الحصاد- بين الريشة ولوح الزجاج

الدكتور نسيم الخوري*

قد لا يتذكّر اللوح الأسود الحجري إلاّ من انتمي الى جيل عتيق مثلي إعتاد صغيراً أن يعلّق بلوحه طبشورةً هي أثمن من الذهب اللامع إسوارة رقيقة في زند أمّه براها الفسيل، وتبقى رمزاً للفقر والقيظ وأحلام المستقبل. يدسّ اللوح في كيس صغيرٍ من القماش الخام خاطته أمّه، يعلّقه في عنقه ويذهب صباحاً راكضاً حافياً الى مدرسةٍ مفترشاً الحصير للدراسة تحت السنديانة الهرمة. كان اللوح إطارٍاً من الخشب هو المساحة لأنظمة التعليم في المدارس وتكايا التعليم في لبنان ومعظم البلاد العربيّة من جداول الضرب الى علم الفلك وفلسفة الإغريق وحتّى علوم الدين… ألخ.

أتذكّر هذا اللوح الأسود الحجري أو ال Ardoise لمن كان وما زال يجهل إسمه بالعربيّة والذي خرج منه أساتذة الجامعات والعلماء من العراق العظيم إلى المغرب في كعب أوروبّا. من نسله ولد  »الآي باد«، معرّباً وعالمياً من دون الحاجة الى كتابته بالإنكليزية أو ترجمته أو سؤآل مجامع اللغة العربية عن إسمه ومعناه ونحن نجهل تماماً أماكن تلك المجامع وإجتهاداتها اللغوية تلفّها غبار المتاحف والذكريات.

بات الآي باد لوحة الدنيا وصندوقها المضيء بثقافات العالم ونصوصه ومنشوراته ولغاته ولهجاته وصورها الثابتة والمتحركة وأفلامها. كلّ ما عليها وما فيها محشور في هذا اللوح الغريب العجيب الذي يستعمله الأحفاد والأجداد. إنّه الحفيدة الرائعة بعد زواج الأذن والعين. العين تلك البويضة التي يمكنك أن تحشر الدنيا فيها من دون أن تخدش قشرتها. يا لهذا الزواج الهائل الذي يخلق أجيالاً لا تنتهي ولا تعمّر لقوّة الإبتكارات.

يقيم بين اللوحين تاريخ من الثقافات اللامتناهية التربوية والثقافية والسياسية والإعلامية وضف إليها ما شئت من ألفاظ وصفات مشابهة تنتهي بالياء والتاء المربوطة كما إعتدنا في نصوصنا العربيّة. إنّه تاريخ أشبه بسلّم يصل الأرض بالفضاء كما في بابل الأمس، وإليه نرتقي ونتخالط أجيالاً صامتة من مختلف الأعمار بكبس أزرارٍ لا تحتاج الكثير من المعرفة والعناء بل القليل من الخبرة والمهارة والخفّة في تحريك الأصابع. تكفينا السبابة وحسب. كلّما ارتفعنا درجة ضمرت الأشياء وتمّ إختزالها الى مستوى التغريدات في تطبيق التويتر مثلاً التي تجتاح البشر ونشرات الأخبار وترسّخ كسلهم في الكتابة الطويلة حيث كساد الحبر والأقلام المصفوفة أمامنا عاطلةً عن العمل لا تهدى ويسألك حفيدك ما هذا؟؟؟. نعم. معظم نشرات الأخبار ووسائل الإعلام وما تبقّى من الصحافة المكتوبة يصارع لاهثاً خلف عصر الحذف والإختزال والتراند مع تفشّي ثقافة الصدفة والعشوائية والفوضى التي تفرضها عادات الإدمان على الآي باد.

كنّا في ما سبق نعاني من مطوّلات الصحافة المكتوبة قبل أن تخضع الصحافة النصوص والمقالات لعددٍ محدّدٍ من الكلمات. إنقلب العصر وغاب قرّاء المطوّلات والشروحات التي لا تنتهي. مات ذلك العصر الذي قال فيه صحفي بإعتزاز لرئيس تحرير جريدته :

ما هذا الحجم الضخم والرائع؟ تستلزم جريدتك خمسة كراسي لفلشها وقراءتها. عندما ظهرت الجريدة الرسمية في فرنسا مثلاً أثارت موجات من الإعجاب والسخرية والنقد، فاعتبر إحدهم معلّقاً أن جمع ثلاثة أعداد منها كافية لصناعة  »بارافان« أي حاجز كامل بين غرفتين!

