دولة أكراد العراق والخيار الصعب

د.ماجد السامرائي

مرحلتان تاريخيتان مهمتان فرضتا أحداثهما القاسية على الأكراد أولهما قيام جمهورية »مهاباد« عام 1946. قام هذا الكيان نتيجة للأزمة الإيرانية الناشئة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، فبالرغم من أن إيران أعلنت الحياد أثناء الحرب العالمية الثانية إلاّ أن قوات الاتحاد السوفيتي توغلت في جزء من الأراضي الإيرانية وكان مبرر جوزيف ستالين لهذا التوغل هو أن شاه إيران رضا بهلوي كان متعاطفاً مع أدولف هتلر. ونتيجة لهذا التوغل، هرب رضا بهلوي إلى المنفى وتم تنصيب إبنه محمد رضا بهلوي في مكانه، ولكن الجيش السوفييتي استمر بالتوغل بعد أن كان يسيطر على بعض المناطق شمال إيران، وكان ستالين يطمح إلى توسيع نفوذ الاتحاد السوفيتي بصورة غير مباشرة عن طريق إقامة كيانات موالية له

استغل بعض الأكراد في إيران هذه الفرصة وقام قاضي محمد مع مصطفى البارزاني بإعلان جمهورية مهاباد في 22 يناير 1946  ولكن الضغط الذي مارسه الشاه على الولايات المتحدة التي ضغطت بدورها على الاتحاد السوفيتي كان كفيلاً بانسحاب القوات السوفيتية من الأراضي الأيرانية وقامت الحكومة الإيرانية بإسقاط جمهورية مهاباد بعد 11 شهرا من إعلانها وتم إعدام قاضي محمد في 31 مارس 1947 وكان القائد العام للقوات المسلحة فيها الراحل مصطفى البارزاني الذي هرب الى موسكو. كانت تلك الحادثة السياسية إحدى صفقات الكبارالتي سحقت آمال الشعب الكردي بالاستقلال. وفي عام 1958 تم القضاء على الحكم الملكي في العراق، وقامت جمهورية تزعمها عبد الكريم قاسم الذي سرق الثورة من قيادتها الحقيقية التي كانت تضم القوى القومية والوطنية والديمقراطية، فاستدعي الزعيم عبد الكريم قاسم الملا مصطفى البرزاني من منفاه بموسكو للتفاوض على حقوق الشعب الكردي مع الزعماء الجدد في العراق.لكن مطالب البرزاني بالحكم الذاتي لم تتحقق مما دفعه وهو رئيس للحزب الديمقراطي الكردستاني الى اعلان حرب عصابات قاسية في جبال كردستان.وخلال هذه المرحلة حصل أول انشقاق عن قيادة البارزاني تمثل بخروج جلال الطالباني بحزبه الجديد الذي كان يدعو الى التعددية والديمقراطية، بل ذهب الطالباني بعيداً لتأييد الوحدة العربية وزار مصر والتقى الراحل جمال عبد الناصر مناصراُ له ولدعوته القومية العربية. وبعد حكم حزب البعث عام 1968 بدأت المفاوضات من جديد مع قيادة بارزاني، وكانت عناصر مهمة في القيادة البعثية وفي مقدمتهم )عبد الخالق السامرائي( الذي أعدمه صدام فيما بعد تعمل وبجد ومن خلال حوارات سياسية مكثفة مع قيادات الحزب الشيوعي والحركة الكردية للتوصل الى اتفاق يعطي الشعب

دعم خاص لأكراد العراق
دعم خاص لأكراد العراق

الكردي حقوقه بالحكم الذاتي الذي تحقق عام 1970 وهو أول مكسب تاريخي لهم فيما يواجه إخوانهم في إيران أقسى أنواع الاضطهاد والاعدامات والاعتقالات ومنع أية حقوق قومية. لكن قيادة البرزاني وبسسبب الضغوط الدولية لم تقبل بهذا الانجاز، فاندفعت بعد تولي وريث الملا مصطفى إبنه مسعود البرزاني لمقاومة مسلحة ضد حكومة صدام لحين سحقها باتفاق صدام وشاه ايران في الجزائرعام 1975 فأصبحت الحركة الكردية في العراق دون غيرها في كل من ايران وتركيا وسوريا ورقة بيد الكبار حيث أمسكت أمريكا بتلك الورقة في سعيها للقضاء على نظام صدام، وكان ذلك يتطلب دوراً لوجستياً مهماً من قبل أكراد العراق الى جانب الزعامات الشيعية المدعومة من إيران.وبعد عام 1991 حين أجبرت قوات الجيش العراقي بعد سحقها عسكرياً على الانسحاب من الكويت، أصبح للأكراد الدور اللوجستي المهم لزعامة المعارضة العراقية. وشعرت القيادة الكردية بأن الأمريكان سيعتمدون عليهم في مشروعهم المقبل، لكن ذلك لم يمنعهم المناورة مع نظام صدام بسبب الخلافات الشرسة بين الحزبين الكرديين الرئيسيين حول عوائد وواردات نقطة )إبراهيم الخليل( الحدودية التي سلمها الجانب التركي لسيطرة حزب مسعود بارزاني وحيث حصد عوائدها وحرم منها حزب جلال طالباني بالإضافة إلى الصراع التاريخي القديم بين الحزبين وكذلك الخلاف الشديد في التحالفات الإقليمية. فقد كانت لجلال الطالباني علاقات حميمة وراسخة بإيران إضافة الى علاقاته بالنظام السوري لكون تأسيس حزبه قد تم أصلا في دمشق عام 1976.وخلال عام 1987 أعلن )أنوشيروان أمين( وكان أحد قادة حزب جلال طالباني بأنهم يستلمون كل الأسلحة من إيران لجميع الصنوف بإستثناء الطائرات، في ظل تلك الظروف كان إمتعاض جلال طالباني كبيرا من إنفراد حزب مسعود بواردات نقطة الجمارك الحدودية مع تركيا )إبراهيم الخليل( كما كانت الرغبة في السيطرة على كردستان وحسم الصراع واضحة لديهم فطلبوا مساعدات لوجستية من قوات الحرس الثوري الإيراني بغرض السيطرة على أربيل وإنهاء سيطرة حزب مسعود، وفعلا فوجيء مسعود بارزاني بأصوات المدافع الإيرانية الطالبانية وهي تدك مصيف صلاح الدين فهرع على الفور لطلب النجدة من صدام وتوجه بنفسه لبغداد لذلك الغرض في 22 آب/ أغسطس 1996 وتم الإتفاق على دخول الجيش العراقي لمدينة أربيل وضرب قوات الإتحاد الوطني )وتحرير( المدينة و تسليمها لقوات مسعود بارزاني في يوم 31/ آب/ 1996

وتستمر اللعبة الأممية في الورقة الكردية، بعد الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 الى جانب الورقة الطائفية » الشيعية » وشعر الأكراد بعد الاحتلال وإزالة نظام صدام إن حلمهم بقيام الدولة الكردية المستقلة قد اقترب.واصبحت قياداتهم رغم خلافاتها الداخلية أكثر وعيا وتعاطيا مع المحيطين الإقليمي والدولي قياسا على السياسيين الشيعة الحاكمين في بغداد.في الجوهر لم تتغير المعادلة الأمريكية في استخدام الورقة الكردية بعد 2003 ولهذا لم يعد مسعود البرزاني يقبل بفتات ثروات العراق النفطية وأصبح يريد نفط كركوك كله. وفي البعد الاستراتيجي للمصالح الدولية ركزت روسيا الناهضة من ركام الإتحاد السوفييتي على أكراد سوريا الذين لم تكن ورقتهم رائجة، حتى أن النظام السوري أدرجهم في خانة الأقليات المندمجة في المجتمع السوري ونتذكر كيف تم اللعب بقضية رئيس حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان بمقايضته مع تركيا.الروس كما الأمريكان استثمروا هياج داعش وهيمنتها على ثلث أراضي العراق وشمالي غربي سوريا عام 2014 فتمت صناعة وتنشيط الجماعات الكردية في سوريا ونفخها وتحويلها إلى مثابات لوجستية للعبة الحرب الحالية في سوريا وتطويع تركيا لكي ترضخ لمشروع تقاسم النفوذ في المنطقة.فيما كثف أكراد العراق شغلهم على إنجاز مشروع )الاستقلال( فأصبح مسعود البارزاني أكثر حرية من شراكة المريض المعتزل جلال الطالباني وغير مكترث بقيادات الظل في الحزب الوطني الكردستاني والقيادات الكردية الأخرى المتمثلة بقيادة )التغيير( وغيرها وهذه القيادات لا ترغب بصراع منتصف الطريق فما من كردي قادر على الوقوف بوجه مشروع الاستقلال الذي يقوده مسعود واهتم به في السنوات الأخيرة الذي نشط بإقامة وتطوير علاقاته بالمحيط العربي كالاردن والخليج )السعودية والامارات( إضافة إلى علاقات طبيعية مع ايران.فيما تحولت علاقة أربيل بواشنطن إلى مستوى العلاقات الاستراتيجية التي تضاهي علاقة بغداد بواشنطن. تضاعفت مستويات هذه العلاقة بعد احتلال داعش للعراق عام 2014 كما أن لدى إسرائيل نفوذها السياسي والاستخباري لحماية خطوة الاستقلال الكردي

يحاول الحفاظ على زعامته الكردية
يحاول الحفاظ على زعامته الكردية

المقبل.أمريكا ترامب أفردت اهتماما متميزا لكردستان  باعتبارها رأس الحربة في قتال الإرهاب في المنطقة وهذا مما يسهل مطالب القيادة الكردية بالاستقلال.أما الأحزاب الشيعية في بغداد فقد ساعدت ظروف داعش على انفراط عقد التحالف الشيعي الكردي ومثل نوري المالكي الصورة الأكثر وضوحا في تحول خلافات المال والثروة إلى صراع سياسي يحمل انعكاسات الأهداف الإيرانية بتوسيع نفوذها إلى طوق الهلال الشيعي مما يتزاحم مع خارطة كردستان. فإيران يخيفها استقلال أكراد العراق مثلما يخيف تركيا ويضغط على أمنها الوطني الداخلي، خصوصاً بعد أن نمت حركة أكراد سوريا بدعم لوجستي أمريكي تحت غطاء الحرب على » داعش ». كلا البلدين المجاورين لديهما علاقات بالقيادات الكردية )إيران مع حزب جلال وتركيا مع حزب مسعود( وهذه العلاقات مرتبطة بأحلام النفوذ في العراق وما حوله. لكن اقتراب الحلم الكردي بالدولة يدق ناقوس الخطر على كل من تركيا وإيران، إضافة الى ما يشكله من مخاطر لإنهاء العراق الواحد في ظل ما واجهه العرب السنة من مشكلات خلال السنوات الأربع عشرة الماضية، وكذلك فقدان جزء كبير من ثروته النفطية. دهاء النظام الايراني يستدعي أن تكون تركيا في واجهة الصدام مع أكراد العراق، وتبقى هي بالخلف لأنها تعيش وضعاً صعبا في تعقيدات اللعبة، لأنه في حال استقلال إقليم كردستان العراق المحاذي للمناطق الكردية غربي إيران، فقد يشكل هذا قلقاً من حصول حركات شبيهة داخل إيران أو حتى تحركات من الإقليم العراقي داخل الأراضي الإيرانية لتلبية الطموحات الكردية بتحقيق حلم الدولة الكردية. كما إن الدولة الكردية الكبرى أو كردستان التي يتحدث عنها الأكراد المتواجدون في العراق وإيران وتركيا وسورية، تمتد حدودها بين هذه الدول لتصبح مساحتها تضاهي مساحة العراق الحديث حالياً.

ما قبل استقلال أكراد العراق بدولتهم الجديدة، هنالك خياران يعجبان كلا من إيران وتركيا :

الأول – إبقاء أزمة إقليم كردستان مع حكومة بغداد مفتوحة حول كركوك الغنية بالنفط، والمناطق التي سيطرعليها الأكراد بعد تحريرها من » داعش«

الثاني – تحويل كردستان العراق إلى فيدرالية، وهو خيار مرحلي لن ينهي التوتر بين الإقليم وبغداد، لكن على الأقل لن يكون له تبعات إقليمية.

ويبدو إن تطورات الأوضاع السياسية في المنطقة والتحولات في السياسة الأمريكية بمجئ )ترامب( للرئاسة، وما أعلنه من دعم خاص لأكراد العراق، سيشجع قيادة كردستان ومسعود البرزاني بشكل خاص الى الذهاب نحو الاستقلال، وهناك تاكيدات كثيرة من قبله تدعو الى فتح حوارات مع بغداد لهذا الغرض تقابل من رئيس الحكومة العبادي بالتجاهل وعدم التجاوب في حين يسعى )عمار الحكيم( رئيس التحالف الشيعي الى تهدئة الأوضاع حيث طالب مسعود البرزاني بعدم التعجل في مقاطعة العملية السياسية في بغداد لأن ذلك سيضر بالواقع بالتحالف الشيعي الحاكم نفسه . مسعود البرزاني يحاول الحفاظ على زعامته الكردية من خلال دخوله بمشروع الاستقلال رغم ما تعانيه مؤسسات الحكم الكردستاني من فساد كبير لا يقل عن فساد حكومة بغداد. هو يعلم بأن جميع الأكراد السياسيين من معارضيه ومناصريه لا يقفون بوجه حلم الدولة الكردية، لكن أية دولة هذه، هل ستكون قوية اقتصادياً وأمنياً ووطنياً ؟ لا شك إن الاستحواذ على نفط كركوك سيوفر لهذه الدولة الناشئة إمكانات هائلة تغطي حاجاتها، أما الجانب الأمني، فالسنوات القليلة الماضية أكدت حصول أمن فردي وجماعي جيد قياساً على باقي مدن العراق. الوضع الحالي لكردستان هو دولة ينقصها )الاعتراف الدولي وصك العملة والتمثيل الديبلوماسي( ولعل أول دولة ستعلن الاعتراف بها )إسرائيل( ثم )أمريكا( وباقي دول الغرب. ولا نستغرب اعتراف الكثير من دول العرب بل جميعها.

ـ دونالد ترامب…

ـ مسعود البرزاني… يحاول الحفاظ على زعامته الكردية