إيران تراقب ما خلف غزّة

نأي بالنفس عن “الطوفان”. تحريك محسوب للجبهات. وتشكيك بحلّ الدولتين

كان لافتة المقاربات المتعدّدة التي انتهجتها إيران للتعامل مع عملية “طوفان الأقصى”. وكان واضحا منذ الساعات الأولى للحدث الكبير في غزّة أن طهران والفصائل التابعة لها في المنطقة لم تكن تعرف شيئا عن خطط “كتائب عز الدين القسام” على الرغم من انتماء الفصيل الفلسطيني الإسلامي إلى “محور المقاومة” الذي تقوده الجمهورية الإسلامية. ومع ذلك فإن طهران تعاملت مع التطوّر بصفته نصرا لها ولتيارها في المنطقة حتى لو سارعت إلى التنصل من أية مسؤولية لها في ذلك “الطوفان”.

وإذا ما تموضعت طهران لتكون حاضرة داخل المآلات التي تحضّر لليوم  التالي بعد الحرب، فإن إيران بدت مرتبكة في الموقف من الدولة

المرشد علي خامنئي: لا علاقة لنا بطوفان الأقصى

الفلسطينية ومصير “حماس” وسكوت وسقوط “وحدة الساحات”.

حلّ الدولتين

يقوم الموقف التاريخي العربي من القضية الفلسطينية على الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، وعلى المبادرة العربية للسلام المعتمدة في القمة العربية في بيروت عام 2002. القاعدة الأولى تقول إن للشعب الفلسطيني قيادة يعترف بها العالم أجمع وعلى أساسها تمّ إبرام اتفاق أوسلو عام 1993. والقاعدة الثانية تقول إن العرب كما جلّ دول العالم مع حلّ الدولتين لإنهاء الصراع.

بالمقابل، يقوم موقف إيران، ووفق ما رشح مجدداً من مواقف بشأن البيان الختامي للقمة العربية الإسلامية الأخيرة على قواعد أخرى. فعلى الرغم من حضور الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي القمّة في الرياض في 11 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، إلا أن مصادر طهران (خصوصا المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني) عادت بعد ذلك وأعلنت عن تحفّظيْن. الأول يتعلق بحصرية تمثيل منظمة التحرير الفلسطينية للشعب الفلسطيني، ذلك أنها تعتبر أن فصائل أخرى غير منضوية تحت سقف المنظمة لها صفة تمثيلية لفلسطين والفلسطينيين. الثاني يتعلق بمسألة المطالبة بحلّ الدولتين لما يعني ذلك من اعتراف بإسرائيل وهو أمر ما زالت الجمهورية الإسلامية رافضة له.

وتُعد مسألة التمثيل الفلسطيني كما مسألة المبادرة العربية وحلّ الدولتين من الأدبيات السياسية داخل منظمة التعاون الإسلامي، بما يجعل من التحفّظ الإيراني خارج الإجماع المعتمد عربيا وإسلاميا. والأمر يعني أن لإيران قراءة مختلفة لقضية فلسطين ومقاربة أخرى لحلّ المسألة الفلسطينية. وهو سلوك منعزل عن المشهد الدولي (الذي يعترف بتمثيلية المنظمة ويدافع عن حلّ الدولتين) والمشهد الإقليمي بشقّيه العربي والإسلامي.

وفيما انتهجت طهران خلال المرحلة الأخيرة مقاربات انفتاح ووصل مع المنطقة العربية عامة ودول الخليج خاصة، وراحت إلى إبرام اتفاق في  10 آذار (مارس) الماضي في بكين لفتح صفحة من التعاون والوئام مع السعودية، فإن تحفّظها على حلّ الدولتين يأتي على نقيض الرؤى العربية وعلى نقيض المبادرة العربية المستوحاة أساسا من مبادرة سعودية أطلقها العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز عام 2002.

والواقع أن التحفّظات التي تسرّبت من طهران قد لا تنفي التطوّر الذي أبداه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في تمرير مسألة التمثيل وحلّ الدولتين في البيان الختامي لقمّة الرياض كواجهة من واجهات البراغماتية التي تودّ إيران أن تكون سمّة سياساتها الخارجية الجديدة. وإذا ما سُجل تحفّظ للعراق وتونس بنفس الاتجاه، فإن ذلك أنقذ الموقف الإيراني من عزلة لا تجاري جهودها لإصلاح ذات البين داخل البيتين، العربي والإسلامي.

