قراءة في كتاب يوميات من سيرة المكان والطفولة

بيروت من ليندا نصار

في كتابه »شجرة الفرصاد« حمل الكاتب سيف الرحبي في صفحاته طبيعة مسقط التي رافقته في أثناء أسفاره، حيث المكان الذي يعد عالم التفكير الأهم، كما يظن هايدغر. تلك الطبيعة – المكان الآسر الذي يدعو الإنسان إلى العودة إلى مسقط رأسه، هي ليست عادية، إنما تأخذك إلى عالم ينأى بك عن ضجيج هذا الكوكب، إنها الأم البكر التي لا تبارح أبناءها في مستهل غيابهم عنها.

ورد تحت العنوان »من سيرة المكان والطفولة«، وهو يكاد يوضح- بشكل أو بآخر- مضمون الكتاب الذي يتشكل في شكل اليوميات أو السير التي تنفتح على الشعر والسرد والحوار. لقد تم ذلك على درجة عالية من الشعرية التي لم تستطع أن تفارق كونه شاعرا أولا وآخرا. والكاتب سيف الرحبي لم يخل كتابه من التعبير عن الحالات الأولى للكتابة بوصفها لحظات بكرا.CZtCox9WQAAXDhO

ويوازي هذا أنه يستعيد روح الماضي المفقود، ويحوله إلى ماضٍ مرئي، عبر استعادة الأحداث الأبرز التي ما زالت عالقة في ذاكرته. كما أنه يتصل عبر ديوانه بعناصر الكون المستمدة من الطبيعة، ليتخطى ضجيج العالم. إنه هروب من المكان الجديد المتسم بالصخب إلى المكان القديم المميز بالهدوء والتأمل، بما يعنيه هذا من محاكاة للكون من خلال الذاكرة، والتبصر بأمور الوجود، وطرح رؤية معكوسة للسائد، ليكون بذلك فلسفة خاصة باعتماد تقنيات الكتابة، والأسلوب الفردي المتجدد الذي يعبر عن الذات والاقتراب عبره من الماضي بحميمية.

العودة بالذاكرة إلى الطفولة

غاب الرحبي عن بلده طويلا، ولم يزر قبر أمه. وهذا الحدث شكل فجيعة كبرى في حياته؛ فيبدو الحنين إلى الأم في كتاباته المليئة بالتعبير عن العواطف. الأم، مدرسة الحنان، هي مثال الأم العمانية التي لا يهنأ لها بال إلا بعد الاطمئنان على الكائنات جميعا. كما أن الأب بوصفه مصدر الأمان يصور في ديوان الرحبي كضامن للإيمان المتوارث، والذي يمثل الرجال الأتقياء في مسقط.

يرتبط- إذا – الماضي بالحاضر، ويظهر هذا جليا في الكتاب؛ فمنذ طفولة الذات، أي الماضي، يظهر العالم من خلال بعد يربط بين ثلاثي الغيم والطفولة والشعر وثلاثي »الطبيعة والزمان والشعراء«. ويتم هذا الربط وفق فلسفة يردد فيها الكاتب مقولة والده عن الموت: الموت ضد الحياة وإبحار لامتناه نحو الله« ص169: يبدو لنا من خلال هذا أنه في مسيرة مطولة للبحث عن الحقيقة المطلقة والمعرفة الحقيقية »الله«. يقول سيف في هذا الإطار: »الأطفال وحدهم لا يزعجون الغيوم التي تبدأ التشكل في السماء المتاخمة لقلوبهم وعواطفهم السيالة، حين يبدأون في عدها غيمة غيمة، صغيرة، وكبيرة، ومتوسطة….. والغيوم في هذا المنحى تشبه الأطفال، لذلك لا تنزعج منهم، بل تنسجم وتتوحد في البراءة والخيال الجامح، في الهدوء الماكر الذي يخبئ العواطف والرعود«. تتبدى لنا في هذا المقطع اللافت العودة إلى عالم البراءة؛ فالغيوم في بداية تشكلها تشبه الأطفال في نموهم، قبل التكاثر والحلول في هذا العالم.

