واشنطن واليمن: الماكيافيلية وعلوم الخفّة

صراع أميركي إيراني فوق البحر الأحمر وضربات تستهدف الحوثيين براً

ذهبت الولايات المتحدة في كانون الثاني / يناير الماضي باتجاه الخيار العسكري في محاولة لردع جماعة الحوثي عن تهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن. ولم تجد واشنطن إلا بريطانيا فقط شريكا في العمليات العسكرية التي استهدفت مواقع وبنى تحتية تابعة للحوثيين داخل الأراضي اليمنية.

وفيما ثبت لاحقا فشل الضربات التي وجهتها واشنطن ولندن ضد مخازن الأسلحة ومنصّات الصواريخ في ثنيّ الجماعة اليمنية عن الاستمرار في استهداف السفن التجارية العابرة في المياه المواجهة للسواحل اليمنية، وراحت صواريخ الحوثيين ومسيّراتهم وزوارقهم المفخخة تستهدف سفنا

الضربات الأميركية البريطانية ضد الحوثيين: فشل أم نجاح؟

حربية أميركية وبريطانية وراحت التهديدات تطلق من صنعاء ضد أي سفن تابعة لدول أخرى تنضم إلى الجهد العسكري الغربي في المنطقة، فإن المشهد يفضح ارتباكا وركاكة في مقاربة أزمة اليمن منذ اندلاعها.

حسابات واشنطن الإيرانية

تعاملت الإدارات الأميركية في واشنطن مع أزمة اليمن وفق أجندة علاقاتها مع الرياض والمجموعة الخليجية. بالمقابل تكتشف إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مؤخرا اليمن من بوابة أمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب والحرص على الممرات الدولية. وفي الحالتين تبدو واشنطن (ولندن وغيرها) خارج متن أزمة اليمن تهوى اللعب في هوامشها.

وسواء كان صاحب الإدارة باراك أوباما أم دونالد ترامب أم جو بايدن، فإن الولايات المتحدة رفضت الاعتراف بخطورة ظاهرة جماعة الحوثي وامتداداتها الإيرانية، واعتبرتها عاملا عاديا من بين بقية عوامل الصراع في اليمن، الداخلية (منذ أن استولت الجماعة على صنعاء في 21 أيلول / سبتمبر 2014)، أو الخارجية (منذ أن أطلق التحالف العربي عملية “عاصفة الحزم” في 25 آذار/ مارس 2015). كما استخدمت واشنطن، منذ اندلاع الأزمة قضية اليمن كأداة من أدوات الابتزاز والضغط والمناورة مع السعودية وحلفائها.

بدا أن استراتيجية واشنطن في التعامل مع إيران لإنتاج وصيانة الاتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني في عهد أوباما كما في عهد بايدن، أملت سلوكاً يداري مصالح طهران في كل ميادين نفوذها في المنطقة، بما في ذلك في اليمن. وفق ذلك قاربت واشنطن في عهد أوباما ببرود وسلبية وتأرجح هواجس الخليجيين بشأن ما يمثّله الحوثيون من خطر يتوعدون به على أمنهم. في المقابل راكم بايدن، منذ دخوله البيت الأبيض، المواقف والقرارات التي تمهّد، من خلال اليمن، الطريق للعودة إلى إتفاق فيينا (2015) مع إيران وإعادة إنعاشه.

لوائح الإرهاب: ترامب – بادين

إذا ما كان لافتاً أن إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أدرجت الحوثيين على لوائح الأرهاب، فإن ذلك لم يكن من القرارات الأولى لهذه الإدارة بل من أواخرها. أعلن وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو الأمر في 11 كانون الثاني/ يناير 2021 أي قبل 10 أيام من نهاية ولاية ترامب في البيت الأبيض. وطرح التوقيت حينها أسئلة بشأن انتظار الإدارة الجمهورية كل هذا الوقت للاستفاقة على إرهابية جماعة الحوثي والالتحاق بوجهة نظر السعودية وحلفائها، فيما علاقات ترامب مع المنطقة، لا سيما مع الرياض وأبوظبي، كانت ممتازة ذات طفرةاستثنائية.

وليس واضحاً حتى الآن ما إذا كان إعلان بومبيو المتأخّر كان ينمّ عن قناعة لدى المؤسّسة الأمنية الأميركية التي تقيّم هذه الجماعات أيضا بالنظر إلى خطرها على مصالح الولايات المتحدة وأمنها الاستراتيجي، أو كان بمثابة إجراء “رفع عتب” كرمى لعيون الحلفاء في الخليج. وأيا كانت

الحوثيون باتوا رقما صعبا في تهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر

التفسيرات، فإن الأمر كان تفصيلا عرضيا لدى “الدولة العميقة” ما سهّل لإدارة بايدن اتخاذ قرار مضاد أعلنه وزير خارجية “العهد الحديد” أنتوني بلينكن في 12 شباط / فبراير 2022 برفع “الجماعة” عن لوائح الإرهاب، أي بعد 31 يوما من قرار سلفه.

يكشف الأمر مدى الخفّة التي تتعامل بها إدارات واشنطن مع مسار ومصير بلد بات هذه الأيام يهدد اقتصاد العالم برمته. فإذا ما فرض نزقٌ قرار إرهابية الجماعة فإن نزقا مضادا برأ الإرهابيين من إرهابيتهم. وحين سُئل بايدن، إثر قيام القوات الأميركية-البريطانية بقصف مواقع للحوثيين في 11 كانون الثاني / يناير الماضي، عما إذا كان سيعتبر الحوثيين إرهابييين فأجاب: “أنهم كذلك”.

أزال بايدن وصحبة “الجماعة” عن “لوائح ترامب” في الوسم بالإرهاب لأسباب كيدية. وبدا أن بايدن يسارع إلى إصدار قرار، لا يمرّ بالمؤسسات (كما قرار إدارة ترامب) ولا برصانة النظر إلى العلاقات الدولية، نكاية بقرار صدر عن سلفه ترامب الذي كان (ومازال) لا يعترف له بشرعية انتخابه رئيسا. وبدا أيضا أن إزالة الحوثيين عن لوائح الإرهاب تأني لمخالفة رؤية التحالف العربي لأزمة اليمن واتّساقا مع العداء الذي شهره بايدن أثناء حملته الانتخابية بوجه السعودية واعداً بجعلها دولة “منبوذة”.

أين الحلّ اليمني

انقلب موقف بايدن لاحقا رأسا على عقب في العلاقة مع السعودية التي زارها في تموز / يوليو 2022 وسعى إلى ترميم العلاقة معها والاعتراف بها رقما صعبا لا يستطيع معها ممارسة هوايات النبذ الموعودة. وانقلب موقفه لاحقا رأسا على عقب مرة أخرى، ليس فقط في استنتاج إرهابية جماعة الحوثي حسب اعترافه، بل في الذهاب مع بريطانيا إلى استهداف الجماعة التي برأها من الأرهاب بأطنان من الصواريخ التي قصفت عشرات الأهداف داخل المحافظات اليمنية التي يسيطر عليها الحوثيون. وفيما روّجت واشنطن بعد الضربات الأولى أنها قضت على على 40 بالمئة من قدرات الحوثيين الهجومية، ثبت لاحقا أن الحوثيين يستطيعون استخدان قدرات بسيطة من الصواريخ المتنقلة والمسيّرات الزهيدة الثمن لتعطيل الملاحة وتهديد الاقتصاد الدولي.

ومع ذلك فإن مقاربة الحالة الحوثية بقيت سطحية يتمّ التعامل معها من زوايا أمنية تُردع بالوسائل الأمنية. وإذا لم تصل “الجماعة” إلى قرار سياسي ذاتي أو موحى به من الراعي الإيراني لوقف الهجمات ضد سفن الشحن في البحر الأحمر، فإن استهداف الملاحة الدولية، بذريعة دعم غزّة ولذرائع أخرى استخدمت قبل ذلك، سيبقى مستمرا طالما أن تعطيل الملاحة يجري بوسائل بسيطة (حتى القراصنة يمتلكونها) ولن يردعها قصف المطارات والبنى التحتية الحوثية الثقيلة.

