رحلة إلى جزيرة مايوركا

رؤوف قبيسي

قبل نحو عشرين عاماً زرت جزيرة مايوركا الواقعة على الساحل الغربي الإسباني، وقضيت فيها أياما قليلة لم تكن كافية لأعرفها كما يجب أن يعرفها السائح الفضولي، أو  »المتشوف الطلعة« كما في لغة الشيخ الجليل عبد الله العلايلي. ثم زرتها بعد تلك الفترة الطويلة وقضيت فيها اسبوعين بضيافة صديق عزيز. هي جزيرة جميلة، ومن أجمل جزر العالم، وأهلها والقاطنون فيها من الأجانب يقولون إنها تغيرت وتغيرت كثيراً. زاد سكانها وكثر فيها العمران، وكثرت أعداد الوافدين إليها من السياح، إلى درجة أن بعض سكانها الأصليين بدأوا يطالبون بتخفيض السياحة إلى ديارهم، حتى لا تتأثر حياتهم وأنماط عيشهم بما هو  »غريب«!

مهما يكن، لا تزال مايوركا تحتفظ بطبيعتها الخلابة ومناخها المعتدل صيفا وشتاء. وهي ليست مثل جزر كثيرة في بحار الدنيا، يأتيها السائح ويشعر بعد فترة قصيرة بشيء من الملل، أو بما يشبه الملل. عاصمتها بالما، عامرة بالطاقة والنشاط والفرح، وفيها مئات الفنادق والمطاعم والمقاهي، والمحلات التجارية على اختلاف أنواعها، إلى جانب المتاحف والمسارح ودور الفنون. يأتيها السياح من أطراف الدنيا، وهي المصيف المفضل للعائلة الملكية الإسبانية. من أبنيتها التاريخية المشهورة عالمياً كاتدرائية  »سانتا ماريا« المشيّدة على الطراز القوطي، وكان العمل بها بدأ في العام 1230، وافتتحت رسميا في القرن السابع عشر، ويقع على جانبها قصر  »ألمودينا« الذي بناه الأندلسيون المسلمون.

مايوركا هي أكبر جزر البليار، أو الجزر الخالدات كما سماها العرب، ولدى الزائر العربي الذي يزور إسبانيا شعور دفين بالرغبة في رؤية سمات عربية أو أندلسية، وفي العاصمة بالما ما يشبع هذه الرغبة، إذ سبق أن حكمها المسلمون، وسمات ثقافاتهم لا تزال بادية في عدد من المباني والقلاع والقصور، وفيها أيضاً مظاهر متنوعة من مختلف الثقافات. كانت معسكرا للرومانيين، ومن بعدهم جاء الوندال واستوطنوها، وكلمة أندلوسيا مستمدة من اسم هذه القبائل الجرمانية. ويملك العرب في مايوركا هذه الأيام شققاً ومنازل فخمة، وكان الراحل اشرف مروان، وزوجته منى جمال عبد الناصر من الذين اشتروا العقارات في الجزيرة، كما الراحل رفيق الحريري وعائلته. من بينهم أيضاَ كان الأمير الراحل طلال بن عبد العزيز، ورجل الأعمال السعودي الراحل كمال أدهم، ومن اللبنانيين، رجال أعمال منهم عصام فارس وشارل رياشي والإعلامي بسام فريحة. كثيرون من الملوك العرب زاروا الجزيرة، مثل الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز، والسلطان العماني الراحل قابوس بن سعيد. وكان أشرف مروان وكمال ادهم وشارل رياشي قد تملكوا عقارات مختلفة من بينها فندق  »سان فيدا« الذي يعتبر أفخم فندق في مايوركا. يكفي المرء أن يزور هذا الفندق ليرى في بهوه صوراً لشخصيات عالمية نزلت في أجنحته المطلة على أجمل المواقع الطبيعية.

الوجود العربي في بالما ليس بالحجم الذي هو في مدريد أوبرشلونة أو ماربيا، ومعظم الذين يصطافون فيها هم من رجال الأعمال الأثرياء، وفيها نحو 15 طبيباً يعملون في مجالات طبية مختلفة، منهم ثلاثة اطباء لبنانيون. يقول طبيب العيون المعروف ناجي نجم، وهو من بلدة شحتول في قضاء كسروان، إنه يؤثر مايوركا على أي مكان في إسبانيا وأوروبا. زار الدكتور نجم إسبانيا قبل نحو عشرين عاماً ووقع في حبها كما يقول. كانت لديه عيادة في بيروت، لكنه أقفلها وترك لبنان بعد حرب تموز. زوجته وبناته ما زلن في لبنان، وسيأتين ليعشن في مايوركا. هو مفتون بالجزيرة، وجمالها يذكّره بجمال لبنان، وفيها يتنشق هواء بلده. المناخ ذاته، الطبيعة ذاتها، والشعب مسالم لا يعرف العنصرية، و »هنا لا أحد يسأل الآخرعن دينه أو مذهبه«!