بين الماضي والحاضر

يقول بودلير: »سحر عميق يجعلنا في حالة ثمالة وانتشاء في الزمن الحاضر، إنه الماضي المتجدد«. هذا الماضي الجميل الذي يدعونا إلى الراحة يتمظهر في اللحظة الحاضرة، حيث يحمله سيف الرحبي في هيئة أجزاء من ذاته يبثها في حروفه، لتشكل سيرة خاصة للمكان والطفولة، وليتقاسمها مع الآخرين. فكلما مررت على حروفه تجد عبارة »أتذكر«؛ إذ تلعب الذاكرة دورا كبيرا في التعبير عن دواخل الكاتب، وتشكل الطفولة أفقا يتجاوز فيها العمر حدوده، ويوضع في حضن هذا المكان »مسقط« بوصفه ناظما لما يستعاد من زمان الماضي. يقول سيف في مكان آخر من الكتاب: »أمضي في هذا السرد المتقطع مثل شظايا بروق بعيدة: الذاكرة«. هذه الذاكرة تمارس انسحاباتها الجزئية، لتصير بعيدة بفعل مرور السنين، واهتراء الصور حتى الجميلة منها، ولا يقدم هروب الزمان إلا من خلال التأمل الذي يتم من خلال الصيغ الشعرية. ويرد أيضا في مكان آخر » والذاكرة وهي تطفو على مياه )السياب( لا يمكن أن تتجاوز الوادي الذي كنا ننام على حافته«. من هنا يمكننا القول إن الطفولة الأولى ذات الفضاءات المنفتحة على الذاكرة، احتفظت بجوهر التجربة لتؤسس للمراحل التي تلتها.

 الحضور المكاني

شكل العنوان »شجرة الفرصاد« نقطة انطلاق لسيرة المكان والطفولة. يحدثنا الرحبي عن الشخصيات التي جسدت لوحة المكان بحيواتها المختلفة، بل هي الكائنات الحية بمختلف أنواعها؛ حيث يتجسد مكان الأحداث في طبيعة عمان المتميزة بجماليتها الوحشية. وتمد هذه الطبيعة بتفردها الشاعر بالوحي الشعري الذي يكمن خلف إنتاج الديوان. كما أنها تصوغ روحه المتأججة شوقا وحنينا لذاك الصوت الذي يناديه: »عُدْ«.

يقول سركون بولص: »الأشياء دوما مهددة بالغياب وإنني ذات يوم كنت هنا في هذا المكان حيث لن أكون أبدا مرة أخرى«. من هنا نستطيع تحليل الغياب الذي يهيمن في الديوان، والذي أبى إلا أن يكون حضورا في ذاكرة المحبين. ويمرر هذا الغياب عبر الوجوه التي لم تبارح المكان؛ فما زال غيابها اللاإرادي ماثلا فيه. وشجرة الفرصاد هي الشاهدة الوحيدة على الغروب، وعلى حميمية العلاقة بين الأرض والكائنات. وتتخذ علاقة سيف الرحبي بالطبيعة طابعا رومنسيا، إنها الشعور بالانتماء والارتباط برحم الأرض. يكتب الرحبي: »كانت شجرة الفرصاد خاصة على حافة الغروب، حين تبدأ العصافير الدورية والطيور الأخرى ضجيجها الذي يُمزق السكون، لكن من غير إزعاج بل بحميمية آسرة. ويبدأ الليل بأخذ مكانته سطوة ونفوذا على الأرجاء قاطبة. ذلك النوع من الليل وظُلماته التي تُغري المُتصوفة بالإقامة الواقعية والرمزية وتُغري شعراء الأعماق والهاويات، مهبط الإلهام والإشراق: )في المساء على حافة الغروب، تبدأ شجرة الفرصاد في الارتخاء والاستراحة من توترات الشمس ويقظة النهار، وتستسلم بالكامل لمقدم الطيور، في غياب الصبية بجلود القنص، تستسلم لمملكة الأحلام(.

ينتقل الكاتب من العنوان الذي يدل على خصوصية المكان إلى العام ليصف الطبيعة بكل ما فيها من خوف؛ فيحدثنا عن الوادي والأشباح، وعن السماء، والكائنات كافة… تلك السماء التي تنعكس على عناصر الطبيعة والكون. كما يجسد الكاتب الغيم وعلاقته بالطفولة وهنا يتبدى لنا الحنين إلى طفولة مفقودة عاشها بكل تفاصيلها.

نتعرف في كتاب الرحبي حضارة مسقط ولغتها وتاريخها، وتنوع أديانها، والطبيعة الجغرافية، والتنوع السكاني فيها. ويتقاسم الكاتب المكان مع سائر المخلوقات التي تتعايش في ما بينها. كما نجده يستعرض المدن كـ »مطرح« »والتيبينيات« / أرض الأجداد- »تتوحد الجماعة والحيوان والنبات في روح كونية واحدة، تتوحد وتذوب غيمة زرقاء شاسعة تنزل حمولتها مطرها على روح الأرض وأوجاعها. )…( كأنها المياه المتدفقة من ساحة سماء لامرئية مليئة بالغيوم هي التي تجعل كل شيء على نحو من وحدة وسلام روحي مع الذات والعالم. « في ليالي الصيف هذه تلتئم حلقة الأدب والإنشاد الشعري غالبا )في منطقة والده التيبينيات(«

لعلنا في حديثنا عن المكان، نقتدي بمقولة باشلار: »المكان الأليف هو الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة«. ربما هي أحلام الطفولة، ومرتع الصبا حيث التحول من طفل إلى رجل؛ فللمكان رمزية كبيرة في علاقته بالإنسان منذ الخلق الأول للإنسان، والإحساس بالزمن يرافق الإحساس بالبعد عن المكان الذي هو الكون الحقيقي الذي يقدم الأمان للإنسان، إنه مكان ولادة الأفكار الأولى، والمشاعر والأحلام الأولى؛ وهو الذي يحافظ على ما تبقى من ذكريات. إنه فردوس الكاتب وهو الذي يؤسس اللحظات الزمانية.

جسد الكاتب العالم الخارجي وكيفية تأثيره في الأنا- الذات الشعرية التي لم تغب في أية لحظة عن نصه. لقد وصف المكان بجماليته، بشخصياته محاولا توثيق لحظات الأحداث. إنه في حوار مع الطبيعة المحيطة التي تدعوه إلى التأمل حيث الذاكرة حاضرة دائما.

الرؤية المعكوسة

في حديثه عن البئر، يتحدث الرحبي عن الكائن الذي يرى خارطة وجهه، وكأن كل إنسان يحلق بحسب رؤيته. هذه البئر أصبحت تتسع لتتلقى صراخ البشرية بأكملها. إنها مأساة نرسيس الذي استعار مرآة الطبيعة ليتأملها. يطرح الكاتب هنا رؤية معكوسة، بحيث يلقى نرسيس نحبه لشدة الصدمة. وفي مكان آخر يقول: ربما الحمار وحده حدس بتراجيديا الكون اللاحقة؛ فبرأيه الحمار الذي تباطأ وتأخر عن سفينة نوح، ربما فعل ذلك عن قصد، وليس غباء منه كما يصفه البعض. للحمار بعد فكري عميق بحيث يستطيع التنبؤ بالمستقبل: »لم يكن التأخر عن الركب إلا رفضا للمشروع القادم للخلق والتناسل للديمومة والاستمرار. وكأن الحمار كان على دراية بمأساة هذا الكون، وتصرفه، ولم يكن هذا إلا رفضا للمعاناة اللاحقة واستمرارية الوجود«.

في النهاية نعتبر أن سيف الرحبي عشق المكان المفقود إلا من الذاكرة، وجسد رؤيته وعمم أسئلته الكونية في الفضاء الذي مارس فيه الإبداع لهوه ليقدم نفسه للعالم.

سيف الرحبي عشق المكان المفقود إلاّ من الذاكرة

 غلاف وشجرة الفرصاد«