التفكير الخيالي العلمي وإستشراف المستقبل

أ. د. مازن الرمضاني*

التفكير في المستقبل ظاهرة إنسانية قديمة. فجذورها التاريخية تمتد إلى ما قبل إختراع الكتابة قبل الميلاد ودخول الإنسان في الموجة الحضارية الزراعية قبل عشرة الاف عام في الآقل.

وإضافة إلى أن هذه الظاهرة إستمرت عابرة للمكان، ومنّ ثم لم تقتصر على حيز جغرافي محدد دون سواه، فأنها تميزت بخاصية التجدد. فتعاقب إنتقال الإنسان من موجة حضارية إلى أخرى: من الموجة الزراعية، إلى الصناعية، إلى المعلوماتية أفضى إلى أن تكون نوعية التفكير الإنساني في المستقبل، في العموم، إنعكاسا للواقع الحضاري السائد في الزمان والمكان.

ولهذه العلاقة، تميز تاريخ التفكير الإنساني في المستقبل بتحولات أساسية.وقد عبر كل منها عن إنتشار نمط محدد من هذا التفكير. فإبتداء كان دينيا بشقيه الغيبي والتوحيدي ثم إضحى فلسفيا ثم انتقل إلى أن يكون خيالآ علميا. وقد انتهى، حاليا، إلى أن يصير علميا. ولآهمية دور التفكير الخيالي العلمي في دعم التفكير العلمي في المستقبل وتطبيقاته العملية، التي تسمى اليوم بدراسات المستقبلات، سنتناوله في أدناه.

تعود الجذور التاريخية الآولى لعموم التفكير الخيالي إلى ما قبل التاريخ. وقد عبرت عنه مساحة واسعة من المرويات القديمة كالاساطير وقصص الرحلات والمغامرات الوهمية. كذلك نجد الرؤية الخيالية ولاسيما المثالية، عند الفلاسفة الآوائل كأفلاطون والفارابي. فأفلاطون دعا في جمهوريته إلى بناء مجتمع يتميز بالحكمة والفضيلة ويجعل من العدل أساسا له. وإلى الشيء ذاته ذهب الفارابي تقريبا. ففي مدينته الفاضلة رأى أن إنتشار المعرفة والفضيلة سيحقق الإنسان السعادة الحقيقية.

 وعلى الرغم من أن التفكير الخيالي كان يجرد الخيال ويطلق الحدود، بيد أنه كان، مع ذلك، ملهما لنمط جديد ولاحق من التفكير الخيالي أتخذ من العلم منطلقا له وذهب إلى رسم صورة لعالم مثالي يتحقق فيه المستقبل الآفضل. ومن هنا أخذ تسمية التفكير الخيالي العلمي Science Fiction علما أن وعلى الرغم من أن هذا النمط من التفكير لا يحظى باتفاق على مضمونه، إلا إننا نرى أنه يفيد بحصيلة التفاعل المنضبط بين الخيال والعلم من ناحية والمستقبل من ناحية أخرى. وبهذا المعنى، فأنه يعمد إلى الإنتقال في أبعاد الزمان على وفق نوع من الخيال الروائي، الذي تكون أحداثه و/أو معالمه، إما لم تحدث أبدا، أو إنها لم تحدث بعد. وبذلك يجمع بين خيال الكاتب والعلم، وليرسم بالتالي صوراً لآشياء تنقل القارىء إما إلى الماضي السحيق، أو إلى المستقبل البعيد، فتثيره، وتذهله.

وعلى الرغم من أن الراي لا يتفق كذلك على تاريخ بداية التفكير الخيالي العلمي، إلا أن كتاب السير توماس مورSir Thomas More  المسمى يوتوبيا Utopia، أي الطوبائية، والذي تمت ترجمته من اللغة اللاتينية إلى اللغة الانكليزية عام 1552، ربما يشكل هذه البداية.

وقد تعزز إنتشار هذا النمط من التفكير وتطبيقاته على نحو واسع خصوصا منذ القرن التاسع عشر صعودا. فالتقدم العلمي،  الذي صاحب عصر التنوير والإعجاب بمآثره وإمكاناته في إحداث نقلة نوعية في حياة الإنسان نحو الآحسن، أدى إلى إنتشار تطبيقات هذا التفكير على نطاق واسع.

وقد عبر هذا الإنتشار الواسع عن ذاته من خلال تعاقب صدور روايات خيالية كانت أما أدبية و/أو علمية تحدث فيها أصحابها، من المؤلفين والأدباء والكتاب،  كما كان هو الحال مع أسلافهم، عن تنبؤات و/أو رحلات و/أو إختراعات علمية وسواها، كانت تعتبر في زمانهم ضربا من الخيال غير الممكن، قبل أن يثبت العلم أن كل شيء يُعد ممكنا، وتضحى، بالتالي، لاحقا حقائق موضوعية.

وعديدة هي التنبؤات، التي قالت بها روايات الخيال العلمي، التي صارت اليوم حقائق موضوعية. ومن بينها، مثلا، الإنترنت، القنبلة النووية، الهبوط على سطح القمر، الصحف الورقية الدبابات، الغواصات، محادثات الفيديو،  العاب الواقع الإفتراضي، بطاقات الائتمان، والغوص بالمعدات.

ويتكرر القول، أن هذه الروايات، بنوعيها الآدبية والعلمية، تعد تعبيرا عن رفض مؤلفيها لمعطيات الواقع السلبي، الذي كان سائدا في مجتمعاتهم. فمن خلال الإستعانة بالخيال العلمي أريد إعادة هيكلة هذا الواقع على نحو يتماهى والمستقبل المثالي المنشود، ولاسيما الذي يؤمن للإنسان إنسانيته وسعادته، وللمجتمع خلاصه وتألقه.

ولعل من بين أبرز رواد التفكير الخيالي العلمي شهرة وتاثيرا، هم: الانكليزي السير فرانسيس بيكون )Sir Francis Bacon (، 1626-1561، والفرنسي جول فيرن )Jules Verne (، 1905-1828،  والانكليزي هربرت جورج ويلز )Herbert G. Wells(، 1946-1866.

فأما عن السير فرانسيس بيكون، الذي يعد رائد المقاربة الإختبارية العلمية، فأنه، جراء تردي الحال الإجتماعي في بلاده أنذاك، المملكة المتحدة حاليا، دعا في روايته اطلنطس الجديدة )The New Atlantis  (، إلى بناء مجتمع مثالي يقوم على أساس العلم والبحث العلمي.

وجراء قناعته بجدوى توظيف العلم سبيلا لتأمين سعادة الإنسان، يقول إدوارد كورنيش عن بيكون إنه كان أول من صاغ فكرة التقدم. وقد أفادت هذه الفكرة إن التاريخ يتحرك دوما إلى أمام وأن البشرية تندرج نحو مستقبل لابد أن يكون أفضل من الماضي. ومن هنا تمتعت، خلال القرن السابع عشر عموما والقرن الثامن عشر خصوصا، بتاثير فكري حاسم في توجهات الطبقة الوسطى الفرنسية. ومما ساعد على ذلك أنذاك إنتشار قناعة أفادت أن هذه الطبقة هي الآقدر على حمل راية التقدم والسير بها إلى الآمام.

وأما عن جول فيرن، فجهده الروائي الخيالي، والذي تجسد في 61 رواية، يفيد إنه لم يعمد إلى توظيف مخرجات العلم أنذاك لبناء المجتمع الذي كان يحلم به فحسب، وإنما كان، أيضا، ملهما لترجمة أفكاره إلى واقع ملموس. فمثلا وجدت روايته، من الارض إلى القمر الصادرة في عام 1865، تطبيقا لها في الرحلة الفضائية الآمريكية إلى القمر عام 1969 )أي أبولوو11(. فهذه تمت عمليا بطريقة تتماهى تقريبا وتلك التي وصفها جول فيرن في هذه الرواية.

ولإنه كان مستشرفا متحمسا للمستقبل رأى المستقبلي الآمريكي إدوارد كورنيش، إنه : »… كان المعلم الآعظم في عصره )و( حاز على شعبية هائلة «.

ومثلما كان جول فيرن، كذلك كان هربرت جورج ويلز. فهو يعد، أيضا، من بين أبرز رواة الخيال العلمي في بداية القرن العشرين. فمضامين إنتاجه : مائة مؤلف خلال نصف قرن تقريبا )1945 -1890(، تفيد إنه لم يكن مأخوذا بفكرة المستقبل الزاهر فحسب، وإنما كان ساعيأ إلى نشرها داخل مجتمعه الانكليزي، وبجهد، كمي ونوعي، لم ترتق إليه، في وقته، مؤلفات أقرانه من الفلاسفة والعلماء والروائيين الخياليين، كبرتراند رسل  1872-1970، )Bertrand Russel (،  وجورج برنارد شو )George Bernard Shaw (، 1950 -1856، وجون ديوي ) John Deway(، 1952-1829 وغيرهم.

إن إستحواذ فكرة المستقبل الزاهر، وأن تتجسد بوضوح في جل مؤلفاته ورواياته الخيالية وغير الخيالية، بيد أن محاضرته في المعهد الملكي البريطاني، بتاريخ 24 كانون الثاني 1902، كانت حاسمة. ففيها قال ويلز : »إن معظم الناس مشدودون باحكام إلى الماضي، ولكن المستقبل قد اكتشف. وباضطراد يحول الناس تفكيرهم إليه… إننا إلى المستقبل نمضي، والغد، بالنسبة لنا، هو الشىء الحامل بالاحداث. ففيه سيكون كل ما يتبقى من مشاعرنا وجميع اولادنا وكل ما هو عزيز علينا… إن جهلنا بالمستقبل واقتناعنا أن ذلك الجهل لا شفاء منه ابدا هما وحدهما اللذان يمنحان الماضي تفوقه وسيطرته على أفكارنا ) وقد راى ( أن القوى الآجتماعية يمكن تحليلها والمستقبل يمكن إستقراؤه منها«.

ويرى، مستقبليون، أن هذه المحاضرة، التي تم نشرها في عام 1902 على شكل كتيب بعنوان : إكتشاف المستقبل، هي التي تؤسس لعيد ميلاد »علم المستقبل«، سيما وأنه دعا فيها إلى تأسيس علم جديد للاشياء الآتية )Things yet to come(. ومع ذلك، نرى أن أفكاره عن المستقبل عدت إحدى اللبنات الآولية والمهمة والتي سيقوم عليها، لاحقا وحوالي منتصف القرن الماضي، الحقل المعرفي الخاص بدراسات المستقبلات.

إن تفاؤل ويلز الشديد بقدرة الإنسان على صناعة المستقبل تحول، لاحقا، إلى تشاؤم عميق. ففي كتابه: موجز التاريخ، والصادر في عام 1920، قال: »… أصبح التاريخ الإنساني أكثر وأكثر سباقا بين التعليم والكارثة«. أما في أخر مؤلفاته: العقل في نهاية مسرحيته والصادر في عام 1945، فقد أكد : »… ليس ثمة سبيل للخروج من المأزق أو الإلتفاف عليه، أو المرور عبره، إنها النهاية«.

ومرد هذا التشاؤم إلى أن ويلز كان من بين اولئك الفلاسفة الغربيين كبرتراند رسل، واوسفالد سبنغلر )Oswald A.G. Spengler(، 1936- 1880، الذين دفع بهم تدهور المعطيات الاقتصادية، والسياسية، التي عاشها الغرب في بداية القرن الماضي، إلى التخلي عن فكرة التقدم والمستقبل الزاهر، التي كانت محور الآهتمام أنذاك، لصالح رؤية تشاؤمية قالت بعجز الإنسان الغربي عن التحكم بمخرجات التقدم العلمي والتكنولوجي وأن المستقبل سيكون، بالتالي، مظلما ومرعبا.

فمثلآ قال، برتراند رسل في كتابه أيكاروس، أو مستقبل العالم، الصادر عام 1924، أن العلم »… الذي لقي كل ترحيب ذات يوم بوصفه محرك التقدم بات الآن محط ريبة من إنه سيخلق المستقبل الكئيب الآتي«. وإلى الشىء ذاته ذهب أوسفالد سبينغلر في كتابه : إنحطاط الغرب، قائلآ أن : »…الحضارات تنهض وتسقط، وتمر في سلسلة من المراحل. والعالم الغربي هو على هذا المنحدر الهابط. ويبدو أن الآحداث تثبت ذلك «.

وقد تجسدت هذه الرؤى المتشائمة في روايات خيالية من نمط أخر ومختلف. فبدلا من الحديث عن ما الذي سيفضي إلى تحقيق المدينة الفاضلة صارت روايات المدينة الفاسدة هي محور الآهتمام.

ومع ذلك، لم يؤد هذا التطور إلى إلغاء الآثر الناجم عن روايات المدينة الفاضلة في تأسيس بيئة ملائمة وداعمة لإستشراف علمي للمستقبل سيما وإنها، كما يؤكد قسطنطين زريق، أنطوت على »… توجيه الناس نحو المستقبل )و( تنقيح خيالاتهم واذهانهم لآهمية التطورات المستقبلية لما تحمله من مغانم واخطار«.

وقد استمر صدور هذه الروايات بنوعيها إلى وقتنا الحاضر. ويستعرض المستقبلي الإسترالي، ريتشارد سلوتر Richard Slaughter، مضامين عدد منها ولاسيما مؤلفات، السير أرثر. س. كلارك Sir Arthur C. Clark الذي يُعد أحد أبرز رواة الخيال العلمي في القرن العشرين.

وإضافة إلى إستمرار صدور روايات الخيال العلمي وإكتسابها شعبية واسعة أضحى الخيال العلمي موضوعا يتم أيضا تدريسه و/أو التخصص به علميا في العديد من الجامعات. ويتجلى هذا خصوصا في دول عالم الشمال، هذا إدراكا منها لتأثيره الفاعل في عملية التنشئة العلمية وبضمنها الإرتقاء بقدرة الإنسان على الإبداع في تصور مآل الآشياء في المستقبل، وكيفية الإستعداد لمواجهتها بإبتكار. فكما يقال: »… يُعد الخيال كالقبس للعلم«.

وعلى الرغم من أهمية الخيال، ولاسيما العلمي، في دعم التفكير العلمي في المستقبل ومن ثم تطبيقاته، إلا أنهما يختلفان بالضرورة. فالخيال العلمي يقترن عادة بسؤال غيرالسؤال الذي يطرحه التفكير العلمي في المستقبل. فعلى خلاف السؤال الذي يتأسس عليه هذا التفكير الذي هو في العلم، والذي يتخذ من معطيات الواقع منطلقا أساسيا للاجابة عنه، الآمر الذي يجعله سؤالا علميا وواقعيا، يكون السؤال الذي ينطلق منه التفكير الخيالي العلمي، والذي هو عن العلم، سؤالا يكاد يكون تصوريا لا يأخذ بالمقاربات المنهجية المستخدمة في حقول المعرفة العلمية، سبيلا للاجابة عنه.

 *إستاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات