(قل ولا تقل) إشكالية واقع لا لغة

لم يكن العلامة العراقي الدكتور مصطفى جواد هو أول من أراد ان يلفت انتباه الجمهور بضرورة المحافظة على اللغة العربية وقواعدها من الاندثار ورد العامّي من الكلام الى الفصيح بكتابه الفريد (قل ولا تقل)؛ خاصة وأنها لغة القرآن الكريم. فقد سبقه الى ذلك الكثيرون ليس في عصرنا هذا فحسب بل منذ العصر الإسلامي الأول. فقد كان الإمام علي بن أبي طالب الخليفة الراشدي الرابع هو أول من تنبّه الى هذه الإشكالية والى أن الناس بدأت تلحن في اللغة فكتب رقعة فيها إنّ الكلام كلّه اسم وفعل وحرف وفصل فيها القول وأوعز لكاتبه أبي الأسود الدؤلي أن ينحو عليه مثل هذا النحو فسمّي هذا العلم بالنحو. وقد توافد العلماء واللغويون دائبين في تثبيت قواعد الكلام العربي مهتمين باللغة ومعاني مفرداتها فألفوا المعاجم. ومن كثرة اهتمامهم باللغة وقواعدها وآدابها نشأت مدارس مختلفة نتيجة لتعدد آراء العلماء واختلاف مصادر شواهدهم.

إلّا أنه من المهم أن نذكّر ان اللفظ القرآني كان من أهم الشواهد التي استند اليها النحاة واللغويون كونه من أقدم النصوص؛ وهو بعد وثيقة لا يمكن لها أن تتغير وتتبدل. وقد اتفق جميع العلماء على اختلاف مشاربهم وأهوائهم على صحتها وقوتها وتماسكها.

ولذلك نرى كثيرا من النحاة واللغويين أخذوا على عاتقهم تفسير القرآن الكريم حسب توجهاتهم ومناهجهم. فأخذه النحويّ من وجهة نظر نحوية فيما أخذه البلاغي من ناحية  البيان والبديع والبلاغة. إلّا ان الأمر الذي لا يختلف عليه أصحاب الاختصاص إنّ القرآن الكريم  يشمل كل هذا مجتمعا وأكثر ولا يكفي أخذه من خلال منهج أو اتجاه واحد.

إنّ الاهتمام الكبير الذي جرى على أيادي العلماء بمختلف اتجاهاتهم ومناهجهم لم يكن ليأخذ صداه في مجتمعاتنا العربية والإسلامية كما ينبغي. كون العقبات الكثيرة التي ينوء بها المجتمع منعته من الاستفادة القصوى من هذه الفرصة الكبيرة. وبالنتيجة بقيت مشكلة المحافظة على اللغة العربية وقواعدها تتحدى العرب بانتظار من ينبري لإيجاد حلّ لها.

ان (قل ولا تقل) محاولة جادة في تعريف الناس بإشكالية دامت أكثر من ألف عام ومحاولة تفكيكها على أسس عصرية جديدة. لكن مثلها كمثل غيرها من المحاولات أخذت صداها الزمني المحدد وبيئتها المحددة وثبتت في مكانها مستقرة حتى وصل الكتاب الى حدّ أنك لو سألت أحد اليافعين في عصرنا الحاضر عنه وعن مؤلفه فسوف يحير جوابا. والعلة في ذلك ليس بسبب صعوبة اللغة وتشعبها. بل لأن الحضارة التي تلبسناها لم نحسن التعامل معها فأخذتنا بعيدا عن اللغة وحلاوتها وطلاوتها وإعجازها الفذ. وبتنا أمة تقرأ لغاتا أخرى بكل حرص وتمعّن لكنها تجهل لغتها وهذا قمة التنكر للأصل.

ان صاحب كتاب (قل ولا تقل) حاول ان يلفت انتباه الخاصة قبل العامة أن اللغة يجب أن تمارس لا أن تدرس؛ يجب أن نشعر بها بدواخلنا لا أن نستعملها كما نستعمل الآلات من أجل خدمتنا. يجب أن نعايشها وأن نتعايش معها قبل ان نجعلها أداتنا في الحياة.

ان من بديه القول ان اللغة العربية هي صاحبة المفردات الأكثر جذورا بين اللغات ؛ إذ انها تتوفر على ستة عشر ألف جذر مقابل ألفين وخمسمائة جذر للغة العبرية فيما تشمل اللاتينية 700 جذر. وهي بعد تقع في المستوى الأول بين اللغات تليها اللغتان الآرامية والكنعانية في المستوى الثاني بينما تقبع اللاتينية في المستوى الثالث.

يقول المستشرق الألماني المعروف ثيودور نودلكه إن اللغة العربية تميزت عن مثيلاتها باحتفاظها بصورتها وعناصرها الأولى كالحركات الساكنة والمقاطع الصغيرة حتى في وسط الكلمات.

