هذا انطوان كرباج : اكتمال الحواس في يوم غامض

عبيدو باشا

يعرف عن الثعابين تدويرها لمواقفها. هذا رجل لا علاقة له بالثعابين . لأنه لا يحلق ذقنه من أجل إجتماع. ولا يطيلها من أجل آخر. لا يفرح أمام صورته على المرآة ، كما من يقف امام مرآته لكي يرى نفسه كحجر من احجار الدراما وهو لا قمر ولا شجرة . عاطل عن العمل تحت قمره الناقص . هكذا يقول لنفسه وهو لا يدري انه يدور في جنازته . لا يقول انطوان كرباج ، كرم الله وجهي . لأن وجهه مكرم ، كرم كوليد جديد بعيداً من المساواة . لأنه لم يقف على خاتمه الا بعد ان امتحن ، بحضور جنود المسرح وضباطه في مدرسة المسرح الحديث ، حيث لا يكرس الا من يمشي بالدم . لا من يعوم في كأس بابونج . فكر مسؤول المدرسة بعد الرجل القادم من زبوغة . لم يتخل عنه ، اسنده الى جداره ، حتى ضج الجمهور بعريس المسرح الجديد في ” الملك يموت ” ، اذ بدا الأرجوان يزغرد بعرس ، سمعت زغاريد الحاضرين فيه الى مداه البعيد . ترك كرباج سلال الأرجوان حوله بعد ان قدم ملكه ، عن نص للكاتب الروماني / الفرنسي ايوجين يونيسكو . مذاك ، هناك في سماء المسرح ملائكة . احد البارزين فيهم انطوان كرباج . يمتلك كرباج عينين مفتوحتين على الدهشة الدائمة . عينان تنظران الى العالم وكأنها لا تزال في مراقبة الضوء بالملح .طيب ، فطري . يرقص كما يغني ويغني كما يرقص . ويؤدي حتى آخر التعب . ولكنه لا يصاب بالشلل على المنصات ، حيث لا يتعب ولا يتعب الساهرون .يعرف الأصدقاء والرفاق والزملاء ، أن شهر عسل انطوان كرباج على المسرح ، بعد طقوس الزواج . وأنه مختلف في كل شيء عليه . سيحسن اختيار النصوص والممثلين والمخرجين . لن يختلف على الوجبات معهم . لأنه يختار من لهم هدف واحد معهم ، من له هدف واحد معهم . شعوبه الحية هنا . انطوان كرباج على المسرح ، كالعلم على السارية فوق المؤسسة الرسمية . ذلك انه باتفاقه على الأهداف مع المسرحيين ، لا يرى إلا ما وراء الهدف. . خفيفاً، خفيفاً، يسبق احلامه . هكذا ، قدم مسرحياته كما لا تقدم بقية المهن . قدمها كطريق الى الحرية . كالفجر في الملك يموت وزلمك يا ريس وبربر اغا وبلا لعب يا ولاد وعشرات المسرحيات الأخرى . صخرة تتنهد على المسرح وطلة اثنين بواحد في التلفزيون . وهو لم يفترق عن السينما ، حين وجد في بعض الأفلام مطلقه .

لا يفزع ، انطوان كرباج ، من الإرتطام بالأشياء والأشكال والناس . لأنه يجد في الارتطام نزهة ، خط سحاب ينتظر ان يرى الصيف في اخره . ولكنه لا يتهور ، كما لو أنه حمامة تبيض على فوهة بركان . ولمَّا يصل الى اجتماع ، لا يحفل الا بمن سوف يراه. الباقي تفاصيل.حيث لقاء الاصدقاء المحترفين والهواة ، مشوار الى الجبل او الى البحر ، ترفع فيه الكؤوس والمفاجآت . لأن هذا الطيب يطيب له ان يبقى قروياً بالمدينة ، يحب العرق والماء والغناء . ولن ينسى في مشاغله الكثيرة ان يوقظ كاسات العرق في بستانه ، ليشرب ككاهن في المهبات . ثم ، أن هناك باب واحد على سمائه: الوطن . وطن واحد ، يؤمن به جميع اولاده . لذا ، رفض ان يتهم بالخوف من سماع صدى موقفه بالمجال هذا ، ليخلف الفراغ الآدمي في حرب العام ١٩٥٨ بالقفز فوق المناطق المجمركة باحزابها وفئاتها وطوائفها ومذاهبها . لم يخش دبابة او مصفخة او ناقلة جند او عسكري على حاجز يستقبل العابرين بصوت الغراب . ولأنه كذلك ، راح يسمع اجراس الشروق في منطقك واجراس الغروب في منطقة اخرى ، هو السوري القومي الاجتماعي ، من لم يطلب احد منه ان يكون ذلك . يرى بيروت من زبوغة ويرى زبوغة من بيروت وهو يتجول كسلالة على الطرقات المحفوفة بالمخاطر . اعتقل ونجا ، لأنه لم يتهم الا بما هو فيه . عنده، لا قابيل قابيل ولا هابيل . عنده ، ان يقتل الاخ أخاه . لأن الإثنين قرنا ثور واحد . يدفع الغيب ويدفعه الغيب ، يرفعه كشبح معلق على ايمانه . هكذا ، نجا من سراب البلاد وهي تدور في حروبها واجتياحاتها ، منذ حرب العام ١٩٥٨ وحتى حرب العام ١٩٧٥، وصولاً الى ولائم الخراب الأخرى .حروب تأكل العظام . إلا إنها لم تأكل عظام أنطوان كرباج . حين أعتقل بحرب العام ٥٨، راح يجيب على اسئلة معتقليه : انا المعتقل أنطوان كرباج. نام بتدابير على مشقة وافاق على فرج ، بعد تدخل احد النافذين بين المتحاربين .كأنه بحث عن قيامته في موته ، حتى وجد نفسه يمشي خطاه على خطاه ، وحيداً ، منفرداً، متفرداً. لا يخشى شيئاً، بعد ان وجد ان الجامع كتاب واحد . اذ أن الإنجيل قرآنه، والقرآن انجيله .

لم تدهم الناضح بالفطرة التعاويذ. أبداً. حين دقت الطبول برأسه سابق الرصاص والأحداث. حيث وجد بالمسرح أخيه الثاني . بحث عنه ، بعد ان حاول السياسيون سرقة الكلام من أفواه المواطنين . التاريخ حقله الأول ، غادره ، نساه كالأيام خلفه ، لأنه اذ بحث عن هدوئه لم يجده الا بصخب المسرح ، بالصخب بالمسرح . انتظر استاذ التاريخ تاريخه خارج التاريخ ، ليصدق احلامه ويكذب ايامه على ذهب السابقين لم يعد نفسه للرحيل ، اذ حلق فوق الأبيض المتوسط ، كشخصية من شخصيات شاغال . مذاك ، أحكم المسرح قبضته عليه كما أحكم قبضته على المسرح . ما إنتبه منير أبو دبس لطالب مدرسة المسرح الحديث وهو يهبط كل يوم في محترفه . بدا أنه مشغول بصناعة اعلامه في تلك المرحلة من ستينيات القرن العشرين . انطوان ملتقى ، لطيفة ملتقى ، ريمون جبارة ، رضا خوري ، وغيرهم . وجده على كتفه ذات يوم وهو يزمع الطيران خلف قافلة الغرباء . هذا زمن الإمتحان، حيث ترتفع فيه انصاب ويسقط فيه شهداء . قصد أنطوان كرباج مطعم “الديك الذهبي” بشارع الحمراء(بيروت ) ليشرب جرة نبيذ يقدمها المطعم مجاناً ، اذا طلب الطالب نصف فروح . اراد ان يواري بالنبيذ خوفه من ما ينتظره في مسرح نزلة المركز الثقافي الألماني ، المؤدية الى كورنيش المنارة . أراد أن يشرب ليخفف توتره . شرب وانتظر دوره في صالة مسرح مهرجانات بعلبك ، بحيث لا يبدو قليل القوة أو الحيلة أو كثير الخجل . شاب من الذكاء بحيث وجد أن رعاية مثوله ، بحضرة مؤسس تجربة المسرح الثقافي بلبنان ، لن تقوم إلا على ترك النفس في المساحة الغامضة ، ينأى فيها ويدنو ، من قوة المشروب المسكر . سكرٌ لكي يمر القطار سريعاً، بعيداً من الهشاشة والإقصاء .

كلما مر طالب على المنصة إقترب دور الكرباج . وكلما إقترب الدور قل الهواء برئتي الشاب الطموح الغائص بحقول قطن المسرح . لم ينس أبو دبس شأناً من شؤونه وهو يدير الطلاب على المنصة، كما ينصرف قاطع التذاكر للمسافرين . طلاب من أعيرة ثقيلة . عشرات الأبدان والإسماء على المنصة . صور بصندوق فرجة. لم يحص سوى قتيل واحد ، يوم الامتحان .سقط قتيل واحد إسمه أنطوان كرباج. لإنه حين نظر إلى المصائد لم يتعثر بالجثث. وقف بالصالة وكأنه يقف بباريس أو لندن. وقف على طفولته ، قمره من نواحيه ، سحابته من نواحيها . طفولة ملأت النفس بالضفاف دوماً. وحين هم بأن يأتي بعد ان انتظر، مرر ابو دبس موساه على ذقنه،حين سأله عن من يكون وعن ما جاء يفعل في يوم ولادة النجوم على شجر المدرسة / الحلم . لم يحكه ككائن . حكاه وكأنه لم يكن ولن يكون . يروي أنطوان كرباج ( لقاء خاص) أنه إكتشف أن منير أبو دبس لم يلحظه يوماً وهو يداوم ، بلا انقطاع ، في نهره . وبدل ان يموت من هذه القطيعة ، اضحى محطة استقبال لا محطة وداع . وقف على رصيفه . هكذا بدا . ثم ، راح يؤهل بنفسه على رصيف ابي دبس ، بحيث اضحى الحاضر / الغائب هاتفاً لا يتوقف عن الرنين . مر بنفسه ، قبل ان يودِعَ نفسه بنفسه ، إذ لم يسمح لهذا الخطأ أن يقيم القطيعة بين أمسه وغده . لم يواجه الموقف بوضع مكياج خفيف على الوجه.أو بالسماح لأحصنة المدرسة / المحترف أن تسبق بونييه . هكذا : قفز وسط حرائق الروح وهو يرى ميلاده الحرون امام عينيه . نظر إلى الأمام ، ثم مشى . ثم ، قدم مشهده متخطياً فوضى اللحظة على باب القيامة . قدم مشهده وعبر. مشهد إكتمال الحواس في يوم غائم ، اخرج كرباج من ماء بئره كفراشة . تلك لحظة الأمثولة . تلك لحظة رفع الطيون عن العيون . لإن كرباج فرض نفسه كقمر محلق فوق صورته. امتلأت النفس بما فاض بالمعنى . قيل يومها ان الناس سمعوا المسرح يقول : سلاماً ايها الرجل الصغير . سمعوا المسرح يقول : لن تغيب بعد . لأن غيابك حذو في الوديان السحيقة . دون اسم كرباج بدليل المسرح . أنكر أولاً. بعدها : وقوف على برجه ، لا برج الميزان ولا برج العقرب . مذاك ، وجد فيه المعلم خنجره . وجد فيه دليله إلى الأفراح مع ” الملك يموت”، كوكب المسرح على سطوح الثقافة . اذ وجد فيها النقاد ( أنسي الحاج في النهار ، كمثال ) كل ادوات القلب والوجدان. هذه خطوته الأولى بين ايائل الوادي بلغة لاح فيها صوت الطفل مرفوعاً على صنوبر المسرح . بعدها مشى البطل حذو نفسه ، إثر رفض الطلاب في مدرسة المسرح ان يلعبوا ادواراً ثانية او ثانوية مع حارس اللازورد الجديد ، بعد ان اصطفاه ابو دبس لأخذه الى أيامه البيضاء الجديدة .رفع انطوان كرباج ماضي المسرح على حواضر الحادثة ، مساهماً باحياء تجربة المسرح ، بعيداً من الهة الزراعة ، حين سقط المغادرون على مسرحهم الآخر في ” حلقة المسرح اللبناني ” . حرك كرباج ، باخراج ابطال المدرسة الى حلقة المسرح اللبناني ، تجاعيد البحيرة ، بحيث لم يعد احد يقول ، لا احد سوى مدرسة المسرح الحديث . تكاثرت النجوم اكثر . نجمة ، نجمتان ، ثلاث ، عشرات النجوم . لأن الواقع لم يراوح امام اولها ولا آخرها . تعدد وتنوع ، بعيداً وقريباً من نشر الذكرى على الخواطر واستشراف اسم الرياح الجديدة . اقام التنافس بين المدرسة والحلقة زمن السيف والمزمار. جنباً الى جنب . هكذا ، جرى قتل الآحادية المسرحية بلا قتلى . بانت الفرق ، بانت الطرق، المناهج ، النبض ، النفس ، الروح . محترف بيروت للمسرح مع روجيه عساف ونضال الأشقر . بدا يعقوب الشدراوي مليئة بالرسائل ، جلال خوري ، شكيب خوري ، فرقة المسرح الحر مع اندريه جدعون ومادونا غازي ، فرقة المسرح اللبناني للدراما مع ميشال خطار وغيرهم . حتى ان ميشال نبعة وانطوان كرباج اسسا في ذلك الزمن الخرافي فرقة ، بعد ان تأملا طويلاً بقرار ابو دبس الاستمرار بتقديم اعماله باللغة العربية الفصحى بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧. خذوا من القصائد ما تشاؤون . انها مرحلة الوجع والفرح والفرق والطرق والرجع . لا جرة واحدة ، لا جرة مكسورة . جرار على طريق النبع ، لا يبكي اصحابها صوت الماء . هؤلاء اولاد المسرح الثقافي، بعد احتراقهم واختراقهم بالأسئلة . ثمة سؤال عضال عانى من طول المسافة ، طرحه العاملون في مدرسة المسرح الحديث : من ما يقرأ منير ابو دبس علينا . تعود القراءة الى ماضي الأقوياء . قرأ الرجل على رجال المسرح وسيداته من ” اعداد الممثل ” لستانسلافسكي ، بدون أن يفصح عن مصادر خبزه ، كفافه وكفاف الآخرين ، من من هالهم نثره البصري على المنصة ، اضواء لا تتفشى على وجوههم . تركهم بالعتمة ، بعيداً من رغد انكشاف الوجوه على المشاهدين .المغادرة ، الطرد ، الحلول ، التقمص ، من انطوان كرباج .وحين اكتشف كتاب المسرحي الروسي ، توضح ان الجميع وقعوا في شرك جمالياته بعد أن اضحى الصوت والصدى بالمسرح اللبناني .

