الحاكم والمحكوم كما رآهما أرسطو

محمد علي فرحات

نعيش حرباً في بلادنا منذ عقود، وها هي تنتقل الى اوروبا قلب العالم، والحرب في معناها المباشر هي انسداد افق السياسة. وهي ايضاً انقطاع الحوار وطغيان سوء الفهم على الفهم. انها بالمعنى العميق حرب أهلية بين الثقافات تنتهي الى احتراق هذه الثقافات وسيادة قيادات جاهلة، بحيث ان الاجساد تسود وتطغى على العقول والمعاني.

ومن أوائل الذين تناولوا السياسة وتبدل الأحكام والحكام، المعلم الاول أرسطو، خصوصاً في كتابه “في السياسة” الذي نقله من اليونانية القديمة الى العربية الأب اوغسطينس بربارة البولسي اللبناني.

لم يستخدم أرسطو تعبير “الحرب الأهلية”، لكنه حين يعرض لانقراض الأحكام أو لصيانتها، فهو يتناول جوهر الحرب الأهلية من حيث هي فوضى الصراع على الحكم. ذلك ان تبدل الأحكام تبدلاً جوهرياً لا يحصل الاّ نتيجة صراع، غالباً دموياً، على الحكم. وهذا الصراع يتخذ شكل حرب بين المحافظين على الحكم والداعين الى انقراضه من أجل حكم يتصورونه جديداً. لكن الأمر لا يعدو كونه صراعاً دائماً على السلطة منذ وجدت الدولة في التاريخ. وهو صراع يؤدي بالضرورة الى حروب أهلية من دون أن يفقد ارتباطه المتين بالحروب بين الدول.

ويبدو مفيداً الاطلاع على ملاحظات ارسطو عن تبدل الأحكام أو انقراضها، فهو في بدايات نشأته كفيلسوف، اضطر الى طلب الأمان لنفسه فغادر موطنه أثينا خلال اضطراب الأحوال في اليونان قبل خطوة التوحيد القسرية التي قام بها فيليبوس المقدوني، ففي مثل هذا الاضطراب تتكشف الأهواء المتوترة وتتصاعد أجواء التعصب والتحامل، وتتداخل المصالح العليا بنزعات التحاسد والانتقام. وفي مرحلة لاحقة يغادر أرسطو موطنه أثينا ثانية بعد وفاة الاسكندر المقدوني في بابل، طالباً الأمان أيصاً من الاضطرابات والحملات الشخصية التي تلبس لبوس الأفكار العامة في أزمة الفوضى المرافقة للانتقال بين حكم وحكم. وبين المغادرتين عاش أرسطو معلماً للاسكندر وشاهداً على الفترات الجامحة لحكمه والحروب الصغيرة ثم الكبيرة التي خاضها في آسيا القريبة والبعيدة، كما شهد فترات وفاء التلميذ الاسكندر لاستاذه أرسطو وفترات غضبه على الأستاذ. وفي الحالين تتبدى صورة الحكم الكبير في لحظات القوة والتماسك ولحظات التفتت والضعف.

والى جانب وقائع حكم الاسكندر شهد أرسطو تجارب الدول اليونانية وعلاقاتها، بعضها بالبعض الآخر، وتبدلات أحكامها وحكامها. واتيح له أن يطلع على نماذج متعددة من الحكم وعلى تحولات الأحكام سلماً وحرباً.

يحدد أرسطو أربعة أنواع من الأحكام والسياسات، هي: الملكية، حكم الأقلية، الحكم الشعبي، حكم الأعيان. ويضيف اليها نوع خامس مفترض وغير موجود في الواقع. انه “الحكم المدعوّ سياسة”، فهو الاسم المشترك للسياسات.

وأنواع الأحكام هذه لا تلزم لها صفات محددة، انما كل واحد منها يبدأ وينتهي، يقوى ويضعف. والنوع الواحد يمكن أن يتصف بالعدل والتراضي ثم يمكن في أحوال أخرى أن يتصف بالطغيان. ذلك أن صفة الحكم لا تتحدد بحجم الحاكمين وثروتهم وأفكارهم فقط، وانما بمسار الحكم وتحولات الحاكمين والمحكومين، فهي تؤدي في أحيان كثيرة الى جعل الحكم طغيانياً ثم الى انحلاله. ويبدو أن أرسطو لا ينظر الى نمط من الحكم وينسب اليه العدل المطلق والديمومة، ذلك أن المساواة التي تحفظ الأحكام هي أمر دقيق التوازن ولا يمكن استمراره كما هو. ثمة دائماً صراع بين القوى الانقلابية والقوى التي تحفظ الأحكام وتصونها.