ويذهب العلامة أولد شيفر الذي اكتشف اللغة الأوجاريتية؛ وهي لغة كنعانية، الى أن الأخيرة هي أقدم مصدر للغة العربية وتعود لمنتصف الألف الثاني قبل الميلاد. مؤكدا أنها ليست سوى لهجة عربية قديمة تشترك كثير من كلماتها الحالية بلغتنا الحالية اشتراكا لا يمكن أن ينفك ولا سبيل لحصره لتشعبه وكثرته.

إن اللغة العربية التي أثرت في اللغات الأخرى الحية طوال آلاف السنين تم تجنيس الكثير من مفرداتها باللغات الأخرى كالانجليزية والفرنسية والألمانية.

ففي الدراسات الحديثة وجد أن اللغة الانجليزية لوحدها تضم 270 مفردة عربية تستعمل يوميا فيما جاء إحصاء المفردات العربية فيها ككل أكثر من ألف مفردة ويزيد. وهكذا الفرنسية والالمانية.

لكن الأمر المثير والعجيب أن هذه اللغة التي أجبرت اللغات الأخرى على أن تأخذ منها وتجنّس كلماتها باتت اليوم تجنس مفردات اللغات الأخرى وتستعين بها وكأن العربية قاصرة عن المعاني والأوصاف. فما الذي حصل منذ أن انبرت العربية لغة القرآن الكريم آخذة دورها الحيّ في المجتمعات، أن تصل الى ما وصلت إليه.

إنّ من الضروري أن نسلّم بأن لغتنا العربية ما زالت حية، إلا ان المجتمع تبدّل وتغير؛ فاللحن في الكلام والاستعانة بالحضارات الغربية والأجنبية والجهل الذي عم المجتمعات العربية خاصة والاسلامية عامة لعدة أسباب منها الغزو والاستعمار وسياسات التجنيس اللغوي وغيرها، جعلت العربية مركونة في بطون الكتب والمعاجم وأصبحت القواميس الغربية هي السائدة. إلّا ان الطامة الكبرى ان الثقافة العربية السائدة في مجتمعاتنا دعت على الدوام الى التخلص من العربية واستعمال لغات أخرى بديلة وقد سرى ذلك حتى في مفرداتنا اليومية؛ فنجد غريب الكلام قد اختلط مع الصحيح بل أن هناك من ينادي لتضمينه في المعاجم العربية كونه أصبح مستعملا في حياتنا اليومية وصحافتنا وأخبارنا ومؤلفاتنا، الى ان وصلنا الى حدّ أن بعض المتخصصين في اللغة يحسبون أنهم يخطئون فيها لغلبة اللسان الأعجمي على العربي.

نعم هي طامة كبرى أن نتخلى عن ثقافتنا وهويتنا التي هي جذورنا ونستبدلها بأخرى دخيلة أجنبية.

وإن أفضل ما نلجأ إليه لتبيين تميّز اللغة العربية على اللغات الأخرى من حيث المعاني والألفاظ والبيان، هو القرآن الكريم آياته وألفاظه؛ حيث وصف العربية بثلاثة أوصاف؛ هي (التبيين) و(الحكم) و(الصحيح) الذي لا يشوبه الإعوجاج.

فقد وصف الله تعالى الكلام العربيّ بالمبين كونه يبين القول تبيانا حقيقيا يؤلف ما بين اللفظ والمعنى؛ وهذا قليل ما نراه في اللغات الأخرى؛ قال تعالى في سورة النحل (ولقد نعلم انهم يقولون انما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون اليه أعجميّ وهذا لسان عربيّ مبين) وقال أيضا (بلسان عربي مبين). ولذلك كان البيان العربي من أصدق دلالات وشواهد تفوق اللغة  العربية على اللغات الأخرى.  أما (الحكم) فهو الواضح الذي لا يمكن أن يكون عصيّا عن الفهم سواء من خلال الألفاظ أو الآيات؛ يقول تعالى (وكذلك أنزلناه حكما عربيا). ومن أجمل من أوضح القول فيه العلامة ابن عاشور في تفسيره حيث قال (ان الحِكْمَةُ لا تُوصَفُ بِالنِّسْبَةِ إلى الأُمَمِ وإنَّما المَعْنى أنَّهُ حِكْمَةٌ مُعَبَّرٌ عَنْها بِالعَرَبِيَّةِ. والمَقْصُودُ أنَّهُ بِلُغَةِ العَرَبِ الَّتِي هي أفْصَحُ اللُّغاتِ وأجْمَلُها وأسْهَلُها، وفي ذَلِكَ إعْجازُهُ. فَحَصَلَ لِهَذا الكِتابِ كِمالانِ: كَمالٌ مِن جِهَةِ مَعانِيهِ ومَقاصِدِهِ وهو كَوْنُهُ حُكْمًا، وكَمالٌ مِن جِهَةِ ألْفاظِهِ وهو المُكَنّى عَنْهُ بِكَوْنِهِ عَرَبِيًّا، وذَلِكَ ما لَمْ يَبْلُغْ إلَيْهِ كِتابٌ قَبْلَهُ؛ لِأنَّ الحِكْمَةَ أشْرَفُ المَعْقُولاتِ فَيُناسِبُ شَرَفَها أنْ يَكُونَ إبْلاغُها بِأشْرَفِ لُغَةٍ وأصْلَحِها لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الحِكْمَةِ).