منذ ان أطل انطوان كرباج على المسرح ، بدا و كأنه رجل على عجلات . انه الفرد الحشود ، من ضيق على رفاقه في المدرسة حتى خرجوا عليها ليتباهوا باخضاع التجربة لهواهم لا هوى ابو دبس إثر رفع النقاب عن ستانسلافسكي . اذاك ، قفزوا من التخمينات و” غلاظة فكر ” أبو دبس إلى مكر المنافسة. كل مسرحية بمسرحية. واحدة ببعلبك وواحدة بجبيل . أو نص واحد بمسرحيتين ( واحدة للمدرسة وأخرى للحلقة ) . احداهما على منصة مهرجانات بعلبك والأخرى على منصة مهرجانات جبيل. شراسة لا تلطيف عجمة. مبارزات مفتوحة على وسع الكلام ووسع الأشكال . نص واحد بجوربين . جورب صوف وجورب نايلون. وراء الغمز المتبادل بين التجربتين من لم يتعب من صفاته . اخرج كرباج أنطوان كرباج المسرح من الأسباب إلى النتائج .

لعب أنطوان كرباج دوره الباهظ بخروج المسرح من صورته كجزيرة معزولة الى فلك ، كون. تمرين أولاً ، ثم مسرح خطوات كاملة. هذا أول التدوين. ثمة محطة بارزة أخرى بالمسرح بعد خروج الجنون من نفقه ، إثر هزيمة العام ١٩٦٧ . عندها : قفز كرباج فوق هاوية الهزيمة ، ليفيض بالتفتيش عن النفس مع رفاق المسرح ، من لم يستسهلوا درب الصليب الجديد وهم يرون كواكبهم تؤتى ولا تصل. ذلك ان القاتل لم يغير اقواله وهو يجلس خلف الباب ليرى انحراف العالم العربي عن نصوصه . ذهب القتيل ضد الحروف الغامضة الى كتابة بالعامية . كتابة تجد . محطة اخرى في المسرح . عدم إستسهال الأعطال والأعطاب، كما فعل منير أبو دبس اذ استمر على قراءة المسرحية بالفصحى قبل العرض وبعده ، بحجة ان الفصحى ” تُغرِّب”. لم يقبل أنطوان كرباج أن تصفعه الأحداث بدون أن يثبت أقدامه ، لأنه ما أراد أن تظهر قدميه كقدمي راقصة. بسط خده للعامية بدون أن يودع استاذ الفصحى. بداية سهرته الخاصة مع ميشال نبعة بمسرحية “الدكتاتور” . هي مرحلة تحديث لا حداثة . لم يصب بتوتر الأعصاب بعد أن وقف في وخز الدم . ما اثار اشارات حول الخلاء والهباء والعبارة والسطح والباطن . سؤال الهوية بالمقدم . منذ ان نطق أولى مسرحياته الواقعية الأكيدة لا الخيال وحده. اولاها عناية الممرضات بالمرضى . كل مسرحية حدث. اضحى يقود لا يقاد . الكرباج بطلٌ لا يتعب ولا يندم . تعلم الكلام مع الدمامل بروح المؤمن. لا موت بحياته بعد، مع تواتر المشاعر والمشاهد والصور والنصوص ، بعيداً من غبش التشابه . انه ماكبث في مسرحية شكسبير . أورست في ” ذباب” سارتر . ملك يونسكو في ” الملك يموت “وأوديب وهاملت وفاوست والمهرج بنص الماغوط وأبو علي الأسمراني وما سيكون على أكمام مسرحيات الأخوين رحباني من منزلة . قائد روماني في مسرحية “بترا”ولص بمسرحية “المحطة”واليوزباشي عساف في “صيف٨٤٠”لمنصور الرحباني. الكرباج جان فلجان “البؤوساء “مع باسم نصر بتلفزيون لبنان ومفتش ” لمن تغني الطيور ” وبربر آغا. الكرباج ساعة المسرح والسينما والتلفزيون يقرأ الوقت بين منزلتين من منازل حروب البلاد .