العقائد والسياسة

الأرجح أن مواقف إيران من مسائل كثيرة في العالم وخصوصا تلك في الشرق الأوسط تتأرجح ما بين النصوص العقائدية والسياسات والتكتيكات البراغماتية. فالنصوص تأخذ جيدا بالاعتبار ما هو ثابت في عقائد التيار المحافظ الحاكم وتمدداته داخل المؤسسات الإيرانية وتوابعها الفصائلية في العالم، فيما رشاقتها السياسية تأخذ بالاعتبار الواقع والوقائع وما هو متحوّل في العالم يتطلب تحوّلا في مواقف قمّة الدولة في إيران.

وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن: لا نملك أدلة على ضلوع إيران

وسيجدّ المراقب ذلك القفز بين الأيديولوجي والبراغماتي في مواقف مرشد الجمهورية السيّد علي خامنئي المتمسّك نسبيا بمتون النصّ منذ قيام الجمهورية الإسلامية، والبراغماتي المتلوّن في مواقف حكومة رئيسي التي تعبّر عنها في مسألة مقاربة الحرب في غزة تصريحات ومواقف وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان.

وتظهر خفّة الانتقال من النظري إلى الواقعي في الديباجات المستخدمة لتبرير عدم انخراط إيران وفصائلها الولائية التابعة في عدد من دول المنطقة بالحرب دعماً لحركتيّ حماس والجهاد وغيرها في قطاع غزة. وإذا ما نشرت رويترز ما زعمت أنه تأنيب وجهه خامنئي إلى زائره رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية لأن الحركة لم تبلغ طهران بخططها بشأن عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول (اكتوبر) الماضي، فإن الأمر، وعلى الرغم من نفيّ حماس للواقعة، يعود بالأرجح إلى تسريب مصدره إيران لوكالة الأنباء الدولية بغية الدفع بأعذار وحجج جديدة لتبرير ما عدّه عدد من قادة حماس (خالد مشعل، موسى أبو مرزوق، غازي حمد على سبيل المثال) رداً غير كاف من قبل إيران وحزب الله وبقية فصائل “محور المقاومة”.

وعلى الرغم من تحفّظات إيران بشان فلسطين وتمثيلها ومستقبل حلّ قضيتها، فإن لا أحد من داخل المشهد العربي والإسلامي يأخذ الأمر على محمل الجدّ طالما أنه غير مسنود بخيار إيراني عملي بديل، وطالما أن طهران في حالة تفاوض لم تتوقف مع الولايات المتحدة، وطالما أن إيران نأت بنفسها منذ الساعات الأولى لبدء الحرب عن أي تورط في عملية “طوفان الأقصى”. وقد بدا في هذا الإطار حرص إيران على تكرار وتأكيد أن هجمات “القسام” كما ردّ حزب الله وفصائل العراق وجماعة الحوثي اليمنية لاحقا هو قرار محليّ ذاتي لا شأن لإيران به وليس تنفيذاً لأوامر أو إيحاءات صادرة عن طهران.

خفوت الجبهات

تبدو إيران في تحفّظها المهرَّب على بيان القمّة العربية الإسلامية كما في تبرؤها من أي ضلوع بعملية “حماس” في غلاف غزة، وكأنها تمارس تمارين تدريجية للاستقالة من الشأن الفلسطيني، أولا لعجز عن تقديم رواية ذات صدقية لمشروعها في هذا الصدد، وثانيا لضعف أدواتها الذاتية والتابعة في هذا الصدد، وثالثا، وهذا الأهم، أن إيران تبرع في التحرّك على هامش القضايا وليس داخل متنها، خصوصا وفي هذه الحالة بالذات وقد عادت فلسطين لتكون قضية العرب الأولى والهاجس الأبرز في المحافل الدولية هذه الأيام. وهو ما يفسّر تعرّض القمّة لانتقادات من قبل حزب الله في لبنان وإعلام الحرس الثوري في إيران.

وسط هذه الحقيقة لن تستطيع طهران إلا الاندماج في المفهوم الدولي العربي الإسلامي والاستسلام للمعلن والمعترف به والمكتسب خلال العقود الأخيرة بشأن فلسطين وقضيتها. فإذا ما اختارت عدم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا للفلسطينيين ورفضت طموح الفلسطينيين لإقامة دولة على حدود 4 حزيران (يونيو) 1967، فإن ذلك يعني أن طهران تختار هامش العالم فيما هي تجهد بدأب لتكون بارزة في متنه وقطبا من أقطابه.

وكان مستغربا النداء الذي وجهه محمد الضيف، القائد العام لكتائب القسام (الجناح العسكري لحركة حماس) بعد ساعات على بدء عملية “طوفان الأقصى”. دعا الرجل الضيف “إخوتنا في المقاومة بلبنان وإيران واليمن والعراق وسوريا للالتحام مع المقاومة بفلسطين”. فلم يسبق لحركة حماس في الحروب التي خاضتها سابقا أن دعت فصائل أخرى إلى فتح جبهاتها. واللافت أن قائد القسام وجه هذه الدعوة في أول بيان له بعد بدء العملية وكأنها جزء من الخطة وليست طلبا لاحقا للدعم والاسناد. وتوحي الدعوة أن حماس قامت بهجومها من دون أي تحضير مسبق مع حلفائها في الإقليم، وربما في غزة أيضا، وأن الدعوة التي وجهها ضيف تبلغ الحلفاء عبر بيان رسمي وتروم أو تتمنى وضع عمليتها داخل سياق إقليمي أوسع.

يمثّل الأمر امتحانا لـ “وحدة الجبهات” التي لطالما توعّدت بها إيران ولوّح بها  أمين عام الحزب السيّد حسن نصر الله في لبنان ويحي السنوار رئيس حركة حماس في قطاع غزة. والواضح أن تفعيل هذه الجبهة تقرره طهران وحدها ولن يكون آلياً بمجرد أن يطلق أحد الفصائل المتحالفة مع إيران عملية أو معركة. فحتى كتابة هذه السطور لم يتجاوز حدود الجماعات الموالية لإيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن حدود المقبول ولم تمسّ خطوطا حمر ممكن أن تحضّر لفتح الجبهات تضامنا مع حماس في غزة.

معايير طهران

توحي الضربات التي شنّها حزب الله من جنوب لبنان بتقيّد الحزب بالتفاهمات التي ما برحت تنظّم قواعد الاشتباك في جنوب لبنان. وفي كل مرة “اضّطر” الحزب إلى تسجيل موقف أو ردّ فعل كانت هذه المناطق “المتنازع عليها” في القانون الدولي هي ميدان الفعل العسكري مقابل اكتفاء إسرائيل بالردّ من خلال قصف محدود على مناطق مفتوحة وإقفال “الإشكال”. ويوحي البيان الذي صدر عن الحزب بعد ساعات على بدء عملية “طوفان الأقصى” عن موقف الحدّ الأدنى في التضامن مع “الشقيق” الفلسطيني واستخدام أقصى الممكن من العبارات من دون أي وعود غير “مواكبة التطورات الهامة على الساحة ?الفلسطينية عن كثب”. وهذا يتّسق تماما مع معايير طهران للتعامل مع الحدث.

لا يختلف موقف إيران نفسها عن هذا التقويم. لم تتجاوز التصريحات والمواقف الرسمية المختلفة الصادرة في طهران (المستشار العسكري للمرشد الإيراني علي خامنئي، المتحدث باسم الحكومة، المتحدث باسم وزارة الخارجية…) اللغة المفترض أن تستخدمها دولة تبيع خطابا مقاوما ممانعا ثوريا منذ عام 1979. لا بل أن من يتفحّص أبجدية ما صدر يستنتج ضعفا في لهجته وضمورا في مضمونه ولا يتّسق مع ما كان يصدر من غزه سواء في ما أعلنه محمد الضيف وما ردده أبو عبيدة الناطق باسم القسام أو في ما يمثّله الحدث من فرادة تاريخية نادرة يفترض أن يحمل كثيرا من المياه إلى الطاحونة التي تديرها إيران منذ قيام الجمهورية الإسلامية.

يأتي الحدث بعد مرحلة مكثّفة من المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران انتهت في آب (أغسطس)  الماضي إلى إبرام اتفاق تبادل السجناء مقابل حصول إيران على 6 مليارات دولار من ودائعها المجمدة في كوريا في الجنوبية. يأتي أيضا مواكباً لأجواء تصدر من طهران توحي بأن هذا الاتفاق يمهّد لاتفاق أكبر يتعلّق بالبرنامج النووي. ويأتي الحدث بعد أشهر على إبرام طهران والرياض اتفاقا ما زالت مفاعيله تنتج أعراضاً إيجابية سواء في تبادل البعثات الدبلوماسية أو في سياق تبريد الملفات لا سيما في اليمن.

“لا علاقة لنا”

اللافت أن عدّة مصادر إيرانية نفت ما أوردته صحيفة “وول ستريت جورنال” عن تواطؤ ضباط فيلق القدس في الإعداد للعملية ولجأت مصادر أخرى إلى النأي بالنفس عن أي علاقة بها. والأرجح أن إيران تعوّل على تغيّر في ميزان القوى الإقليمية الدولية لصالحها أيا كانت مآلات هذه المعركة. فلم تعد إسرائيل بعد “يومها الأسود” تشكّل خطراً وجوديا مباشرا على نظام الجمهورية الإسلامية. فَقَدَ الجيش الإسرائيلي مستويات الردع التي كان يوحي بها وفضحت المعركة عوراته ومواطن الضعف في هياكله. كما سلّطت المعركة المجهر على تصدّع المجتمع السياسي وعجز بنيوي لدى دوائر المخابرات والمعلومات لدى الدولة الإسرائيلية. ويمكن هنا لإيران أن ترى في معركة غزة ردّا انتقاميا عجزت عنه طهران ضد الهجمات الإسرائيلية التي لم تتوقف ضد مصالحها في سوريا وداخل إيران نفسها.

وفق هذا المشهد تتحرّك الجبهة الشمالية ضد إسرائيل وتبقى الحدود الجنوبية للبنان ممسوكة مراقبة مضبوطة من قبل حزب الله بما في ذلك عدم السماح لصواريخ صبيانية مجهولة الهوية باختراق هدوئها. والأرجح أن حركة حماس وغيرها في لبنان لم تتحرّك إلا وفق أجندة طهران وليس أجندة غزة. والواضح أن طهران لا تريد أن تفقد في لبنان تفاهمات مع واشنطن أفضت إلى تسهيل الحزب ترسيم الحدود البحرية وهي بصدد عقد تفاهمات جديدة بشأن الحدود البرية تسهّل مهمة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين في هذا الصدد.

ولم يخف مزاج لبناني عبّرت عنها بعض المنابر السياسية تخوفه من انخراط حزب الله في هذه الحرب. وراجت على وسائل الإعلام الاجتماعي دعوات تقول “معهم، لكن ما دخلنا”. والواضح أن لسان الحزب يقول “وهو كذلك. وإذا ما نشر الإعلام في لبنان معلومات واردة من باريس حول أن فرنسا نصحت الحزب بعدم التدخل، فإن ذلك إذا كان صحيحا فهو بلا قيمة طالما ان الحزب ينفّذ بدقّة وولاء وإخلاص ما تأمر به طهران وليس ما تنصح به باريس.

حسابات طهران

على الرغم من نفيّ وزير الخارجية الأميركي انتوني بلينكن وجود أدلة على تورط إيران، إلا أن العالم يدرك أن إيران مستفيدة من اختلال الموازين الذي أحدثتها عملية “طوفان الأقصى” أيا كانت مآلاتها النهائية. ولئن تخشى إسرائيل من تحريك طهران لجبهة لبنان الشمالية، فإن إيران تمسك بمفتاح هذه الجبهة بما يعزز شراكتها في تصعيد أو تهدئة الموقف الذي استدعى استنفارا أميركيا لافتا. وإذا ما تشير الأجواء إلى عدم وجود خطط لتفعيل جبهة لبنان حتى الآن، فإن أمر ذلك خاضع فقط لأجندة إيران وحساباتها في ميزان أرباح وخسائر ما يجري على جبهة غزة.