لا حلّ لأزمة البحر الأحمر إلا بحلّ أزمة اليمن. ولا مناص للدول الحريصة على الاقتصاد الدولي وحماية سلاسل التوريد إلا بفتح ملف اليمن والانكباب عليه. تدخّلت واشنطن وحلفاؤها لمنع استعادة “الشرعية اليمنية” عسكريا لميناء الحديدة عام 2018 ما كان من شأنه هزيمة ظاهرة الحوثيين التي تعملقت وتعاظمت قواها بسبب موقف هذا الغرب. لاحقاً عزز فرض اتفاق استوكهولم الموقع السياسي للحوثيين. بدوا من الغرور والثقة بحيث باتوا طرفاً يستدرج أساطيل العالم لصدام، بغية الاعتراف بشرعيتهم في حكم صنعاء والإقرار بقدرات إيران على التحكم بأمن الملاحة في البحر الأحمر من عدمه. لما لا و 13 دولة أصدرت بيانا مشتركاً في 4 كانون الثاني / يناير الماضي يكاد يناشد به الميليشيا الأفراج عن البحر ومضيقه.

لم تبدِّ واشنطن ندما على / أو مراجعة لـ / سياساتها في اليمن. حتى زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل الذي رحب

طهران والحوثيون: ما هو استثمار إيران في اليمن؟

بالضربات ضد الحوثيين وانتقد تأخيرها، فإنه لم ينتقد سياسة بلاده الميكيافيلية في اليمن. والأرجح أن شيئا من هذا لن يحدث على النحو الذي يفسّر إعراض السعودية والإمارات ودول البحر الأحمر عن المشاركة في تحالف “حرس الازدهار” الأميركي البحري، وامتناعها عن الانخراط في نزق جديد يفرزه مزاج آخر في واشنطن.

غزّة .. مناسبة حوثية

لا يجد خبراء الشؤون العسكرية في تدخل جماعة الحوثي في اليمن في الحرب الإسرائيلية ضد غزة أي اختلال مهم في موازين القوى. وعلى الرغم من تهديدات إسرائيلية بالردّ على هجمات الحوثيين ، إلا أن ذلك الردّ، المستبعد في الأولويات الإسرائيلية حالياً، لن يؤدي إلى توسيع محتمل للحرب داخل الإقليم.

يتّسق حراك الحوثيين ضد إسرائيل مع الخطاب الإيراني المتدرّج بحذر في مقاربة الحرب التي اندلعت عقب قيام “كتائب القسّام” الذراع العسكرية لحركة “حماس” بعملية “طوفان الأقصى” في غلاف غزة في 7 تشرين الأول (اكتوبر الماضي). وفيما ردّد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان التحذير من أن استمرار الحرب قد يؤدي إلى توسيع نطاقها، فإن الحوثيين في اليمن، كما حزب الله في لبنان والفصائل الولائية في العراق، منضبطون داخل تحذيرات طهران، مهوّلون متوعّدون بتدخلهم، على نقيض ما يدعو إليه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في جولاته في المنطقة بعدم خروج الحرب عن ميدانها الغزّي.

تعتبر إسرائيل أن انخراط حزب الله من لبنان في الحرب يُعدّ تطوّرا مهدّدا وخطيرا تستبق إسرائيل احتمالاته برفع مستوى التهديد المضاد بما في ذلك تدمير حزب الله ولبنان معاً. وتحذّر الولايات المتحدة من تمادي الفصائل العراقية في استهداف مواقعها في العراق أو سوريا وتقوم بالردّ أحيانا بشكل جراحي محسوب (قبل أن تقوم الولايات المتحدة بقصف مواقع الفصائل الموالية لإيران في سوريا والعراق في شباط / فبراير الماضي). إلا أن الحراك العراقي لا يرقى إلى ما مستوى أعلى من التحرّشات. وتنفّذ تلك الهجمات بالأغلب لأغراض داخلية أيضا وبأساليب شعبوية سواء في التنافس مع التيار الصدري في جمع الحشود داخل العاصمة أم في التدفق الملتبس والمغرض نحو الحدود مع الأردن (وليس سوريا) طلبا للعبور نحو فلسطين.