إغتال نزيه خاطر بطلقات فشك في مقهى ، بعد ان طلب منه ان لا يدخل ولا يخرج من مسرحية له .رفض رشوة الرئيس أمين الجميل حين جاءه مدير امنه العام طالباً منه أن بعض التعديلات على نص مسرحية ” زلمك يا ريس”. كرباج المترجم والمقتبس والمؤلف. كرباج رب العائلة والإنسان. كرباج الأيقونة ، من اخذه الكثيرون نموذجاً حتى قلدوه ، حين عبرت صوره الى الحالمين بنجوميته وابر ضوئه . حين بق جنون الآخرين صوره على اجسادهم .

لم يصدق الرجل رصاص الحروب ، لأنه مسالم . ولأنه لم ير الطريق السريع الى الوطن على جثث القتلى . نزل الرجل من الحياة إلى القصص. نزل كما ينزل على درجات مدهونة بالسخونة . لم يلعب دوراً لأن الأدوار نعناعه، جناحه، مابوسعه ، حنينه الى الطيران وهو ينبت من الأرض كوليمة غير معدة .مناضل بالمسرح ، وزع الحلوى على المسرحيين كما لو مسه مس. حكمة لا طيش . ثم أنه لم يسمح يوماً بتخثر الدم بشرايين العائلة. لمَّا خصص ادواره العظمى للعائلة . لا زوج مكسور ولا أب لم يسمع الإيقاع ولم يتبعه في الطريق الى نوافذ العائلة على الجهتين . الكرباج على أرجوحة التكريم بالمهرجان الوطني للمسرح اللبناني بدورته الأولى ( الهيئة العربية للمسرح ووزارة الثقافة) . وحاز وسام الاستحقاق من درجة فارس بعد ان وجد اللبنانيون في ما انجزه انجاز اهل البحر لا البحارة . لم يعرف الرجل الى اين يذهب والى اين يعود . لأن المسرح حكايته ، اودعها سلامه كما اودعته سلامها.

يعرف عن الثعابين أنها لا تلبث أن تغير رأيها بعد اتخاذ رأي. هذه درجة من درجات البحث. السياسيون كالثعابين، يمدحون ورق الجدران . ثم لا تلبث مواقفهم بالإرتجاج ، حين يجدون في الدهان فكرة لا عذر من التنصل منها. هذا كلام أكلام أو كلام جروح . لم يقع أنطوان كرباج في أفعال الثعابين . ولن يقع . لأنه اليوم لا يعرف ما يدور ، لا انه ابن امه ولا ماانجز وفعل في كوكب المسرح . لا منفي ، لا في الصحراء ولا في البحر . يردد اغنية المسافر للمسافر بعد ان وجد سلامه المستحيل في عهدة رجال صالحين وسيدات صالحات في دار للرعاية ، بعيداً من الأزمنة الثقيلة . معززاً ، مكرماً، حراً، لا يهتز جناحاه في احتفالات المسرح وكأن رعشاته القديمة تركت في انية . لن يطير بعد وهو يجلس على النافذة ولا يتذكر . لا يتذكر ، ولكننا لن ننسى . سوف نبقى نتذكر .

العدد 124 / كانون الثاني 2022