جنوب لبنان: حزب الله بين قواعد الاشتباك ودعم غزّة

تستطيع إيران ومنذ عقود إقفال “حاناتها” الضاربة في المنطقة والتوقف عن ممارسة العبث في العراق وسوريا ولبنان واليمن ودول أخرى. تستطيع إيران، بما تملكه من موقع جيوستراتيجي وعمق ديمغرافي وثروات واعدة، أن تمارس أصول الحكم والعلاقات الدولية بما يؤمّن للبلد بحبوحة وازدهارا وثراء. لكن طهران منذ قيام الجمهورية الإسلامية ارتأت عقائديا أن قواعد بقاء نظامها تقوم على ثابت استمرار الصراع. ووفق هذه المعادلة يمكن تحليل وتفسير وتأويل استراتيجيات البلد وتكتيكاته.

وفّرت ظروف الحرب في غزّة عدّة شغل لإيران في سياق استخدام أوراقها لخدمة أجنداتها الإقليمية والدولية. وإذا ما تتحرّك أذرعها في العراق وسوريا ولبنان واليمن للإدلاء بدلوها على هامش الحرب، فإن المراقب لتلك الحركة يلاحظ مدى التزامها بمستوى الإيقاع الذي اختارته طهران وعدم تجاوزها لمقاييس ومعايير تكون جاذبة أو مسببة لحرب كبرى.

وقد استشعرت إيران في يوم “طوفان الأقصى” خطورة ما تجاوزته “كتائب القسام” من خطوط حمر قد توفّر شروط حرب كبرى ضد إيران. ولأنها شديدة الخبرة منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979 بالممكن والمستحيل وبالمسموح والمحرّم، فإن النظام الإيراني تهيّب الموقف وراح من خلال كافة منابره ومؤسساته يكثر من التصريحات والمواقف التي تركّز على النأي بالنفس عن أي تورط مباشر في الهجوم القسامي في ذلك اليوم.

وإذا ما سارع وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إلى تأكيد أن لا علاقة لإيران بأمر يقرره الفصيل الفلسطيني الإسلامي بشكل مستقل، فإنه جال بعد أيام من الحدث  الغزي على العراق وسوريا لينتهي بالإعلان في 13 تشرين الأول (اكتوبر) من لبنان، حيث ينشط حزب الله وهو الذراع الضاربة الأهم، عن “أهمية أمن لبنان والحفاظ على الهدوء فيه” بما أوحى بسقف عمليات الحزب على الحدود مع إسرائيل التي تتيح مناورة على حدود الهاوية.

المرشد يتدخل

ما ساقه الوزير الإيراني حظي بمباركة المرشد علي خامنئي حين أكثر من تأييد المقاومة في غزة لكنه تقصّد بالمقابل التأكيد أن أمر غزة هو أمر فلسطيني بامتياز. وكان أعلن في 10 تشرين الأول (اكتوبر) أي بعد 3 أيام على عملية “الطوفان” أن “أولئك الذين يعتقدون أن هجمات حماس هي من عمل غير الفلسطينيين، أخطأوا في حساباتهم”. ومع ذلك وبعيدا عن هذه المواقف وحتى لا نضيع في التفسير، فإن إيران، التي تعمل وفق عقيدة استمرار الصراع، لم تعمل على الانسحاب من حدث الصراع الغزي بل التحكّم به والإمساك بمستويات ردّ الفعل بما يسوق أوراقا إلى الحصاد

لما لم تفعّل إيران “وحدة الساحات”؟

الإيراني ويدفع عنها شرور حرب مباشرة.

وإذا ما تأملنا مستوى الردّ الذي انتهجه حزب الله في جنوب لبنان وأداء الفصائل الولائية في العراق ضد أهداف أميركية وحراك جماعة الحوثي، لا سيما داخل الممرات المائية، نستنتج كمّ الرسائل التي تطلقها إيران إلى من يهمه الأمر بصفتها شريكا في يوميات وراهن ومستقبل ومآلات الحرب في القطاع.

وكانت وكالة “رويترز” نقلت عن 3 مسؤولين إيرانيين في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي  رواية نفتها حركة حماس بأن خامنئي قال لإسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي للحركة حين التقاه في طهران: “لم تعطونا أي تحذير بشأن الهجوم على إسرائيل، لذلك لن نخوض الحرب نيابة عنكم”. لكن المرشد يذهب أكثر من ذلك في  29 من الشهر تفسه وفي عزّ حرب غزة ليتذكّر  أن “إيران لم تقل يوما أنها تريد رمي اليهود والصهاينة في البحر”.