وقد علّق رسّام الكاريكاتور معتبراً أنّ طموح العصر الصحفي بالنسبة إلينا هو الوصول الى طباعة جريدة بحجم الشانزيليزيه أو ال Champs de mars قرب برج إيفل. لماذا؟ لأنّ حجم الصحيفة بالإختصار كان يعكس في الأذهان مستوى عبقرية الأمة والصدر الرحب وطموحات الدولة وعظمتها.

تخرج الصحافة العربية مثل غيرها من المكاتب الواسعة المتماهية بمساحات السلطات، وينحشر فيها الكتّاب في أقفاص زجاجيّة وعيونهم وأصابعم معلّقة بالشاشات الزجاجية، وأحياناً تراهم في مساحات مفتوحة في بريطانيا وأميركا إذ سقطت الحواجز في المكاتب والمنازل لمصلحة الميادين المكشوفة لامتداد البصر في أثناء العمل. تبدو وكأنّك تصافح الصحفيين الذين يشغلون قاعة التحرير بيد واحدة، وتسمعهم بأذن واحدة وتراهم جميعاً بعين واحدة. وكلّما دخلت المكان الضيّق ينتابك كرب واختناق لضيق لا يطفئه سوى كوب من الماء في المكتب الذي يشغله وحيداً رئيس التحرير. ما أن يفتح الزائر باب المصعد الذي لا مرآة فيه، حتّى يجد نفسه مرتبكاً داخل المؤسسة وبوجهه عاملة الهاتف إذ لا مجال له للتنحنح أو لحك الشعر أو تمشيطه ولا لتسوية الهندام ولا وقت للمقدمات والتأتأة والوشوشة. المهم المباشرة بالموضوع من دون مقدمات ومداخل كلامية طويلة تشبه مداخل البيوت في جبال بيوت العرب المسقوفة بالعرائش وتنك الياسمين والمساحات الصغيرة الخضراء. غابت المساحات المألوفة التي تمهّد للصحافة مثل القيلولة وشرب القهوة والتدخين ومضيعة الوقت في أخبار الأمة العربية، لأن الوقت ضيّق يتّسع للإنتاج الذي يعني المال: The time is money.

تنحدر الصحافة المكتوبة نحو شاشاتٍ من ضوءٍ مهدّدة بانقطاع الكهرباء، لتضيف تراكماً جديداً في الصحف القصيرة القامة بالحجم الإنكليزي النصفي الصغير أو tabloid الذي ذهبت إليه الصحافة ذات عصرٍ، ولكلّ عصر جنونه ومعاييره المرتبطة باقتصاد المؤسسة وتقنيات الطباعة والتوزيع لكنها خاضعة أيضاً لطريقة التصفح عند ركوب القطارات أوإتقاء العواصف والأمطار والحفظ.

يتحوّل القرّاء الى كتّاب ومصوّرين أو يمتهنون إعادة كتابة النصوص في أثناء قراءتها وتتضاعف اللذة في حركة السبابات ونضيع في البحث عن هوية للزمن العربي في عصر الميكروكومبيوتر والطائرات التي تسبق الصوت والقطارات السريعة ومجلاّت الجيب وصحف الجيب والميني مقال؟

تلك قصة تطول والمساحة هنا أهديها إلى الحصاد الضوئيمنخرطاً في العصر وأنافس أحفادي مع أنّني أسمع اللوح الأسود يناديني منذ ما قبل الميلاد نحو حفيف الغابات المطحونة ورقاً جاهزاً للتحبير بعدما هاجرت العصافير والطيور منها الى عصر الكتابة الضوئية فوق ألواح الزجاج تأخذنا كما الأطفال بأيدينا من الساعات الزجاجية في معاصم البشرية الى الكومبيوترات المصفوفة فوق المكاتب وفي الأحضان مروراً بالشاشات التي لا نهاية لأشكالها ووظائفها.

وكأنّ الدنيا عالم مسطح من زجاج!

* كاتب لبناني وأستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه

العدد 106/تموز 2020