نافذة على الحياة.. »وطلحٍ منضودٍ«

سهير آل إبراهيم

كان لابنتي الصغرى في بداية مرحلة الدراسة الابتدائية زميل اسمه طلحة، وكان اسمه غريبا بالنسبة لها. قالت لي يوما انها تشعر بالاسى نحو ذلك الصديق لانها ظنت ان والديه عجزا عن ايجاد اسم له فما كان منهم الا ان اختاروا بعض الاحرف العربية عشوائيا فظهر لهم الاسم طلحة كما يظهر الأرنب من قبعة الساحر! زاد استغرابها ودهشتها عندما اخبرتها ان كلمة طلحة تعني (موزة)!

يحتل الموز، وبالتحديد قشوره، ركنا جميلا من ذاكرة الطفولة، اذ كانت افلام الرسوم المتحركة تكرر مشهد انزلاق بعض الشخصيات الكرتونية على قشر موز ملقى على الارض، كنا نضحك كثيرا كلما تكرر ذلك المشهد، بل نضحك بلا ملل رغم تكرار المشهد.

الموز ثمرة لذيذة الطعم غنية بقيمتها الغذائية، ولكن ديدن بعض البشر غض الطرف عن المحاسن والبحث عن السيئات، فإن لم يجدوها اوجدوها !

الموز فاكهة مشؤومة تجلب النحس للصيادين، فمركب الصيد الذي يحمل ولو موزة واحدة يتعرض للاهوال اثناء الابحار وان نجا وعاد الى الشاطيء فسوف يعود خالي الوفاض! يسود هذا المعتقد بين الكثير من الصيادين في جزر الكاريبي ومناطق اخرى من العالم، حتى ان الكثير من مراكب الصيد هناك تحمل تعليمات مشددة تمنع الصيادين والعاملين من حمل الموز معهم على متنها، وقد يعيد القبطان المركب الى الميناء الذي انطلق منه للتخلص من تلك الثمرة المشؤومة!

يذهب البعض منهم بعيدا لدرجة منع الموز وكل ما يتعلق به أو يشير اليه، مثلا منع الصيادين والعاملين على المركب من ارتداء الملابس التي تحمل العلامة التجارية Banana Republic أي جمهورية الموز، حتى وان لم تظهر على تلك الملابس صور أو رسم الموز، أو منع استخدام مستحضرات وقاية البشرة من التأثير الضار لاشعة الشمس ان كان لاسمها أو علامتها التجارية اي صلة بالموز كما هو الحال مع مستحضرات Banana Boat وترجمتها قارب الموز.

يقول قبطان احدى سفن الصيد في جنوب ولاية فلوريدا الاميركية انه يتبع نظام تفتيش صارم قبل الابحار لضمان سلامة الرحلات، اذ يقوم باستجواب الركاب وتفتيش امتعتهم تفتيشا دقيقا بحثا عن الموز أو أي طعام أو شراب أو مستحضرات يدخل الموز في تركيبها، من ذلك الحلويات والسكاكر الصغيرة التي تحمل اسم الموز أو شكله أو نكهته، ثم يفتش ملابسهم والرسوم التي تزينها وعلاماتها التجارية، حتى انه يدقق الرقعة الصغيرة التي تحمل العلامة التجارية لملابسهم الداخلية، اذ توجد شركة أميركية لانتاج الملابس الداخلية الرجالية تحمل علامتها التجارية رسم مجموعة من الفواكه، فكان يفتش سراويل الرجال ويقص منها تلك الرقعة ان كانت السراويل من انتاج تلك الشركة! عندما قيل له ان لا وجود للموز في صورة مجموعة الفواكه لتلك العلامة، قال انه كان موجودا في السابق، ورغم ان الشركة غيرت الصورة قبل عدة سنوات الا انه ظل يشعر بالتشاؤم وعدم الارتياح من وجود تلك الرقعة الصغيرة ملصقة بسروال احد ركاب سفينته! يوضح ذلك القبطان الدافع لتلك الدقة والصرامة في التفتيش هو ان دفة سفينته كانت قد تعطلت خلال احدى الرحلات بينما كانوا بعيدا وسط المياه، شك بالأمر حينها ويبدأ يبحث عن السبب واذا به يجد ان احد الركاب قد قام بـ (تهريب) بعض الموز معه على متن السفينة! وعند سؤاله ان كان ذلك المعتقد سائدا بين جميع الصيادين، قال ربما يتشاءم نصفهم من الموز ولا يعنى نصفهم الاخر بالامر، لكن، والكلام له، بالنسبة للمتشائمين فقد يؤدي وجود الموز على متن مراكبهم الى وقوع احداث مفجعة !

يعود تاريخ ذلك المعتقد الى القرن الثامن عشر، عندما كانت السفن الشراعية تنقل الموز عبر مياه البحر الكاريبي، غربي المحيط الاطلسي. كان على تلك السفن ان تبحر سريعا لضمان وصول الموز بحالة جيدة وتلافي تلفه. سرعة الابحار تلك لم تكن مناسبة للصيد الذي يتطلب صبرا ووقتا قد يطول احيانا، لذلك عُرف لدى الصيادين آنذاك ان السفن التي تحمل موزاً لا تحمل سمكاً، فصاروا يعتبرونه ثمرا مشؤوما، ومما زاد في رسوخ ذلك الرأي غرق بعض السفن التي كانت تنقل الموز؛ مراكب أبحرت حاملة الموز ولم تعد أبدا.

للاسف هناك تاريخ طويل للعنصرية ضد الافارقة ومن هم من اصول افريقية. يعتقد بعض معتلّي العقول ان الافارقة اقرب الى القرود منهم الى البشر، ومن المتعارف عليه ميل القرود لأكل الموز، لذلك صار الموز رمزا عنصريا. في اوروبا بالتحديد ومنذ امد طويل يقوم العنصريون برمي الموز على اللاعبين ذوي البشرة الغامقة كما حصل في نيسان عام 2014 خلال احدى مباريات كرة القدم في اسبانيا، حيث رمى احد المتفرجين موزة على اللاعب البرازيلي الاصل داني الفيس، الذي التقط الموزة حينها وقشرها واكل منها قليلا. ضجت مواقع التواصل الاجتماعي حينذاك بذلك الحدث تأييدا للاعب داني واستنكارا للتصرف العنصري البغيض لذلك المتفرج.

في الشهر الخامس عام 2017، قام مجموعة من الطلبة العنصريين بتعليق الموز مربوطا بحبال على هيئة مشانق حول الجامعة الامريكية في واشنطن، اثر انتخاب اول امرأة سوداء لترأس اتحادا للطلبة هناك!

بعيدا عن التشاؤم والبغض والكراهية، يحتل الموز موقعا مهما لدى بعض الشعوب، اذ له اهمية كبيرة وحضور بارز في اعياد ومهرجانات الهندوس مثلا، كما ان لشجرة الموز رمزية خاصة في اعراس التأميل، حيث تربط النهايات العليا لاشجار الموز ببعضها لتشكل قوسا يمر من تحته العرسان، ايمانا منهم ان تلك الاشجار تجلب البركة والسعادة وان المرور من تحتها يؤدي الى التمتع بحياة زوجية طويلة هانئة.

اما في الفولكلور التايلاندي فهناك معتقد ان روح أو شبح انثى تسكن نوعا محددا من اشجار الموز البري، اسم تلك الروح نانك تاني، وهي كما يتصورونها امرأة جميلة ذات شعر طويل كثيف داكن السواد، ترتدي ملابسهم التقليدية باللون الأخضر ولها بشرة خضراء تماثل لون شجرة الموز التي تسكنها، يلتف حول خصرها وشاح اخضر ينبعث أو يتصل بالشجرة. يقال انها تظهر في الليالي التي يكتمل فيها القمر! يعتقد من يُؤْمِن بوجود تلك الروح ان قطع ذلك الصنف من اشجار الموز يجلب النحس وسوء الطالع. تقدم النذور لتلك الروح فتوضع امام الشجرة الهدايا من حلوى وزهور واعواد بخور وشرائط من اقمشة ناعمة ملونة تُربط حول جذوعها. تصف بعض الحكايات في تايلاند تلك الروح انها روح محبة وسلام، لكنها قد تؤذي الرجال الذين يسيئون معاملة النساء.

يصف بعض العرب الموز بـ (قاتل أبيه)، حيث يجب اقتلاع شجرة الموز بعد انتهاء الموسم لاجل زرع واحدة جديدة في مكانها. اعتقد ذلك الوصف يقول الكثير عن مَن فكر به واوجده!

و هكذا نجد ان الموز لدى مختلف الاقوام يقع على طرفي نقيض، فمنهم من يعتز به لدرجة تسمية اطفالهم بأسمائه ومنهم من يجده نحسا وشؤما ويتجنب حتى الاقتراب من اسمه… تعددت المعتقدات والموز واحد!

العدد109 /تشرين2020