يقول طبيب القلب العراقي فوزي لازم الذي يتردد إلى الجزيرة كل عام تقريبا، إن أكثر ما يعجبه في مايوركا فنادقها ومآكلها الشهية. درس الدكتور فوزي الطب في العراق، ثم جاء في بعثة إلى لندن واستقر فيها، وهو يعمل حالياً في مستشفى  »كينغز كولدج« في لندن. مايوركا تعني له المكان المريح البعيد عن ضوضاء لندن والمدن الأوروبية الكبيرة. في مايوركا التقينا ايضا رجل الأعمال اللبناني الفلسطيني عماد رشاد البيبي، الناشط في تجارة السيارات، ويملك ورشة لإصلاح السيارات في الطرف الغربي من لندن. أخبرنا أنها المرة الثالثة التي يزور فيها مايوركا، وهو يحب المكان، ويود أن يقضي فيه فترة من كل عام. كان في ما مضى على وشك أن يشتري عقاراً، لكن الأسعار في مايوركا الآن لم تعد كما في السابق، وهي اليوم الأعلى في إسبانيا. حين قرر وزوجته قبل اشهر أن يحولا جزءاً من ودائعهما في البنوك اللبنانية ليشتريا داراً في الجزيرة، كان حظهما العاثر، مثل حظ معظم اللبنانيين الذين فُرضت القيود على ودائعهم في المصارف اللبنانية!

من رجال الأعمال العرب الذين بدأوا في الآونة الأخيرة التردد إلى ماربيا المحامي السعودي حاتم عباس الغزاوي، وهذا قرر أخيراً أن يجعل مايوركا مقر عيشه الدائم. أخبرنا أنه كان يتردد سنويا إلى جزيرة إبيزا، لكنه بعد أن تعرف إلى مايوركا صارت هذه الأخيرة خياره الأول من بين جزر البليار، ومن بين مناطق إسبانيا كلها. أخبرنا أن ما يعجبه في الجزيرة جمال الزهر والشجر، والشواطىء والجبال، ويعتبرها مكاناً مثالياً له كأب لبنات صغار. يعجبه سكانها ويصفهم بأنه  »شعب حار، عاطفي ومضياف«. درس حاتم الغزواي المحاماة في لندن، وهو شغوف بالأسفار وثقافات الشعوب ويسعى إلى شراء منزل له في الجزيرة، ويتطلع إلى دراسة اللغة الإسبانية، يساعده في ذلك تمكنه من اللغة الفرنسية. كثيرون من الفنانين والممثلين يسكنون في مايوركا، وكثيرون من الأثرياء الفرنسيين والألمان اشتروا عقارات فيها، ومنهم من يسكن في الجزيرة على مدار السنة، والجاليتان الألمانية والفرنسية، هما أكبر الجاليات الأجنبية في مايوركا. هناك أيضاً بريطانيون واميركيون كثيرون، وزائرون من بلدان مختلفة. من الممثلين المشهورين، الأميركي مايكل دوغلاس وزوجته الممثلة كاثرين زيتا جونز، وهما في نظر بلدية ماريوركا من اشهر المروجين للجزيرة.

مساحة مايوركا نحو 3700 كلم مربع، ويبلع طول ساحلها البحري نحو 550 كلم، وفيها سلاسل طويلة من الجبال والهضاب، وأعلى جبل فيها يبلغ علو قمته نحو 1450 مترا. سكانها نحو مليون نسمة، وسكان العاصمة بالما نحو 400 الف نسمة، ويدخل الجزيرة نحو عشرة ملايين سائح في السنة. في كتب التاريخ المدون إنه بعد العصر البرونزي، غزا الرومان الجزيرة واستوطنوا فيها، وكان ذلك في العام 123 قبل الميلاد. بعد الرومان جاء الفندال وضموا مايوركا إلى امبراطوريتهم الأفريقية الشمالية، وفي العام 554 ميلادية حكمها البيزنطيون، وفي عام 902 غزاها المور المسلمون، وبقيت تحت حكمهم 327 سنة، تارة من جانب الخليفة في قرطبة، وتارة من مملكة دانية قبل أن تسقط هذه الأخيرة بيد مملكة أراغون. ومن يزور مايوركا لا بد أن يلاحظ الآثار الثقافية والدينية والعمرانية التي أحدثتها غزوات الشعوب المختلفة التي احتلت الجزيرة، ولا شك في أن الحقبة الإسلامية تركت هي الأخرى مؤثرات واضحة في اللغة والثقافة والمآكل والموسيقى، ما جعل الأمة الإسبانية شعبا فريداً مميزا في أوروبا من هذه النواحي جميعها.

مثل كل المناطق السياحية في العالم في العالم تأثرت مايوركا بجائحة كورونا، وانخفض عدد الزائرين إليها، وكثير من الفنادق والمطاعم الراقية أغلقت الأبواب، والادارات المحلية في الجزيرة تعمل ما بوسعها للتخفيف على السكان، خصوصا من أصبح منهم عاطلاً من العمل. أموال طائلة تنفق على مساعدة المتضررين من هذه الجائحة، حتى أن إحدى الوزيرات في حكومة جزر البليار، كتبت إلى الحكومة المركزية في مدريد تطلب المساواة في توزيع المساعدات المالية وغير المالية، وبلغ بها الحرص على المساواة بين الناس، أنها طالبت بمساعدة بنات الهوى اللاتي تراجع نشاطهن بسبب جائحة كورونا!

في زمن كورونا هذا الرديء، الذي نعيشه ونعاني منه، ليس من السهل السفر، لذلك يبقى التروي والانتظار افضل من المغامرة وركوب الأهوال، فهذه الفيروسة المخيفة وما تفرضه على الناس من حجر صحي وغير صحي، جعلت طرائق العيش في بلاد العالم كله متشابهة، لكن إذا ملّ المرء من مكانه، وآثر الترحال على العزلة، سيجد في جزيرة مثل مايوركا، ما يبتغيه من بدائل، وما يفرج عنه همومه، ويخفف عنه الكثير من الملل.

العدد 110 / تشرين الثاني 2020