سلوى البنا أو ست الحسن

عبيدو باشا

تكتب سلوى البنّا، إلى جمهور محدد. جمهور تعرفه وتستطيع أن تتوقع ردود أفعاله، لأنه جزء من حكاياتها المروية على صفحات رواياتها. مرويات، لا تتعالى، عن حدود الهويات. الهوية بصمتها الضاحكة أمام التغيرات الجذرية في عالم الألفية الثالثة. الهوية هم لا مقلب، مع كبار الكتاب بالعالم. يفترض الأمر، تنظيم الفضاءات الشخصية في حدود تعرف بالهوية الشخصية. كل هوية شخصية هوية عامة، تكثف شخصية جماعة، جمهور، إلا إذا وقع صاحبها بالإرتباك. الهوية رحيلها الدائم إلى وطن لا يزال مثيراً للإنتماء والحب من خلال الإنتماء: فلسطين. إلا أنها بإقامتها في لبنان، تضيء حضورها الفلسطيني في انبعاث دائم في مغامرة البحث بالأشكال من خلال العيش في لبنان. عيش مخصب باللاإلتباس، من خلال إنضواء بيروت في مشاريع الحداثة الكبرى. لا تقتبس وهي تخالط بين النزعات، لأنها لا تغادر صورة شهرزاد، بعد أن نجت الأخيرة من موت محتم من خلال استعمال الحكاية في تنويم شهريار على انتظار الجزء الآخر من الرواية غير المكتملة. يفترض بحضور شهرزاد حضور  »ألف ليلة وليلة«. حضورها

سلوى البنا

حضور إضافة، ما دام الكتاب العظيم لا يزال كتاباً ملمهاً لمئات الكتاب أو الآلاف في مختلف أنحاء العالم. تستلهم كتاب المقامات هذا، بالإفتراض لا بالإقتباس. هكذا، لا يجيء ذكر الكتاب المذكور إلا بالصفحات الأخيرة من  »ست الحسن« الصادرة عن دار الفارابي في بيروت. الصفحة 228 بالتحديد. ألا أن مسار الرواية لا يُدرك إلا بدوران رواية سلوى البنّا في محيط الرواية الكبرى، بالكلام والكلام على الكلام. بالرواية والرواية على الرواية. رواية وراء رواية. غير أنها لا تبقي مروياتها في أحضان المناخات والصياغات المعروفة في ألف ليلة وليلة، مادام كلام الفرسان والفارسات، هو كلام وضع لبن الحداثة على شفاه الرواية وكافة الأعمال الفنية والثقافية الأخرى. تطمح بنا إذن، إلى إن ترضع جديدها هذا الجديد، معلم الصعود من طابق إلى طابق ومن طبقة إلى طبقة. إلا أن الحداثة نحل يعقص أو ينتج الأعسال، بحسب قوة الكاتب أو الكاتبة وقدرتهما على صياغة إبداعهما أو حياكته في المطروح الجديد. بين القصد والرغبة والوصول إلى الأهداف المعلنة وغير المعلنة، معوقات كثيرة، يظهر بعضها في رواية البنا الجديدة، آخر رواياتها.

سُرادق وطنية، رواية  »ست الحسن في ليلتها الأخيرة«، باستعمال فنون الرواية المعروفة، أو السعف الأول في كتابة الرواية. الحكاية وما يدور حولها من ارتعاشات الألم والمباغتة. ذلك أن عجين الرواية، عجين العادة. ما لا يؤدي إلا إلى كتابة رواية عادية، إلا مع بعض المقذوفات الجديدة.

كل شيء بالرواية، بهدف اتمام القصد. ولو أن النتائج تقع في استطالة فروع الرواية لا أكثر. أبواب الكون هنا. الحيوانات الرطبة، التتمات الحتمية لسير البشر القاهرين والمقهورين، الطين والديدان، الغربان والغزلان، البئر والملجأ، الحفر، حاويات العظام، الزهور، عقود الرهن البدائية بين البشر، فضاءات التاريخ. تشتبك خيوط لا تحل إلا بالصفحات الأخيرة، بعد أن يقتل الأخ أخاه. قابيل وهابيل بلا إسميهما. ملائكة وأمساخ، لا يُفبركون حضورهم. لأنهم حاضرون بالواقع. موجودون في الواقع المعاش، تستعيرهم الرواية لكي تصعد في مروياتها من الواقع إلى الواقع ممشوحاً ببعض الخيالات اللازمة بكتابة رواية. إلا أن الرواية، وهي تضبط ظلمات الأرض الراهنة، تسلح نفسها بالأحضان الأدبية: الرومانسية والشعر والفتازيا وتشرب الواقع العدمي. السماء، هنا، محض قياس بشري. الأرض، هنا، محض قياس بشري. ثمة ذوات جاهلة بالحياة. لا تعرف الحياة، لأن الحياة لم تتعرف عليها. ضرورة. لأن الذوات، هذه، تقودها الراوية، في نزيف دم يتعذر مسه، إلا بالتصدي له. الرواية رسم لا تجسيمي، لبلدان لا تبدي دماراتها ومداراتها أية فروقات (لبنان أو فلسطين أو العراق أو ليبيا أو اليمن…). تتسمر الراوية أمام تلك المصيدة الواسعة، وهي تُمارس دورها المختار. دور راوي الظلام الطالع من أجباب الموت. لا موت مغاير هنا. تهب الراوية حضورها للقيامة، ضد الموت المغاير. ثمة ما يرتبط بالكتب القديمة. ثمة مايرتبط بالأسرة القديمة. حاضر الساعات بين الماضي والمستقبل. تتأمل سلوى البنّا الأشياء بالآمها. تطوب بذراعها، رواية الداء اللاعرضي الفاحش. داء احتواش الظلمات بحجة احتواش الضوء. هذا هو حكمها الأخير. أن تتداول درجات الألوان فوق هول الشرخ المفاجئ. لا يخفى على أحد، أن سلوى البنّا تقف عند المفارق، لكي تروي تلك المشاهد غير السوية المتراقصة، داخل إطار النماذج السائدة. كل مشهد يستدعي المشهد الأخر. كل بلد، يستدعي البلد الآخر. تروي الفلسطينية ما جن بالشام، تمر عبر بطاقات التصوير الضوئي إلى اليمن. كراس الكيمياء مفتوح على البلدان العربية. مفتوح بين البلدان العربية. لم تحمل آلة تصوير، كما يفعل عابر حديقة. الكتابة غير مرفهة إذن. إذن، سوف تراوح الإنتفاضات الباطنية بالنص في حجم النص المنشور. رواية تأخذها الأحداث إلى حيث تأخذها. لاالعكس.

 ما ترويه سلوى البنّا حكاية عادية، تصعد بعلاقات الرجال بالنساء. الأخيرات تحملن حقائب ملأى بالأحلام، حين لا يحمل الرجل إلا ذكورته على كتفيه. الرجل صنم والإمرأة تستهلك كما تستهلك أوراق التبغ. لا سرايا بهية ولا أسواق لائقة بالتجارة. ما ترويه رواية حياة. حياة بطبقتين. واحدة تستدعي الأخرى. هكذا، نقع في التضمين والتضمين، على الرغم من الإحكام الكثيرة المرشوشة بالرواية، كخلاصات لا هرب منها في بعض الروايات العربية (لا نتكلم هنا عن إلياس خوري ولا حسن داوود ولا هدى ونجوى بركات ولا علوية صبح…). أحكام، يزلزلها فالق الرواية الأخير، حيث تصور الرواية بطلتها وردة وهي على قدر من الإعتلال الواضح، بجسد وروح أقرب إلى الموت من الحياة. جسد مفرغ من الروح تحت الحرارة العالية. هكذا: بعد أن تكسو الرواية الرواية، بقطن الرواية، تعيد الرواية إلى البداية في لحظة النهاية. نهاية البداية وبداية النهاية. طوبى لست الحسن استفاقتها من حماها، الأقرب إلى تطويب ملك. تزول الحمى فجأة، كقيام مجنون. حمى لا حرارة ولا حر. حجة إنهيار السقف على الدرب. لا رواية إذن. ذلك أن حجة الكلام لن تلبث أن تحتج على ما رآه القارئ مقبلاً من بعيد. وإذ يقترب يغيب من جديد. حين تغيب الحجة بدون دراماتورجيا تغيب الرواية. وهي تغيب في الخروج من الحمى بدون تبرير، كما يحدث في أكثر النهايات في الأفلام العربية القديمة. روايات كثيرة في رواية واحدة، بنوع من الفدرلة. لا شيء فيها سوى الدم المسفوح يغمر الجميع. أبطال الرواية في المقدم. نخبٌ لا تتعب وهي تنهض وتقعد وتقوم وتنهض. رؤى ملبسة بقشرة جير. وحين يتقشر الجير في صفحات الرواية الأخيرة، حين لا تدَّعي الراوية شيئاً، سوى أن تؤكد أن جل ما حدث لم يحدث، إذ أنه ناتج الهذيان من قوة الحمى. كتابة بالإمحاء. مشاهد مكتوبة بهذيان من أصيب بالحمى. كُتبت الرسالة، ثم جرى إمحاؤها. لأجل خير الكتابة. إذ أن لحظة الإلتباس، هي لحظة الكتابة القصوى. جرى ما جرى. رأت وردة ما جرى في هذيانها الجرثومي، فقط. احتمالان همَّا الرواية، بعد مشاهد القتل والمجون والحيوات الضيقة المعروضة على وسعها. ولد يضاجع والده. الوالد يقوم بإخصاء الولد. الولد يقتل الأخ. ثمة صالة عامة من الأحداث. ثمة صالة خاصة من الأحداث. ميمون لَقيط الشيخ مقبل، يركب الشيخ مقبل كما لو أن الشيخ حصاناً. تزخر الرواية بصفوف الأسماء. لكل إسم دور. الأدوار دور واحد يصفي الأدوار. بعدها تجيء الراوية، لكي تصفي الرواية. تمحقها، لا لأنها لا تريد أن تقدم رواية فاخرة. لأنها ترى الفخار برواية، تنجر بالختام كالنعش على جليد بلون النحاس. الراوية هي الرواية، لا الرواية. حيث تلعب الراوية دور شهرزاد، بدون أن تمنح نفسها اسمها وبدون أن توقف شهريار على صحائف الخرائط المزيلة بالتواقيع والشروحات. تروي البنّا، حتى تتطهر بالرواية. تروي البنّا، حتى تبقى حية. نمط تعلمته الراوية من رعشات الراوية الأولى. لزم الأمر، لا ساعات تذكر كثيرة. لزم الأمر، العبور في غرف الرواية الملتهبة، إلى دعوة أصحاب الحيوات إلى التجمع بعيداً من أفران الزمن الواضحة.

