ستون عاما على معركة السويس 1956 – 2016

لندن أمين الغفاري

نهاية الأربعينات من القرن الماضي. كانت المنطقة العربية على موعد مع التاريخ، تتفاعل مواقفه وتقترب احداثه، لكي تطوى صفحة امتدت لقرون من الزمان. كان الأستعمار يتبدل فيها ويتمدد وتتعدد تسمياته من العثماني الى الأوروبي، وكانت المنطقة تقوم في نفس الوقت بكتابة صفحة أخرى تعلو فيها الراية العربية عزة وفخارا وكرامة. كان مسرح الأحداث قد شهد نهاية الحرب العالمية الثانية في سبتمبر عام 1945، ونتج عنها وجود قطبين رئيسيين على المسرح الدولي: امريكا كقيادة للمعسكر الليبرالي الرأسمالي حيث تراجع الدور الأوروبي، والأتحاد السوفييتي للمعسكر الأشتراكي، ثم توالت الأحداث تباعا اذ صوتت الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في 29 نوفمبر عام 1947 وتم اعلان نهاية الأنتداب البريطاني على فلسطين في 14 مايو عام 1948، ومن ثم دخلت الجيوش العربية الى الأرض المقدسة لتحريرها في 15 مايو من نفس العام، وعندها جرى ما جرى على الأرض من هزال الاعداد للحرب، وهزال الموقف السياسي ومدى حزمه وترابطه، وان كانت شجاعة الجنود وتضحياتهم على خطوط القتال استطاعت ان تحقق انتصارات وأن تثمر تقدما الى الحد الذي دفع بالصهاينة الى الأستنجاد بالتحالف الغربي المساند لهم بالتدخل ومن ثم فرضت الهدنة الأولى لكي يعاد تسليح الهاجانا أوجيش الدفاع الأسرائيلي، والعصابات المعاونة له من شتيرن والأرجون والبالماخ، وتم اغتيال الكونت فولك برنادوت وسيط الأمم المتحدة بواسطة عصابة شتيرن في سبتمبر 1948، ثم فرضت الهدنة الثانية عام 1949، لكي يصدر التصريح الثلاثي عام 1950 )بريطانيا وفرنسا وامريكا( بضمن الحدود القائمة بين العرب واسرائيل أو بالأحرى )ضمان حدود اسرائيل( .

انتوني ايدن على اليمين وعلى اليسار السير رالف ستيفنسون السفيرالبريطاني في مصر
انتوني ايدن على اليمين وعلى اليسار السير رالف ستيفنسون السفيرالبريطاني في مصر

