مستقبلات النظام السياسي الدولي في عام 2027

أ. د. مازن إسماعيل الرمضاني*

تتاثر السياسة الخارجية لكل دولة بمجموعة متغيرات تختلف طبيعتها بإختلاف البيئة التي تنبع منها. فبينما ينبع بعضها من البيئة الداخلية للدولة، ينبع بعضها الاخر من بيئتها الخارجية )الإقليمية والعالمية(.

 وعلى الرغم من أن الاراء تتباين بشأن تفاصيل متغيرات البيئة الخارجية للدولة، إلا أنها، مع ذلك، تلتقي في تأكيدها على أن النظام السياسي الدولي هو الهيكل العام والشامل الذي تتحرك بداخله كافة الدول، والذي جراء تأثيره سلبا أو إيجابا، لا تستطيع هذه الدول أن تَكون بمعزلٍ عنه، ومن ثم تجنب التفاعل مع معطياته. ومن هنا يُعد أحد أبرز المتغيرات المؤثرة في السياسات الخارجية لهذه الدول.

 وبالنظام السياسي الدولي يُقصد الهيكل، الذي يعبر عن وحدات سياسية دولية تتفاعل مع بعض في ضوء عمليات منسقة وشبه مستمرة

وبالمعنى أعلاه، فأنه يتأسس على ركيزتين متفاعلتين: الاولى، وهي إن علاقات التفاعل التي تربط بين هذه الوحدات تعبر عن مجموعة أنماط سلوكية شبه متكررة. أما الركيزة الثانية فهي أن حصيلة هذه العلاقات هي التي تضفي على النظام السياسي الدولي سماته الخاصة، ولاسيما ديناميته، وخصوصية هياكله وعملياته، ونوعية تاثيره، ومن ثم هي التي تجعله متميزا عن وحداته )أو نظمه( الفرعية، ولاسيما الدول القومية .

. وأنطلاقا من أن الدول لم تكن، عبر الزمان، متماثلة في مصادر قدرتها على الفعل الهادف والمؤثر، ومن ثم في نوعية أدوارها الدولية ذهب باحثون في السياسة الدولية إلى محاولة تصنيفها إلى مستويات محددة.

و يتفق الرأي على أن الدول المعاصرة، التي تتمتع حاليا بكامل العضوية في الجمعية العامة للامم المتحدة وبمجموع يبلغ حاليا 193 دولة، تتوزع أما إلى دول عظمى، أو كبرى، أو متوسطة، أو صغيرة، أو صغرى.

على أن هذا التصنيف لا يعني أن مكانة الدول لا تقبل التغيرمن حال إلى أخر. فتجربة التاريخ تؤكد خضوع هذه المكانة لقانون الحراك الدولي. وهذا القانون يفيد بإمكانية هبوط بعض الدول من قمة هرم النظام السياسي الدولي، وبضمنه الإقليمي، وصعود سواها إليه. وينسحب ما تقدم وبالضرورة على الدول العظمى والكبرى.

 ويجد هذا القانون تفسيره في مخرجات العلاقة العكسية السالبة بين تآكل الفاعلية الداخلية للدولة وفاعليتها الخارجية، أو في العلاقة الطردية الموجبة بين نمو الفاعلية الداخلية للدولة وفاعليتها الخارجية. ولنتذكر، كمثال، تبادل عملية الهبوط من قمه الهرم السياسي الدولي والصعود إليها بعد الحرب العالمية الثانية بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية.

. ويفيد تاريخ النظام السياسي الدولي أن نوعية إنتشار مدخلات القوة بين الدول الاكثر تاثيرا في وقته تراوح بين التوزيع العمودي أو الافقي للقوة.

فأما عن التوزيع العمودي، أو نظام الهيمنة الدولية كما يسمى أيضا، فهو يفيد بإحتكار أو شبه إحتكار، دولة واحدة للنفوذ الدولي، ومن ثم إنفرادها بالهيمنة على العالم ونظامه الدولي. وكأمثلة، لنتذكر الدور البريطاني في القرن التاسع عشر، والدور الأمريكي بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي السابق في عام 1991.