ويشبه تمرين الفصائل المستفزّ حيال الأردن التمرين نفسه الذي يمارسه الحوثيون حين أعلنوا أنهم طلبوا من السعودية فتح الحدود أمام قواتهم للتوجه نحو فلسطين. وتمثّل تلك التمارين مزاجاً إيرانيا سلبيا تجاه دول المنطقة تؤكد مخاوف لطالما عبّر عنها الأردنيون وبشخص الملك عبد الله الثاني بالذات من أخطار الميليشيات التابعة لإيران على الحدود السورية الأردنية ومن خطط إيرانية قديمة-جديدة ضد المملكة الهاشمية. والواضح أن الحوثيين يمارسون نهج توتر وفق أجندة إيرانية مقصودة ومحسوبة في العلاقة الملتبسة مع السعودية، على الرغم من أجواء الودّ التفاؤل التي بثّها اتفاق بكين الذي أُبرم برعاية الصين بين طهران والرياض في 10 آذار (مارس) الماضي.

وقد أعلن المتحدث العسكري للحوثيين في 31 تشرين الأول (اكتوبر) الماضي أن “قواتنا المسلحة أطلقت مجموعة كبيرة من الصواريخ البالستية وصواريخ كروز وعددًا كبيرًا من الطائرات المسيرة على أهداف مختلفة للعدو الإسرائيلي”. جاء هذا الإعلان  بعد قيام الحوثيين على مدى الأسابيع اللاحقة لعملية حماس بثلاث هجمات باتجاه إسرائيل. وقد عاد وأعلن في  كانون الثاني / نوفمبرالماضي عن رزمة هجمات رابعة ضد “أهداف حساسة” في إسرائيل.

حسابات الداخل والمنطقة

صحيح أن حراك الحوثيين العسكري تجاه إسرائيل يندرج ضمن سياق الأوراق التي تحرّكها إيران، غير أن للمناسبة أصداء وتداعيات بعيده عن حدث الحرب في غزة.

لا يبتعد استعراض الصواريخ الباليستية والمسيرات بالمناسبة الغزّية عن سياق شديد الالتصاق بالشأن اليمني، لجهة مساره ومصيره. يشدّ الحوثيون عصبا داخليا بدأ يترهل برفع شعارات العداء لإسرائيل في لحظة إجماع يمني ضد حرب إسرائيل في غزة ويبيح لهم فرض جباية مالية تحت مسمى التبرع لغزة و إطلاق حملة تجنيد في صفوف فئة المهمشين من ذوي البشرة السوداء، بحجّة نصرة فلسطين، لتجنيد مقاتلين جدد إلى صفوفها.

وإذا ما كان الاستعراض الحوثي مرتبطاً بالسعيّ للتأثير الدائم على موازين القوى الداخلية، لكن للأمر رسائل إقليمية دولية سواء تلك المتعلقة بأمن المضائق والممرات المائية والملاحة الدولية أم تلك المتعلقة بالأمن الاستراتيجي لدول الخليج كما بصراع القوى في البحر الأحمر. ولئن اضطر بلينكن لزيارة بغداد والاجتماع برئيس الوزراء محمد شياع السوداني لبحث مسألة قيام فصائل ولائية باستهداف قواعد تتواجد فيها قوات أميركية في العراق وربما تحميله رسالة إلى طهران، فإن الحوثيين يعيدون تقديم أنفسهم، بهذه المناسبة، رقما صعبا في المعادلة اليمنية ويوجهون رسائل إيرانية وجب على واشنطن أخذها دائما بعين الاعتبار في مقاربة أمن المنطقة.

وإذا ما يعيش اليمن حالة اللاحرب واللاسلم ويباشر الحوثيون مفاوضات مع السعودية وصفتها الرياض في أيلول (سبتمبر) الماضي بـ “الإيجابية”، غير أن عدم التوصّل إلى مرحلة الاتفاق والتسوية وتشوّه مسار التفاوض بعمليات عسكرية كتلك التي أدت في 25 أيلول (سبتمبر) الماضي إلى مقتل 3 جنود بحرينيين في هجوم استهدف مواقع قوة دفاع البحرين جنوب السعودية، يشرّع الأبواب دائما أمام ممارسة تمارين عرض القوة

لماذا رفضت السعودية ومصر الانضمام إلى “تحالف لازدهار” في البحر الأحمر؟

والعضلات بغرض تحسين شروطهم داخل أي صفقة أو معادلة جديدة.

صحيح أن لاتفاق بكين السعودي الإيراني مفاعيل يمنية ما زالت دون مستوى المنتظر من علاقات انفتاح وودّ وتعاون بين الرياض وطهران، إلا أن جماعة الحوثي، ومن ورائها طهران واتفاق بكين نفسه، تمنّ النفس بأن تحسّن التحوّلات إلى أقصى حدّ من مكانتها وحصّتها ومساحة نفوذها داخل أي تسوية مفترضة مع باقي فرقاء الصراع في اليمن.

والحال فإن المسافة البعيدة التي تفصل مكان انطلاق صواريخ الحوثي أو مسيراته عن هدفها في إيلات أو غيرها في إسرائيل تمكّن الدفاعات الإسرائيلية والأميركية من اسقاطها بسهولة. غير أن مسار تلك الأسلحة يمر داخل المنطقة مذكّرا كل دولها، لا سيما السعودية ودول الخليج كما البلدان المطلّة على البحر الأحمر، بامتلاك الجماعة في اليمن والحكم في إيران قدرات تدمير وتخريب عالية لإيذاء المنطقة والعبث بتوارناتها. ويجري الأمر وفق سيناريو تقليدي يتكرر تعتمده طهران في كل ميادين نفوذها في الشرق الأوسط لتسويق مقارباتها الدبلوماسية المعتادة والتي لطالما تقترح بشكل مُمّل أن تكون شريكة في فكفكة عقد وحلّ نزاعات تقف وراءها.

فشل واشنطن ونجاح الحوثيين

تدرك الولايات المتحدة أنها لن تستطيع أن تردع جماعة الحوثي عن تهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر من خلال الضغوط والتدابير التي اتّخذتها حتى الآن من أجل تحقيق ذلك. ويدرك العالم أن واشنطن لا تستخدم قدراتها الحقيقية، وخصوصا العسكرية، من أجل فرض إرادة “تحرير” مضيق باب المندب وممرات الملاحة في المنطقة.

وفق هذه المعادلة يتحرك الحوثيون داخل هامش مناورة رحب يوفّر لهم وسائل الاستمرار في التأثير المعطِّل للملاحة وانسياب سلاسل التوريد. فلا قرار أميركيا-بريطانيا لـ “اجتثاثهم”، ولا أجواء دولية توحي بفتح ملف اليمن برمته وقلب موازين القوى. وفوق ذلك تأتي العقوبات التي فرضتها واشنطن ولندن على بعض قادة الحوثيين لتعزّز طمأنينة في صفوفهم بشأن المستوى المحدود لأدوات الردع المتاحة.

لا يملك قادة جماعة الحوثي أرصدة مالية في المصارف الأميركية وصناديق المملكة المتحدة ولا خطط لديهم لزيارة واشنطن والسياحة في لندن. وإذا ما تأملت الجماعة عقوبات الغرب ضد إيران قديما وروسيا حديثا، أمكن لها ملاحظة فشل تلك الأدوات وركاكتها.

استنتجت الجماعة في اليمن، وإيران من ورائها، أن ربط العبث بأمن البحر الأحمر بالحرب في غزّة كان له أثر لدى دوائر إقليمية ودولية في الإحجام عن الانضمام إلى تحالف “حارس الازدهار”.

العرب والعالم.. نأي بالنفس

لم تشارك السعودية والإمارات ومصر ودول أخرى مطلّة على البحر الأحمر في التحالف ولم تنضمّ دول غربية أيضا وارتجل الاتحاد الأوروبي مجموعته البحرية الخاصة.

والأرجح أن المنطقة لا تثقّ بمقاربة واشنطن ولندن الجديدة في اليمن وهما المسؤولتان عن إفشال رؤية المنطقة في مكافحة الظاهرة الحوثية خلال السنوات الأخيرة. بالمقابل فإن بلدان في أوروبا رفضت الالتحاق بـ “التحالف” إما لأنه تشكّل في سياق حرب غزّة (اسبانيا)، وإما لأنها لا تريد وضع قواتها البحرية تحت إمرة جنرالات واشنطن (فرنسا وإيطاليا).