لا يتبعون لنا

تبنّت طهران نظرية جديدة تنكر فيها ارتباط جماعاتها العضوي بالقرار في طهران. كرر الخطاب الإيراني “ابتكارا” أبجديا يؤكد أن فصائل “محور المقاومة” تقرر وحدها شكل ردّ الفعل عما يجري في غزة وتوقيته. وذهبت صحيفة “جوان”، التابعة للحرس الثوري الإيراني، أبعد من ذلك حين قالت في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي إن “إيران لا تملك جماعات إقليمية مسلحة تعمل بالنيابة عنها”. ولئن تدلي طهران بهذه المعادلة غير المقُنعة، فإنها تدرك جيداً أن العواصم المعنيّة، وأهمها واشنطن، تعرف هراء هذا الزعم وتدرك قدرة إيران على تفعيل تمدد الحرب ومنعها ليندرج ذلك الإدراك في حسابات الأرباح والخسائر على موائد التسويات.

والواقع أن المنظومة الغربية تلاقي إيران في معادلتها الجديدة. فبعد ساعات من شيوع أنباء هجوم “طوفان الأقصى” ورداً على اتهامات إسرائيلية-غربية بضلوع إيران وحرسها الثوري بالهجوم، قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن  في 8 تشرين الأول (اكتوبر) في مقابلة مع CNN، ومن دون انتظار نتائج أية تحقيقات: “لم نرصد بعد دليلا على أن إيران أمرت بتنفيذ هذا الهجوم أي علاقة لها به”.

والواضح أن واشنطن سارعت إلى تبرئة طهران اتّساقا مع مسار استراتيجي تفاوضي اعتمدته إدارة الرئيس جو بايدن أدى في 10 آب (أغسطس) الماضي إلى إبرام اتفاق لتبادل السجناء. أفرجت واشنطن بموجب الاتفاق عن مبلغ 6 مليارات دولار من الأرصدة الإيرانية في كوريا الجنوبية. وقد سرت أنباء بعد “الطوفان” عن أن البيت الأبيض يدرس منح إعفاءات إلى العراق تتيح الإفراج عن 10 مليارات دولار من الأرصدة الإيرانية هناك.

تواطؤ غربي إيراني

في سياق ملاقاة الغرب لمزاعم طهران باستقلال قرار الجماعات التابعة لها، وقبل أيام من إعلان واشنطن في 3 كانون الأول (ديسمبر) الماضي عن اعتقادها بأن هجمات الحوثيين في البحر الأحمر مدعومة من إيران، صدر في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي بيان عن وزراء خارجية مجموعة الدول السبع “يدعو” الحوثيين إلى التوقف عن تهديد الملاحة الدولية في المنطقة. وجاء توجّه المجموعة إلى الميليشيا اليمنية مباشراً وكأنها تخاطب جهة شرعية سيادية، علما أن لليمن حكومة شرعية يعترف بها العالم وأن تلك الميليشيا تعتبر في القانون الدولي متمرّدة وكانت مُدرجة على لوائح الإرهاب. ناهيك من أن هذا البيان يقرّ تماما بما تدّعية إيران من استقلال قرار هذه المليشيا عن صاحب القرار في طهران.

تعطي إيران دروسا في علوم “حافة الهاوية” وهي في ما تمارسه ميليشياتها التابعة توسّع من مفاعيل تلك العلوم في المنطقة. وإذا ما يتحرّك الحوثيون على حافة هذه الهاوية فذلك أنهم، وبالتحديد من خلال قيام إدارة بايدن برفعهم عن لائحة الأرهاب، لم يصادفوا من قبل الولايات المتحدة والحلف الغربي أية هاوية تواجههم. بالمقابل يتمسّك حزب الله في لبنان وفصائل العراق بتلك العلوم التي لا تشعل حربا لكنها تبقي الواجهة والعنوان الإيرانيين مضائين لمن يريد المراجعة.