وفي تحولات عملية الحاكم والمحكوم، هناك عملية طغيان تقابلها عملية ثورة. ومقابل النقيضين الخالدين ثمة حالة التوازن والاعتماد على طبقة وسطى غفيرة العدد، وهي حالة دقيقة طالما كانت معرضة للخلل.

وهنا مقاطع منتخبة من كتاب أرسطو “في السياسة”:

  • ومن عمل الطغاة أيضاً إغراء بعض المواطنين على الوشاية بالبعض الآخر، وتحريش الخلان على خلانهم، وسواد الأمة على وجهائها، وحمل الأغنياء على التطاحن، وإنزال الفاقة بالمرؤوسين (بأخذ) ثرواتهم وانفاقها على الحرس كي لا يتفرغوا للدسائس والمؤامرات. ونرى نموذجاً لتلك الخطة السياسية في تشييد الأهرام في مصر، فتلك المشاريع وامثالها تعني أمراً واحداً، هو كدح المرؤوسين وفقرهم المدقع.

ومن الأمور الطغيانية ايضاً ان لا يرتضي الطاغية فرح الرعية بشيء جليل ونبيل يشعرها بالأنفة والاباء. إذ لا يحسب الطاغية اهلاً لهذه المشاعر الا نفسه. ومن يزاحمه في الجلال والاباء فهو يحرمه من تفوق وسيادة طغيانه.

ومن طبع الطغاة أن يأنسوا بالغرباء في مآدبهم، أكثر مما يأنسون بالمواطنين، وأن يؤالفوا الأجانب في حياتهم اليومية، لأن المواطنين أعداء في ظنهم، فيما الغرباء لا ينافسون ولا يزاحمون.

  • يثور البعض طمعاً في المساواة، إن حسبوا انهم ينالون أقل من أهل الوجاهة والثراء. والبعض يثور رغبة في عدم المساواة وفي التفوق.

ويثور أهل السفه والظلم بسبب الخوف، دفعاً لما قد ينالهم من عقاب. ويثور الذين يخشون أن يلحق بهم جور، لأنهم يرومون من ثورتهم ان يتلافوا وقوع الأذى والضيم.

والسياسات تتبدل بلا ثورة، بواسطة الدسائس (…) وتتقلب السياسات من حال الى حال بسبب التهاون في الامور الصغيرة. وأعني بهذا كون الشرائع المرعية تنحرف عن أصلها انحرافاً بليغاً، من دون أن ينتبه ولاة الأمر في غالب الأحيان لذلك الانحراف البليغ، وذلك عندما يستخفون بالأمور الطفيفة.

وتثور الدول أحياناً بسبب حدودها. عندما لا يصلح تكوين البلاد الطبيعي لقيام دولة واحدة.

  • ان خير مجتمع مدني هو الذي يعتمد على المتوسطي الحال. وان الدول التي يتاح لها أن تحسن السياسة، هي التي تكثر فيها الطبقة الوسطى، وتقوى فيها تلك الطبقة على الطبقتين الأخريين، أو أقله على كلّ منهما.

وأفضل الأمور في كل حكم سياسي، هو أن تنظم الشرائع والادارة الداخلية بأسرها تنظيماً محكماً يجعل مناصب السلطة لا تؤتي اصحابها مغنماً. وتترتب مراعاة هذا المبدأ، في كل سياسة، ولا سيما في أحكام الأقلية. لأن الكثيرين حينئذن لا يستاؤون من اقصائهم عن الرئاسة، لا بل يبتهجون لأن الولاة يدعونهم في راحة لينصرفوا الى شؤونهم الخاصة. إلاّ أن الأكثرية تستاء استياء كثيراً عندما تظن ان الحكام يسرقون اموال الدولة. وحينئذن هناك امران يزعجانها: اقصاؤها عن مناصب الشرف، وحرمانها مما تغنم من تلك المناصب.

العدد 128 / ايار2022