صراع الأمبراطوريات . . البازغة والغاربه

خرجت الولايات المتحدة الأمريكية من الحرب العالمية الثانية كامبراطورية بازغة استطاعت بقواتها وقنابلها الذرية في هيروشيما ونجازاكي ان تحسم نتيجة الحرب ضد جيوش المحور وان يكسب معسكر الحلفاء نتيجة الحرب، ومن ثم بدأت في العمل على اتساع رقعة مصالحها، وفي المنطقة العربية. كانت بريطانيا وفرنسا هما الدولتان العظميان صاحبتا النفوذ والسيطرة بقواعدهما العسكرية المنتشرة في ربوع دول المنطقة .نشطت الولايات المتحدة وخاصة في مطلع الخمسينات في المنطقة العربية حيث بدأت ترى الموقع الأستراتيجي الهام ومايشكله في دعم المصالح حيث ثروات المنطقة من النفط والمواد الخام وكذلك طرق المواصلات البرية والبحرية الى دول العالم، بالأضافة الى اعتبارها سوق موسع لمنتجاتها ومن ثم قامت بوضع المنطقة العربية ضمن استراتيجيتها وبدأ الفكر الأستراتيجي الأمريكي في صياغة الكثير من المشاريع التي تتعلق بالمنطقة العربية وكانت بداياتها مشروع الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان الذي عرف في المنطقة العربية باسم )النقطة الرابعة عام 1949 وكان الأسم نسبة الى المادة الرابعة منه وهي تتحدث عن تقديم مساعدات اقتصادية وسياسية وعسكرية الى دول الشرق الأوسط، وقد رفضته مصر في عهد الحكومة الوفدية عام 1951، وجدير بالذكر أن اولى كتب الراحل الكبير احمد بهاء الدين كان عن مشروع )النقطة الرابعة( ومايشكله من خطورة من ربط مصر بالعجلة الأمريكية الأستعمارية. قامت الثورة المصرية عام 1952، وقد اطلق عليها في بداياتها )الحركة المباركة( الى ان تم عزل الملك فاروق، وصدر قانون الأصلاح الزراعي بعد أربعين يوما من قيام الثورة، وتم تحديد الملكية الزراعية بمائتي فدان للفرد وثلاثمائة فدان للأسرة، وقد وزعت الأرض على الفلاحين بواقع خمسة فدادين للفلاح، مما حدا بالدكتور طه حسين بالقول )انها ثورة وليست حركة أو حتى انقلاب(، وتم لقاء عبدالناصر بالزعيم الجزائري )احمد بن بيلا( عام 1954 وتم الأتفاق على دعم مصر لثورة الجزائر، بل وتم الأعلان عن قيام الثورة الجزائرية من راديو )صوت العرب( في القاهرة، وفتحت على أثر ذلك مخازن السلاح في مصر للمناضلين الجزائريين لقتال المستعمر الفرنسي، على الجانب الآخر استمرت المشروعات الأستعمارية في تدفقها على المنطقة، وكان اهمها قبل عدوان 1956 ماعرف باسم حلف بغداد وكان يقوم في اطار الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي على اقامة حزام شمالي للمنطقة يستهدف المساهمة في محاصرة الأتحاد السوفييتي ويجمع بعض الدول العربية وبعض دول الجوار مثل ايران وتركيا وباكستان اضافة الى الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا، وفشل المشروع في استقطاب الدول العربية بل وناهضته واندلعت المظاهرات الرافضة له في ما عدا العراق تحت حكم نوري السعيد، ثم أعلن سقوطه وتحوله الى )الحلف المركزي( بعد الثورة العراقية عام 1958. لاح تطور جديد في حركة التحرر العالمية وهو انعقاد )مؤتمر باندونج( في 18 ابريل عام 1955 للدول النامية خصوصا في افريقيا وآسيا، وقد دعت اليه الهند واندونيسيا وباكستان، ودعيت اليه مصر فاشترطت للحضور عدم دعوة اسرائيل، وقد تحقق ذلك باعتبار ان اسرائيل قد امتنعت عن تطبيق قرارات الأمم المتحدة بشأن تقسيم فلسطين، وتجاوزت في احتلالها للأرض العربية .كان هذا المؤتمر الأرضية الخصبة التي نمت عليها حركة عدم الأنحياز والحياد الايجابي التي قادتها الهند ومصر ويوغسلافيا فيما بعد .كان هذا المؤتمر ايضا فرصة للتعارف بين عبدالناصر وشواين لاي رئيس وزراء الصين، وقد قام بتكليفه بمفاتحة الأتحاد السوفييتي بشأن تزويد مصر بالأسلحة في ضوء امتناع كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية عن القيام بذلك، وقد قام شواين لاي بتوصيل تلك الرسالة، وقد وافق السوفييت على مد مصر بالسلاح، وفي هذا الصدد يقول الزعيم السوفيتي الراحل نيكيتا خروشوف وهو في طريقه لزيارة مصر عام 1964 وكان على ظهر الباخرة التي اقلته )حين وصلنا طلب مصر بالسلاح ترددنا في القبول، فقد قدرنا انها مناورة من مصر لرفع رصيدها لدى الغرب باثارة قلقة، ومن ثم فهم لن يقدروا على مواصلة السير في تلك الخطوة خوفا من ردالفعل الغربي عليهم، ولكننا افترضنا ايضا انهم ربما يكونون جادين في الطلب، وعلى ذلك فلنجرب، وثبت لدينا صلابة عبدالناصر ورغبته الحقيقية في الخروج من تلك الدائرة الضيقة التي يتحرك من داخلها العالم العربي، وهي دائرة النفوذ الغربي . ، وتم توقيع العقود على ذلك باعتبارها اسلحة قادمة من تشيكوسلوفاكيا تجنبا لعمليات الأثارة التي لاتخدم احدا .لكن المعسكر الأستعماري يرصد ويجمع ولايتسامح، لذلك أوعز للبنك الدولي ان لايوافق على تمويل السد العالي وكانت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا اعلنتا انهما سيساهمان في بناء السد بالأضافة إلى تمويل البنك الدولي وهو المشروع الحيوي لمصر والذي يتبناه عبدالناصر شخصيا كمشروع قومي للتنمية، ورفض البنك الدولي المشروع بالفعل بعد ان سبق ووافق عليه، وأعلنت كل من امريكا وبريطانيا انسحابهما ايضا من عملية التمويل ولم يكتفيا بذلك، ولكنهما أصدرا بيانا ينالان فيه من قدرة الأقتصاد المصري على تحمل تبعات البناء وكذلك على الوفاء بالألتزامات المترتبة على عملية التمويل . كان القصد احراج النظام المصري ودفع عبدالناصر من خلال الضغط عليه للقبول بأحلاف أجنبية، وقد سبق ان قال لرئيس الوزراء البريطاني انتوني ايدن خلال زيارته لمصر عام 1954، أنني لو قبلت بمبدأ الأحلاف فهذا يعني بالنسبة للشعب المصري الذي قضى اكثر من سبعين عاما في طلب الجلاء من الأستعمار البريطاني كمن يحاول طرد الأستعمار من الباب ثم يقبل في نفس الوقت على عودته من خلال نافذة الأحلاف،  ثم يستطرد في القول انني بذلك اكون قد حطمت الجبهة الداخلية لبلادي ولن استطيع على انقاضها أن أبني أي أمل للمستقبل .كان وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس )صاحب سياسة حافة الهاوية الشهيرة( قد زار مصر عام 1953 وأيضا للتبشير بسياسة الأحلاف، ولكنه ايضا ووجه بالرفض وله تصريح شهير )اما ان يخرج الغرب من المنطقة أو يخرج منها جمال عبدالناصر(