يكفي تأمل تلك اللعبة في ما يطلقه الحوثيون من صواريخ لا تصيب أهدافها أو يسهل إسقاطها. ويكفي تأمل ما أعلنته القيادة المركزية الأميركية في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي عن صاروخين باليستيين أطلقا من اليمن على سفينة “يو إس إس ميسون” الأمريكية بعد وصولها لإنقاذ الناقلة المختطفة “سنترال بارك”. يقول البيان إن الصواريخ سقطت في خليج عدن على بعد 10 أميال بحرية من السفينة. وللعلم فإن تلك الأميال تساوي أكثر من 18 كلم، بما يعني أن الميليشيات لم تخطئ هدفها، بل أنها لم تستهدفه أبدا، حتى تبقى على حافة لا تسقط في أية هاوية.

تخوض إيران حرب غزة على طريقتها وبناء على حصاد المعارك في حقولها. تعلم طهران أن المنطقة ستتغيّر بعد هذه الحرب وأن خرائط جيوسياسية ستفرض نفسها. ولئن استثمرت طهران الكثير من العقود في الملف الفلسطيني فإنها شديدة الحرص على جني ريوعها وتعظيم حصصها بعد غزة. وإذا ما كانت الكارثة تجري في فلسطين، فإن طهران تحسب مفاعيل الحدث وأرباحه في برنامجها النووي الموعود كما في مستقبل نفوذها ومكانتها في الشرق الأوسط وسوق الطاقة والمشهد الدولي برمته. لم تنخرط طهران مباشرة في الحرب لكنها خاضتها يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة مساهمة من حيث لا تدري وهي تدري تماما أن ضجيج الفصائل التابعة لها لم يغيّر شيئا من موازي القوة الإسيرائيلية لكنه أضاف الكثير إلة موازين قوة إيران في الإمساك بقرار الحرب الكبرى والسلم

مواقف إيران من مسائل كثيرة في العالم وخصوصا تلك في الشرق الأوسط تتأرجح ما بين النصوص العقائدية والسياسات والتكتيكات البراغماتية. فالنصوص تأخذ جيدا بالاعتبار ما هو ثابت في عقائد التيار المحافظ الحاكم وتمدداته داخل المؤسسات الإيرانية وتوابعها الفصائلية في العالم، فيما رشاقتها السياسية تأخذ بالاعتبار الواقع والوقائع وما هو متحوّل في العالم يتطلب تحوّلا في مواقف قمّة الدولة في إيران

على الرغم من تحفّظات إيران بشان فلسطين وتمثيلها ومستقبل حلّ قضيتها، فإن لا أحد من داخل المشهد العربي والإسلامي يأخذ الأمر على محمل الجدّ طالما أنه غير مسنود بخيار إيراني عملي بديل، وطالما أن طهران في حالة تفاوض لم تتوقف مع الولايات المتحدة، وطالما أن إيران نأت بنفسها منذ الساعات الأولى لبدء الحرب عن أي تورط في عملية “طوفان الأقصى”. وقد بدا في هذا الإطار حرص إيران على تكرار وتأكيد أن هجمات “القسام” كما ردّ حزب الله وفصائل العراق وجماعة الحوثي اليمنية لاحقا هو قرار محليّ ذاتي لا شأن لإيران به وليس تنفيذاً لأوامر أو إيحاءات صادرة عن طهران.

كان مستغربا النداء الذي وجهه محمد الضيف، القائد العام لكتائب القسام (الجناح العسكري لحركة حماس) بعد ساعات على بدء عملية “طوفان الأقصى”. دعا الرجل الضيف “إخوتنا في المقاومة بلبنان وإيران واليمن والعراق وسوريا للالتحام مع المقاومة بفلسطين”. فلم يسبق لحركة حماس في الحروب التي خاضتها سابقا أن دعت فصائل أخرى إلى فتح جبهاتها. واللافت أن قائد القسام وجه هذه الدعوة في أول بيان له بعد بدء العملية وكأنها جزء من الخطة وليست طلبا لاحقا للدعم والاسناد.

تخوض إيران حرب غزة على طريقتها وبناء على حصاد المعارك في حقولها. تعلم طهران أن المنطقة ستتغيّر بعد هذه الحرب وأن خرائط جيوسياسية ستفرض نفسها. ولئن استثمرت طهران الكثير من العقود في الملف الفلسطيني فإنها شديدة الحرص على جني ريوعها وتعظيم حصصها بعد غزة.