الرواية طريق الهرب في أروقة الإضاءات الخافتة والظلام الماجن، إلى الحلم بالحياة. كتابة سلوى البنّا، كتابة رصاص يسيل أمام العينين. تجري الأحداث عمياء حتى اللحظة الأخيرة، حيث تسيل الحياة بدل الرصاص، على ظهور الغائبين والحاضرين من من تذكرهم الرواية أو تمر على حضورهم حضور المقادير المختلفة. للغياب أكثر من هدف بالرواية. رواية تسميها الكاتبة حياتها.

تفتح الرواية أبواب القفص الكبير، حين تسلم الرواية إلى مفاتيح الصوت. الإنفجارات أولاً. عودة نور، الضابط المتقاعد إلى الحياة. عودة زوجته شهلا إلى الحياة. عودة حسن، بعد أن جرى قتله على خطوط التماس. عودة وردة أو ست الحسن، بعد أن سبيت وأهينت. ثم حررت. حررت من التهاوي بالأسر والتهاوي بالمرض. لا شيء غامض ولو ساد الغموض. إنها صدمة التكفير ونهر دم لا يتوقف وما تبقى من كسرات فكر الإنسان، بعد أن تكسر من كثرة الإرتجاج. لن تفك طلاسم العقد وأصوات صريرها إلا بعودة المدن إلى أبواب بيوتها المزنرة بالياسمين. الياسمين رمز. الرموز تعكس الأشياء الخلفية، وهي تحاول ترميمها على عتبات الوقت. الرواية ترمم. تبوح الراوية بما باحت به. ثمة، ما تتركه كأنين عميق. تفارزت الأصوات، غير أن صوت الموت واحد. بسوريا والعراق واليمن (حجل إبن الجارية اليمنية المتروكة بالبئر). كل شيء محرم موجود. ليليانا الثمرة المحرمة. الشيخ فواز الإبن الحرام. كلهم أبناء حرام على مقلب. سطام راعي الماعز، من لا يجرؤ على النوم مع زوجته وهو يعلم أن الشيخ ينام معها. يضحي عنّين َ، حين يقترب من وردة. هنا تتوقف الرواية أمام كريات المحامل الجاهزة. يضحي الرجل الفحل على صدع وردة كشرشف متروك بالشمس، حتى تجففه الأخيرة مما علَّق به من هيجان المرحلة.

تستنفذ الراوية قواها، وهي ترسم المشهد البانورامي بصوره الجذابة والأقل جاذبية. هناك هبوبات معلقة على التمسح بالخطو المعجز، غير المفهوم، كعفرين. مشاهد المحكمة، لا تولد العنب على شفاه القرّاء. مشاهد كاريكاتيرية، تتذكر وتذكر بالمسرح البشوش.  »ست الحسن في ليلتها الأخيرة« زفرة وقت، بغناء وريح وماء تسيل على أرض، حيث يطمح الساكنون بأرض بلا سادة ولا أسوار. دوامة، ترن ناقوس الفرض الأخير. الإرهاب طلقٌ عقيم بالأراضي النارية.

 هذه الرواية، تروي رواية العبيد العابقين بالعبودية

من حولتهم الظروف والأحداث إلى إرهابيين، لا يعيشون إلاعلى أبواب جهنم. الأرض جهنم العالم هنا.

العدد110 /تشرين الثاني2020