أما الوصف الثالث فهو (الصحيح) الذي لا يشوبه الإعوجاج؛ كونه يصيب كبد الحقيقة من غير زيادة أو نقصان ولا يحتاج الى تطويل وتذليل. قال تعالى (قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون). وقال أيضا (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصّلت آياته أاعجميّ وعربيّ قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد). والعلّة في كونه صحيحا لا يشوبه الإعوجاج كي يبين للناس حقيقة الدين والاعتقاد والأحكام بشكل مباشر وصريح لا يسع لهم أن يتهموه بالعوج أو الانحراف أو العجمة.

وهكذا نرى أن العربية لغة إعجاز من نواحي عدة أولاها جذورها المتشعبة المتعددة وثانيها قدرتها البيانية التي لا تكاد لغة من اللغات الحية تقارن بها. وثالثها وأهمها أنها لغة القرآن الكريم؛ وقد اختارها الله تعالى لتكون خاتمة كتبه ورسالاته، قال تعالى (انا جعلناه قرانا عربيا لعلكم تعقلون).

وربما يسأل سائل عن مثال بسيط لقوة بيان هذه اللغة التي ميّزها الله تبارك وتعالى عن سائر اللغات، فنقول؛ ورد ان الأصمعي قال (كنت أقرأ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ غفور رحيم-  وبجانبي أعرابيّ فقال: كلام من هذا؟ فقلت كلام الله. قال أعد، فأعدت، فقال: ليس هذا كلام الله، فانتبهت، فقرأت: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، فقال: أصبت، هذا كلام الله. فقلت: أتقرأ القرآن؟ قال لا، فقلت: من أين علمت؟ قال الأعرابيّ: يا هذا عزّ فحكم فقطع ولو غفر ورحم لما قطع).

ونتبعه بمثال آخر هو قوله تعالى (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى * وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) كيف قابل الجوع بالعري والظمأ بالضحى؟ يقول ابن القيم في فوائده (الداخل إلى بلد المعنى يرى هذا الكلام في أعلى الفصاحة والجلالة، لأن الجوع ألم الباطن والعري ألم الظاهر، فهما متناسبان في المعنى، وكذلك الظمأ مع الضحى، لأن الظمأ موجب لحرارة الباطن، والضحى موجب لحرارة الظاهر فاقتضت الآية نفي جميع الآفات ظاهرا وباطنا).

يُعَد مصطفى جواد (1904 – 1964) أحد علماء العربية البارزين لغويّ مؤرخ عراقي ولد في بغداد كان والده خيّاطًا عُمِي فنشأ ابنه فقيرًا محرومًا. تعلّم في بغداد والقاهرة وأكمل دراسته في جامعة السوربون حاصلا على شهادة الدكتوراه. عمل مدرّسًا بمختلف مراحل التعليم، آخرها دار المعلّمين العالية. وكان عضوًا في المجمعين العربيين في دمشق وبغداد.

اشتهر لدى عامة الناس ببرنامجه اللغوي التلفازي الإذاعي الشهير (قل ولا تقل) الذي تحوّل بعد ذلك لكتاب. كان ذكيا جدا فرغم صغر سنه حفظ الأجرومية في ثلاثة أيام فقط وكان يحفظ كل يوم عشرين مفردة من المعجم حتى أتمّ دراسته. فلك أن تتخيل كم مفردة من المعجم بضبطها وحركاتها قد حفظ وأدرك. وكان ينوب عن أستاذه في التدريس ويكمل عجز البيت الشعري إذا توقف عن ذكره، ويحلل  القصائد ويتصيّد الأخطاء ويشخّص المنحول بقدرة فريدة. ولما كبر وأنبرى يصحح العاميّ من الكلام ويرده الى فصيحه كانت معاركه اللغوية تسمعها القاهرة وبلاد الشام حتى أضحى علما من أعلام اللغة العربية.

ان الإشكالية التي قاتل عليها مصطفى جواد للوثوب بوجه الإعوجاج واللحن والضعف الذي دب بلغتنا العربية حتى أضحت سقيمة عليلة هو واقعنا المزري الذي جعلنا نترك هذه اللغة القرآنية الجميلة ونتخذ من لغات أخرى لا تضاهيها أبدا بأي مقياس من المقاييس مطية نركبها للوصول لغاياتنا المادية المجتمعية. لذا فاننا لو أردنا أن نرجع لهويتنا وثقافتنا ولغتنا العربية الفصحى المهيبة يجب علينا أولا أن نصحح واقعنا المزري الذي كان السبب في تدهور اللسان العربي، فإشكاليتنا هي في الأساس إشكالية واقع لا لغة.