومة الفلسطينية من جنوب لبنان وعاصمته، ولكنها بالمقابل لم تنجح في إخراج روح المقاومة من لبنان، بل أنها زادتها توهجاً واشتعالاً وقدرات وحوّلت حركتها إلى رقم صعب في معادلة المنطقة..

وصحيح أن ذلك الاحتلال، وبرعاية أمريكية نجح في أن يفرض اتفاقية إذعان في 17 أيار 1983، لكنه بعد اقل من عام شهد ذلك الاتفاق المشؤوم سقوطه المدوي بعد حرب الجبل (آب 1983)، وانتفاضة (6 شباط 1983).

وقد يقول البعض أن من أسباب «الظلم» و«التهميش» الذي لحق بتلك الحرب المجيدة، هو أن إنجازاتها كانت صنع شعب رافض للغزو بكل مكوناته، وأمّة رافضة للعدوان بكل أقطارها، وبالتالي لا يمكن استخدامها للإيقاع بين لبناني ولبناني، وبين عربي وعربي، بين مسلم ومسلم..

ففي تلك الحرب، كما قاتل متطوعون عرب من سورية واليمن والعراق ومصر وأقطار المغرب العربي، قاتل أيضاً فلسطينيون من كل الفصائل، ولبنانيون من كل المشارب الفكرية والسياسية والاجتماعي، حتى يمكن القول أن ما شهدته العقود الأربعة التي تلت تلك الحرب لم تكن إلاّ محاولات لخلق شروخ وتعميق الانقسامات فيما بين أقطار الأمّة، وداخل كل قطر..

لقد جاءت معاهدت سايكس ـ بيكو في أوائل القرن الفائت لتجزئة المنطقة جغرافياً وأفقياً، ثم جاء المشروع الصهيوني ـ الأمريكي، الحرب المظلومة في لبنان أحد تجلياته، من أجل تفتيت بلدان المنطقة ومجتمعاتها اجتماعياً وعمودياً.

وحين ندعو إلى إخراج تلك الحرب إلى الأضواء وتكريم شهدائها من خلال تخليد أسمائهم في شوارع وساحات مدنهم وقراهم  كحد أدنى، والبحث الجاد في دروسها وعبرها ونتائجها، وتعميق معانيها ودلالاتها، فلأننا نعتقد أن انتصارات الأمم لا تتم إلاّ بتراكم إنجازاتها، وتكامل طاقاتها والبناء على ما جرى تحقيقه، وأن أبرز أسباب انتكاسات حركة تحررنا القومي في العقود السابقة هي أن كل جيل كان يريد إلغاء من سبقه من أجيال..

العدد 106/تموز 2020