كان صراع الأرادات يحتدم، بين الأرادة الوطنية وصلابتها، وضغوط القوى الأستعمارية للانحناء امامها، وهكذا جرى الشلال الوطني الهادر ليحطم السدود المتراصة سدا وراء سد ليبني بارادته سده العالي .

تأميم قناة السويس في 26 يوليو عام 1956

اخذت قناة السويس اهتماما مبكرا من عبدالناصر منذ قيام الثورة ولذلك فقد شكل لجنة عام 1953 وكانت مهمتها الأساسية معرفة مدى الحقوق القانونية لمصر في قناة السويس بعد ان بيعت حصة مصر من الأسهم في القناة عام 1875 لبريطانيا في عهد الخديوي اسماعيل. احتفظ عبدالناصر بنتائج هذه الدراسة لكي يفجرها في الظرف المناسب، وكما يصفه الكاتب الراحل حلمس سلام بأنه )الميقاتي العظيم( أي الذي يعرف متى يشهر سلاحة وفي اي ظرف، وكانت الظروف مهيأة في ذلك الوقت لرد اللطمة التي وجهها الغرب اليه، بعد أن اطمأن لعدم وجود قوات عسكرية في المنطقة للقوى الغربية . تكفل لها التدخل السريع لسلب القناة من جديد، لاسيما وأن القوات البريطانية في مصر كانت قد بدأت في الجلاء عن مصر بعد توقيع اتفاقية الجلاء عام 1954، ولم يبق منها الا النذر البسيط في عداد الخبراء فقط، وتلك لايمكنها ان تستخدم سلاحا مع افتقادها للقوة المؤثرة .

اعلنت الولايات المتحدة بيانها بسحب التمويل في 20 يوليو عام 1956، وبعدها بأربعة أيام اي في 24 يوليو عام 1956 القى عبدالناصر خطابا في مناسبة جرى افتعالها ليرد على امريكا قائلا )انكم تدعون كذبا ان الأقتصاد المصري لايتحمل تبعات بناء السد، وهذا كذب وادعاء فاقتصادنا ليس بتلك الهشاشة . . موتوا بغيظكم( وبعدها بيومين اي في 26 يوليو عام 1956 أعلن من ميدان المنشية في الأسكندرية في الذكرى الرابعة لتنحي الملك فاروق عن العرش قرار التأميم الخالد لقناة السويس أي بعد اسبوع واحد من البيان الأمريكي .كانت اللطمة شديدة الوقع، دارت فيها الرؤوس الأستعمارية، فقد القى انتوني ايدن رئيس الوزراء البريطاني خطابا هاجم فيه عبدالناصر هجوما شديدا، ووصفه بالفاشي الذي لايمكن ان نرضخ له، واستدعى وزير الخارجية الفرنسي في ذلك الوقت )كريستيان بينو( السفير المصري )عبدالمنعم النجار( وتطاول عليه واصفا التأميم بالسرقة، وقد ذكر عبدالناصر ذلك في خطبه تلك الأيام قائلا)امبارح وزير خارجية فرنسا قل حياة على السفير المصري، وأنا لن أرد عليه وسوف أتركه لأخوانا في الجزائر لكي يلقنوه درسا في ألأدب(. دعا ايدن الى اجتماع في لندن للدول التي وصفت بالمنتفعين بقناة السويس وكان تعداد هذه الدول التي حضرت الأجتماع 18 دولة وشكلت هذه الدول لجنة برئاسة )روبرت منزيس( رئيس وزراء استراليا لمفاوضة عبدالناصر، وفشلت هذه اللجنة في الوصول الى نتيجة، وقد انهت اجتماعها في مصر على اثر رد عبدالناصر على منزيس حين ذكر )ان مصر قد تصادف متاعب اذا أصرت على موقفها، وكان رد عبد الناصر)اذا كنت تتحدث عن متاعب سوف نواجهها فالأجدى أن ننهي هذا اللقاء لكي نقوم ونستعد لمواجهة هذه المتاعب ا( وهب واقفا منهيا الأجتماع( وانصرف ليلحق به بعض من وزراء خارجية الدول الخمس التي جاءت مصاحبة لمنزيس، وويقولون له اننا لم نفوض بتقديم اي تهديد لكم من دولنا . في 29 اكتوبر من عام 1956 يبدأ الهجوم الأسرائيلي على سيناء، ثم يصدر الأنذار البريطاني الفرنسي طالبا ان تبعد القوات المصرية والأسرائيلية عن قناة السويس بمساحة محددة حتى تتدخل الدولتان لحماية الملاحة في قناة السويس، ويرفض عبدالناصر الأنذار، ويصدر قرارا بسحب الجيش المصري من سيناء والتمركز خلف القناة حتى لايحاصر داخل سيناء، ويقوم بالتصدي للغزو البريطاني الفرنسي، ويعلن قطع العلاقات مع هاتين الدولتين ويقوم بالغاء معاهدة الجلاء واعتقال الخبراء البريطانيين والأستيلاء على كل الأسلحة التي اختزنها البريطانيون لأستخدامها حين عودتهم اذا هوجمت تركيا كما تنص المعاهدة، ويتم توزيع السلاح على المقاومة الشعبية، وتنظم حركة المقاومة على امتداد خط المواجهة لاسيما في منطقة الأنزال في بورسعيد، وقد راح ضحية الغزو من البريطانيين الضابط البريطاني الذي يمت بصلة قرابة للعائلة الملكية البريطانية )مور هاوس( الذي اعتقلته المقاومة، ونتيجة للقصف المتواصل اضطروا لمغادرة المكان وكانت في ذلك نهاية مورهاوس .اتضح بعد ذلك حجم التنسيق بين الدول الثلاث المهاجمة بريطانيا وفرنسا واسرائيل بمقتضى معاهدة )سيفر( في فرنسا، وفشل العدوان نتيجة لصمود مصر ورفضها للأنذار، واندلاع المعارضة القوية والتهديد بدخول المعركة من انحاء الوطن العربي مما ساهم كثيرا في دفع الحركة القومية داخل الوطن العربي، بالأضافة الى مجموعة الدول النامية التي تبلورت حركتها في توليد حركة عدم الأنحياز التي قادها عبدالناصر ونهرو وتيتو، وتصاعدت حركة التحرر العالمي، بالأضافة الى عدم التأييد الأمريكي الذي كان يتطلع الى وراثة الأستعمارين البريطاني والفرنسي في المنطقة )الأمبراطورية البازغة والأمبراطوريات الغاربة( والأنذار السوفييتي الذي أطلقه الرئيس السوفييتي )بولجانين( .

كانت حرب السويس تعبيراً عن ميلاد عصر جديد استلهمته الكثير من الحركات الوطنية ومضت قدما في نضالها وسجلت نصرا بعد نصر، وأثبتت هذه الحرب ان الأستعمار ليس سوى نمر من ورق اذا اصطدم بارادة وطنية حقيقية، وتظل هذه الحرب عنوانا لأرادة التحرر، وترجمة حقيقية عبر عنها قادة استجابوا لتطلعات شعوبهم .كانت القضايا كبيرة وكان القادة ايضا في احجامها كباراً.