وأما عن التوزيع الأفقي للقوة، والذي يسمى هو الآخر بنظام القطبية الدولية، فهو يعبر عن توافر مجموعة دول كبرى ذات قدرات تأثيرية عالية و متماثلة نسبيا. وقد يتخذ هذا التوزيع شكلا إما ثنائيا كما كان عليه الحال مثلا خلال سنوات الحرب الباردة 1991-1947، أو متعدد الاقطاب كما كان مثلا خلال سنوات 1945-1815

 وبالقدر الذي يتعلق بالنظام السياسي الدولي، تفيد تجربة التاريخ أن عملية تحوله من شكل إلى أخركانت دائما مسبوقة بافعال محددة وبالغة االتاثير، كالحروب، و/أو حدوث تغيرات داخلية أساسية في أحدى الدول الكبرى أو أكثر، و/أو تحول في القوة بين الدول الصاعدة وتلك التي في طريقها نحو الإنحسار.

 وكذلك تفيد هذه التجربة أن مخرجات هذا التحول كانت تفضي، ولكن بعد مرحلة إنتقالية قصيرة أو طويلة، إلى بروز حقائق دولية جديدة، وأهمها بروز نظام سياسي دولي بهيكلية جديدة.

وبالمرحلة الإنتقالية نَقصد تلك المدة الزمانية التي تفصل بين واقع دولي تداعى وإنتهى وبين واقع أخر يتشكل ويتبلورتدريجيا. وحتى تتكون الملامح الاساسية والمعالم الرئيسية لعالم ما بعد الحرب الباردة ستبقى السنوات القادمة مقترنة بمرحلة إنتقالية مفتوحة النهايات ومتعددة الإحتمالات.

وتأسيسا على رؤية مفادها أن المستقبل لا يقبل الانغلاق على مشهد واحد فقط، وإنما يتميز بإنفتاحه على مشاهد بديلة متعددة تتراوح بين ما يُعد ممكنا، ومحتملا ومرغوبا به، سنتناول ثلاثة مشاهد بديلة لمستقبل النظام السياسي الدولي في عام 2025 بالتتابع ، وذلك إنطلاقا من ثلاث فرضيات.

في هذا المقال، سنحاول البرهنة عن الفرضية الاولى. فهذه تفيد أن التمركز الشديد لمدخلات القوة والنفوذ في دولة عظمى واحدة فقط هي الولايات المتحدة الأمريكية قد تتيح لها البقاء متربعة على قمة الهرم الدولي الراهن، إلا أن مخرجات الإختلالات الهيكلية التي يعاني منها الجسد القومي الأمريكي متفاعلة مع واقع إستمرار صعود ثمة قوى كبرى إلى قمة الهرم الدولي قد لا تسمح بإمتداد مشهد هيكلية القطب الدولي الواحد )الأمريكي( إلى عام 2027

أولا، مشهد الفطب الدولي الواحد

يجد هذا المشهد سندا داعما له في معطيات أمريكية إيجابية تضفي مخرجاتها إستمرار واقع التربع الأمريكي على قمة الهرم السياسي الدولي والممتد منذ إنهيار الإتحاد السوفيتي في عام 1991، بيد أن هذه المعطيات تتقابل، في الوقت ذاته، مع أخرى تفيد أن الواقع الأمريكي يقترن بمعطيات سلبية غير داعمة لديمومة هذا التربع.

1 المعطيات الداعمة لدور أمريكي دولي فاعل ومؤثر

تتوزع هذه المعطيات على مستويين متفاعلين: داخلي وخارجي.

1. 1 المعطيات الداخلية

 تؤكد تجربة التاريخ الدولي أن التاثيرالفاعل الذي تمتعت به بعض الدول عبر الزمان، كان حصيلة لتوافرها أصلا على قدرة، ومن ثم فاعلية، داخلية مؤثرة، وأن هذه الفاعلية هي التي حددت نوعية فاعليتها الخارجية أيضا.

وتنسحب هذه االتجربة على الولايات المتحدة الأمريكية. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945، وهي تتوافر على فاعلية داخلية فريدة نجمت عن تفاعل إيجابي بين مدخلات مهمة متعددة: عسكرية واقتصادية، وثقافية، ومعرفية وسواها.

 فعسكريا، تتوافرالولايات المتحدة الأمريكية على قدرة عسكرية مدعومة بنوعية سلاح تقليدي متطور تكنولوجيا وكذلك على قدرة نووية رادعة ذات طاقة تدميرية فريدة، هذا فضلا عن إنتشار عسكري شبه عالمي ونظام متماسك من التحالفات الإستراتيجية وعلاقات التعاون العسكرية. ويدعم كل ذلك إنفاق عسكري غير مسبوق عالميا، كان يساوي نحو 645 7 مليار دولار قبل الزيادة التي ادخلها الرئيس الامريكي ترامب على هذا الإنفاق. وبهذا فأنه تجاوز مجمل إنفاق ست قوى كبرى معا، هي: الإتحاد الاوروبي، والصين، والاتحاد الروسي، واليابان، الهند، والبرازيل.