استنتجت جماعة الحوثي أيضا أن الولايات المتحدة دخلت في مزاج الانتخابات الرئاسية، وأن تورّط واشنطن في حرب كبرى جديدة في الشرق الأوسط ليس حجّة انتخابية يمكن للرئيس الأميركي جو بايدن الاستثمار بها داخل حملته للتجديد لنفسه داخل البيت الأبيض.

رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني رشاد العليمي: الحلّ بدعم الشرعية

ما صدر عن المنابر الأميركية والبريطانية يفيد أن ضربات البلدين العسكرية هدفها “إضعاف” قدرة الميليشيا اليمنية على التعرّض للسفن التجارية المبحرة في المياه المقابلة لليمن. وفي استخدام كلمة “إضعاف” إبلاغ للحوثيين والإيرانيين من خلفهم أن لا نوايا لـ “القضاء” على قدرات الجماعة ولا خطط لحرب كبرى تطيح بقدرة الحوثيين على الإطلالة على شواطئ البحر الأحمر.

توحي تلك الإشارات بالقبول بالسياق الذي يلوّح به الحوثيون. فالميليشيا تتحرى اعترافا دوليا، أميركيا بالأخص، بواقعها في اليمن وبالحيّز الرحب الذي تتوق إليه داخل هذا البلد. وإذا ما سبق لضغوط أميركية بريطانية أن “أنقذت” الحوثيين من خطّة للتحالف العربي والشرعية اليمنية بتحرير الحديدة وفرضت على فرقاء الصراع اتفاق استوكهولم عام 2018، فإن الجماعة (وإيران من خلفها) تطمح إلى إقرار العالم بأرجحيتها داخل موازين القوى اليمنية.

إيران تنتظر الحصاد

صحيح أن لا شيء في واشنطن ولندن يوحي بالذهاب إلى إبرام صفقة مع طهران لصالح الحوثيين في اليمن، لكن الولايات المتحدة تدرك أن الخيار العسكري لن يكون  مجدياً إلى درجة أنها تستدعي تدخّل الصين للضغط والتوسط. وإذا ما صحّت الانباء عن أن بكين فعلت شيئا من هذا القبيل ولمّحت إلى تبرّم لدى طهران من سلوك ذراعها في اليمن، فإن الأمر يعبّر عن مشهد سريالي معقّد يخلط الارتجال بالعبث بتقاطع الخصمين الكبيرين، الصين وأميركا، في لحظة نادرة.

لن يضير طهران عتب “حليفها” الصيني الذي يستبطن اعترافا بقدرات إيران على الإمساك بمفاصل دولية وممرات الملاحة في الشرق الأوسط ومنها مضيق باب المندب وتأثيراته على قناة السويس.

ولن يضيرها أن تتدلل مستمرة في الزعم أن قرار الحوثي سيّدٌ مستقل عن قرار طهران وأن توحي للسائلين بأنها “ستسعى” وإن كانت تخريجة ذلك وفق “حجّة غزّة” تحتاج إلى اجتهادات وفتاوى من السهّل أن توفّرها قريحة الحاكم في طهران.

وقد تكون ظروف المأزق هي التي استدعت تسريبا إلى “وول ستريت جورنال” عن معلومات بشأن تحذيرات سرّية مسبقة كانت الولايات المتحدة قد أرسلتها إلى إيران بشأن هجوم كرمان، ذلك أن طهران تحتاج من أجل النزول (وإنزال الحوثيين معها) عن الشجرة التفاخر بخدمات واشنطن والانصات لحرد بكين.

والواضح أن “جبهة” البحر الأحمر هي واحدة من الجبهات العديدة التي فُتحت برعاية إيران بمناسبة اندلاع الحرب في غزّة. أرادت طهران الاستثمار المفرط، خصوصا أن ورقة غزّة بات يتمّ تداولها في القاهرة والدوحة وواشنطن على نحو تشعر به إيران أنها تفقد ورقة أسرفت بالاستثمار بها بالمال والسلاح والتدريب والموقف والتعبئة على مدى العقود الأربع الأخيرة.

تدرك طهران أيضا أن خرائط نفوذ سيعاد تشكيلها في العالم والشرق الأوسط بعد حرب غزّة وأن طاولة مفاوضات ستنبسط بين “الأقوياء” لتحديد الأحجام والأوزان في مستقبل العالم. وفيما انتهجت إيران سلوكا سياسيا جديدا تنأى بنفسها من خلاله عن أي تصرف تقوم بها الفصائل الحليفة في المنطقة، غير أنها  تعرف أن العواصم الكبرى تعرف هراء ذلك وأن مفاتيح الربط والحل ف البحر الأحمر كما في اليمن وسوريا والعراق ولبنان هي في يد طهران دون غيّرها.

وإذا ما ترفض واشنطن ولندن وعواصم غربية أخرى فتح ملف اليمن من بوابة دعم الشرعية كما يطالب رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني رشاد العليمي، فتلك إشارة بأن المجتمع الدولي ما زال يرى في إيران شريكا في الحلّ اليمني ويتجنّب التورّط في مسار من شأنه النيل من مصالح طهران اليمنية.

كان لافتاً أن إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب أدرجت الحوثيين على لوائح الأرهاب، فإن ذلك لم يكن من القرارات الأولى لهذه الإدارة بل من أواخرها. أعلن وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو الأمر قبل 10 أيام من نهاية ولاية ترامب في البيت الأبيض. وطرح التوقيت حينها أسئلة بشأن انتظار الإدارة الجمهورية كل هذا الوقت للاستفاقة على إرهابية جماعة الحوثي والالتحاق بوجهة نظر السعودية وحلفائها، فيما علاقات ترامب مع المنطقة، لا سيما مع الرياض وأبوظبي، كانت ممتازة ذات طفرةاستثنائية.

تدرك الولايات المتحدة أنها لن تستطيع أن تردع جماعة الحوثي عن تهديد الملاحة الدولية في البحر الأحمر من خلال الضغوط والتدابير التي اتّخذتها حتى الآن من أجل تحقيق ذلك. وفق هذه المعادلة يتحرك الحوثيون داخل هامش مناورة رحب يوفّر لهم وسائل الاستمرار في التأثير المعطِّل للملاحة وانسياب سلاسل التوريد. فلا قرار أميركيا- بريطانيا لـ “اجتثاثهم”، ولا أجواء دولية توحي بفتح ملف اليمن برمته وقلب موازين القوى. وفوق ذلك تأتي العقوبات التي فرضتها واشنطن ولندن على بعض قادة الحوثيين لتعزّز طمأنينة في صفوفهم بشأن المستوى المحدود لأدوات الردع المتاحة.

تدرك طهران أن خرائط نفوذ سيعاد تشكيلها في العالم والشرق الأوسط بعد حرب غزّة وأن طاولة مفاوضات ستنبسط بين “الأقوياء” لتحديد الأحجام والأوزان في مستقبل العالم. وفيما انتهجت إيران سلوكا سياسيا جديدا تنأى بنفسها من خلاله عن أي تصرف تقوم بها الفصائل الحليفة في المنطقة، غير أنها  تعرف أن العواصم الكبرى تعرف هراء ذلك وأن مفاتيح الربط والحل ف البحر الأحمر كما في اليمن وسوريا والعراق ولبنان هي في يد طهران دون غيّرها.

لم تشارك السعودية والإمارات ومصر ودول أخرى مطلّة على البحر الأحمر في التحالف ولم تنضمّ دول غربية أيضا وارتجل الاتحاد الأوروبي مجموعته البحرية الخاصة.

والأرجح أن المنطقة لا تثقّ بمقاربة واشنطن ولندن الجديدة في اليمن وهما المسؤولتان عن إفشال رؤية المنطقة في مكافحة الظاهرة الحوثية خلال السنوات الأخيرة. بالمقابل فإن بلدان في أوروبا رفضت الالتحاق بـ “التحالف” إما لأنه تشكّل في سياق حرب غزّة (اسبانيا)، وإما لأنها لا تريد وضع قواتها البحرية تحت إمرة جنرالات واشنطن (فرنسا وإيطاليا).