أما اقتصاديا، فالولايات المتحدة الامريكية لا زالت عملاقا اقتصاديا دوليا وبناتج قومي إجمالي يساوي نحو 26 من اجمالي الناتج العالمي

وإضافة إلى ما تقدم، يستند الاقتصاد الأمريكي إلى بنية تحتية وطيدة على الصعُد الزراعية والصناعية والخدماتية، وبمخرجات أدت إلى أن يتميز بإنتاجية عالية جعلت متوسط الدخل السنوي للفرد الأمريكي، من غير الفقراء، هو الآخر مرتفعا.

وأما ثقافيا، فقد تحولت الولايات المتحدة الأمريكية، عبر الزمان، إلى إمبراطورية ثقافية.

 ومما ساعد على ذلك دور المؤسسات الثقافية الأمريكية في دعم نشر اللغة الإنكليزية، فضلا عن توظيف الوسائل المتعددة لإعلام الموجة الثالثة سبلا لنشر طريقة الحياة الأمريكية في العالم، التي صارت جراء هذه السبل أكثر إنتشارا في العالم من أي وقت مضى.

وأما معرفيا، يُعد التعليم العالي أحد مصادر القدرة الداخلية الأمريكية على الفعل. فمخرجاته أدت مثلا إلى أن تتمتع العديد من الجامعات الأمريكية بشهرة عالمية ، وإلى أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الاولى في العالم المنتجة لعدد الحاصلين على جائزة نوبل. هذا فضلا عن بدء المجتمع الأمريكي بالتحول التدريجي إلى مجتمع المعرفة، واقتصاده إلى اقتصاد المعرفة.

ومما ساعد على أن يتوافر التعليم العالي الأمريكي على هذه المخرجات وسواها ان نسبة الإنفاق على البحث والتطوير المدني تُعد عالية بالمقارنة مع دول أخرى. إذ بلغت 5 من الدخل القومي الاجمالي الأمريكي، هذا بغض النظر عن نسبة الإنفاق على البحت والتطوير العسكري.

وفي ضوء ما تقدم أستمرت أراء أمريكية تؤكد بقاء الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى وحيدة. فمثلا يقول، بروكز ووولورث، » إن الولايات المتحدة تنتقل من قوة إلى قوة أكبر… فهي تملك الموارد اللازمة للمواجهة، وأنها أيضا تملك القدرة على إدارة قضايا التوازن الدولي الذي تقف على رأسه«.

1. 1 المعطيات الخارجية

تتميز المرحلة الإنتقالية الحالية للنظام السياسي الدولي، بخصائص تدعم مخرجاتها سعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى ديمومة تربعها على قمة الهرم الدولي. ولعل أبرز هذه الخصائص مثلا الآتي:

 أولا، مخرجات تفكك الإتحاد السوفيتي في عام 1991. فهذا الحدث التاريخي افضى إلى تحرر السياسة الخارجية الأمريكية من كابح كان، في العموم، فاعلا. وبتفككه صارت الولايات المتحدة الأمريكية ، قبل بداية عهد الرئيس الأمريكي السابق أوباما تتحرك على جل العالم وكأنه حديقتها الخلفية. وقد لا يتردد الرئيس ترامب عن الشيء ذاته.

ثانيا، واقع غياب تلك القوة، أو القوى، الدولية القادرة والراغبة في أداء دور دولي يتماثل والدور الذي كان الإتحاد السوفيتي السابق يؤديه قبل تفككه، وبضمنه تحمل الاعباء الناجمة عن مثل هذا الدور. وهذا الواقع يدعم حرية     الحركة السياسية الخارجية الأمريكية بعنصر أخر مضاف.

. ثالثا، حرص قوى دولية، تقليدية وصاعدة، على الاخذ بسياسة تغليب التعاون مع الدولة الأمريكية على الصراع واياها، سبيلا لتطويرالعلاقات المتبادلة وضمان تحقيق الاهداف المشتركة. وغني عن القول أن مثل هذا الحرص ينطوي على مخرجات داعمة للتربع الأمريكي على قمة الهرم الدولي، ولو إلى حين .

2 المعطيات الكابحة لدور إمريكي دولي فاعل ومؤثر

 إن إستمرارالتربع الأمريكي الحالي على قمة الهرم الدولي لا يعني أنه سيكون في عام 2027 إمتداداً للواقع الراهن. فالتأثير السلبي لمجموعة إختلالات هيكلية داخلية متفاعلة مع معطيات خارجية غير مواتية قد لا تجعل ذلك ممكنا وكالآتي:

2. 1 الإختلالات الداخلية الكابحة

منذ زمان سابق على إنتهاء الحرب الباردة، وجل المقومات، التي تنبع التي منها القوة الأمريكية تعاني من إختلالات هيكلية، وكالآتي باختصار:

فاقتصاديا، تكمن هذه الإختلالات في أن الولايات المتحدة الأمريكية صارت تستهلك أكثر مما تنتج، وتستورد أكثر مما تُصدر، وتنفق أكثرمما تستثمر.

 إن هذه المعطيات جعلت الاقتصاد الأمريكي يعاني من ثالوث خطير قوامه: عجز ضخم في الميزان التجاري، وعجز مستمر في الميزانية العامة، فضلا عن انخفاض حاد في المدخرات، وبمخرجات ادت إلى تراجع معدل نمو الاقتصاد الإمريكي تراجعا خطيا.

وتتفاعل أثارمجمل الإختلالات الهيكلية الاقتصادية في الجسد القومي الأمريكي مع أخرى اجتماعية، ولعل أبرزها يكمن مثلا في: انتشار الجريمة بأنواعها، الادمان على المخدرات، التفكك الاسري، فضلا عن التفاوت الكبيرفي مستويات الدخل بين الاغنياء والفقراء. ويوكد رأي أن المردودات الاقتصادية السلبية لهذه الإختلالات ستكون في المستقبل المتوسط عالية.

وأما عن الإختلالات على الصعيد العسكري، فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية استمرت تتمتع بقدرة عسكرية تقليدية ونووية غير مسبوقة دوليا إلا أن هذا الواقع الموضوعي يتقابل مع ثمة قيود تحد من أمكانية توظيف هذه القدرة، وابرزها يكمن في أن الاقتصاد الأمريكي، في ضوء إختلالاته الهيكلية المتعددة، لم يعد قادرا على تحمل الاكلاف العالية لمثل هذا التوظيف. وبهذا الصدد، قال كيسنجرفي وقته: »… إن قيادة أمريكا )للعالم( ستبدو مشكوكا فيها إذا استمر العجز الاقتصادي قائما. «

2. 1. الإختلالات الدولية الكابحة

وتفيد تجربة التاريخ، أن القوى الدولية، ولاسيما تلك التي تآكلت من داخلها، حاولت وعبر سبل شتى، تعطيل عملية أفول دورها العالمي، بيد أنها فشلت بالمحصلة. وكمثال، لنتذكر مشاركة المملكة المتحدة في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956. فمخرجات هذه المشاركة أدت إلى تسارع عملية أفول دورها الدولي، والذي تجسد رسميا في إنسحابها من شرقي السويس في بداية السبعينيات من القرن الماضي.

ويفترض المرء أن الولايات المتحدة الأمريكية، كسواها عبر الزمان، ستحاول البقاء قوة دولية عظمى عبر تبني إليات مختلفة المضامين، لاغراض التكيف مع تحدياتها الداخلية والخارجية، بيد أن مثل هذه المحاولة قد لا تكون فاعلة إلا إلى حين.

إن إتجاه مجمل القدرة الأمريكية على الفعل إلى التراجع التدريجي يؤكد القول العلمي المعروف: أن السياسة الخارجية لكل دولة تبقى إنعكاسا لنوعية معطيات واقعها الداخلي، سلبا او ايجابا.

وفي ضوء ما تقدم متفاعلا مع إتجاه دول كبرى نحو الصعود التدريجي إلى قمة الهرم السياسي الدولي، لا نرجح إمتداد هيكلية القطب الدولي الواحد إلى عام 2027.

 وإدارة ترامب قد لا تستطيع أن تفعل الشىء الكثير بهذا الصدد. فعالم اليوم يعيش أيضا تحول القوة بين قوى دولية تتراجع وأخرى تتقدم.

على أن هذه الإحتمالية لا تعني أن الولايات المتحدة الأمريكية ستفقد دورها وتاثيرها الدولي بعد عام 2027. فقدرتهاعلى الفعل الدولي الهادف والمؤثر تتيح لها أن تبقى قوة من بين العديد من القوى الدولية المؤثرة، ولكن ليس القوة العظمى الوحيدة.

*استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات