انقلاب أطاح بالأحزاب السياسية التاريخية الكبرى ورياح تهدد الجمهورية الخامسة

محمد قواص *

لم يكن سهلا التنبؤ بما كانت سؤول إليه الانتخابات الرئاسية الفرنسية. جل استطلاعات الرأي كانت تتوقع فوز إيمانويل ماكرون، لكن كل المهتمين بهذا الاستحقاق، مقترعين ومراقبين وعواصم كبرى، لم يأمنوا لهذه الاستطلاعات وظلّوا ينتظرون حتى اللحظة الأخيرة صدور النتائج خشية من مفاجأة دراماتيكية تقلب الأمور رأسا على عقب كما حصل في بريطانيا في استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي أو في الانتخابات الرئاسية الأميركية الاخيرة.

اجتازت فرنسا امتحاناً صعباً حبس أنفاساً في داخل البلد كما في المحيط الاوروبي الكبير. فاز ايمانويل ماكرون في انتخابات 7 أيار / مايو الماضي بنسبة مريحة وصلت إلى أكثر من 66 بالمئة، ودخل بعد اسبوع من انتخابه قصر الاليزيه كرئيس للجمهورية الفرنسية. ومهما قيل في الأشهر الأخيرة التي حملت ماكرون لنهائيات السباق في الدورة الأولى، ومهما كثرت التحليلات حول شكل الحملة الانتخابية ومضمونها بينه وبين منافسته مارين لوبن، فإن الرئيس المنتخب يمثل المفاجأة الكبرى لهذه الانتخابات من ألفها إلى يائها.

كشفت الأحزاب الفرنسية التقليدية الكبرى عن مرشحيها في الأشهر الستة الأخيرة التي سبقت الإنتخابات. وحدها مارين لوبن، زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، كانت تعد لحملتها منذ خمسة أعوام. لم تلحظها انتخابات عام 2012، ولم تكن تعول عليها كثيراً، لكنها مذاك أضحت وجهاً مسترئساً يعمل كل يوم من أجل اللحظة الرئاسية في أيار / مايو 2017. ولا عجب في ذلك من أن يتراجع مرشحا حزب »الجمهوريون« الديغولي والحزب الاشتراكي، اللذان اكتشف الفرنسيون ترشحهما حديثا )مقارتة بلوبن(، فخرج الحزبان العريقان من السباق مقابل تقدم مريح وواثق وأكيد لإبنة مؤسس »الجبهة الوطنية« جان ماري لوبن.

لم يكن مفاجئا أن تتقدم مارين لوبن السباق، لكن المفاجأة التي تليق حكايتها بالروايات الكبرى تتمثل في ظاهرة إيمانويل ماكرون التي لا زالت عصية على افتاء الخبراء وكبار المتخصصين بجمهورية فرنسا الخامسة.

إيمانويل ماكرون الرئيس المفاجأة في بلد تسوده المفاجآت
إيمانويل ماكرون الرئيس المفاجأة في بلد تسوده المفاجآت

والحال أن مفارق التاريخ تحتاج إلى ردود غير رتيبة لا تقلب الثوابت لكنها تعيد ترتيب قواعد الحكم والحوكمة في البلاد. وعليه يمثل ماكرون هذا الخليط بين التمرد على السائد الذي يحكم فرنسا وفق دستور عام 1958، والتوق إلى منع البلد من الخروج عن قواعد قيمه المتوارثة من روح الثورة الفرنسية عام 1789.

ينتخب الفرنسيون رئيسهم مباشرة بالاقتراع الشعبي العام منذ عام 1962. ولحسابات الرئاسة معايير وقواعد تتعلق بشخص المرشح وطباعه ومهاراته وسمعته ومواهبه بغض النظر عن انتماءاته الحزبية والايديولوجية. ابعد الفرنسيون شارل ديغول عن الحكم عام 1946، أي بعد عام من انتهاء الحرب العالمية الثانية، حين لم يوافقوا على التخلي عن نظامهم البرلماني ثم أعادوه رئيساً لجمهوريتهم الخامسة ليعودوا ليلفظوه بعد ثورة عام 1968. وتدلل الفرنسيون كثيرا للقبول بفرنسوا ميتران، زعيم الحزب الاشتراكي، رئيساً، لكنهم أعادوا، حين تهاوت بدائل اليمين، وحملوه رئيسا لفرنسا عام 1981، ولمدة 14 عاماً. وفي حالتي ديغول وميتران، انتخب الفرنسيون كاريزما الزعامة دون كثير تأثر بيمينية هذا ويسارية ذاك.

هوت مارين لوبن نهائيا منذ المناظرة التلفزيونية الاخيرة التي جمعت المتنافسيْن قبل عدة أيام من موعد الاقتراع الأخير. خاضت مرشحة اليمين المتطرف حملة لافتة وبإيقاع مدهش على مدى الشهور الماضية، ثم برعت في الأسبوع الأول الذي تلا الدورة الأولى للانتخابات في 23 نيسان / أبريل الماضي. لكن بدا أن إعياء في الاسبوع الثاني أوهن ما تعملق وأن لوبن انكشفت يوما بعد آخر وأنها ليست جاهزة، وربما لن تكون أبداً، لرئاسة دولة كبرى مثل فرنسا.

أظهرت لوبن في المناظرة الأخيرة ركاكة حججها وصبيانية سلوكها. أظهرت جهلها للملفات وشعبوية وصفاتها وميلها للسخرية والتهكم درءا لجفاف معرفي ومواراة لغياب قواعد العقل مقابل النفخ بالغرائز. سقطت لوبن مذاك، حتى في نظر مؤيديها ولدى ناخبيها، وحتى والدها، وبدا أن ايمانويل ماكرون أطاح بها بالضربة القاضية.

خسرت لوبن، لكنها حصلت على 33.9 بالمئة من أصوات الناخبين. يقدر عدد ناخبيها بحوالي 11 مليوناً، فيما صوّت حوالي 5 ملايين لوالدها عام 2002. ستبني لوبن على الشيء مقتضاه محاولة بانجازها اختراق البرلمان المقبل. وأول هذا البناء هو التخلي عن حزب الجبهة الوطنية، من »أجل تشكيل سياسي آخر«، بالتالي التخلي عن هذا الميراث المشين الذي تحمّله، لا شك، مسؤولية اخفاقها.

لم تكن مارين لوبن تبالغ في أحلامها حين كانت ترى أن أبواب الإليزيه قادمة إليها. قبل حوالي العام )23 حزيران / يونيو 2016( صوّت البريطانيون للخروج من الاتحاد الاوروبي. شكّل الأمر صدمة عالمية لم تتوقعها الاستطلاعات. نجحت الشعبوية البريطانية في رهانها فلماذا لا تراهن لوبن على شعبويتها؟ وقبل حوالي 6 أشهر )8 نوفمبر( انتخب الاميركيون دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة. تقدم الرجل بخطاب شعبوي تقدمه أحزاب اليمين المتطرف الصغرى في أوروبا، فأطاح بكل مرشحي الحزب الجمهوري واحدا تلو آخر قبل أن يزيح مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون ويفوز بعقد البيت الابيض لأربع سنوات، فلماذا لا تراهن لوبن على ذلك؟

مركيل-ماكرون: مصلحة مشتركة لتأكيد الشراكة الفرنسية الالمانية
مركيل-ماكرون: مصلحة مشتركة لتأكيد الشراكة الفرنسية الالمانية

لكن شيئا ما خان مارين لوبن وقلب حساباتها. لم تخرج فرنسا ضد مارين كما خرجت ضد والدها عام 2002 محذرة من احتماله رئيسا. بدا أن فرنسا عام 2017 لا تشيطن يمينها المتطرف، وبدا أن حجج كثير من مرشحي اليمين كما اليسار تُنهل من نصوص وخطب »الجبهة الوطنية« في مسائل الهجرة والارهاب والاسلام والمسلمين. وبدا أن احتمال فوزها برئاسة البلاد، بالنسبة للكثير من الفرنسيين، ليس كارثة أخلاقية ولن يكون نهاية الكون. ومع ذلك لم تستسغ فرنسا العميقة هذا الخيار فلفظته، وربما أخّرته إلى مواعيد لاحقة.

يحمل إيمانويل ماكرون لفرنسا زاداً أخلاقيا غاب عن لغة السياسة منذ سنوات. وفد الرجل إلى كواليس الحكم من ميدان المصارف، لكن دراسته في الفلسفة حصّنت مواهبه الاقتصادية بخلفية فكرية تعيد للسياسة مادتها العقيدية وليس عدّتها الماركنتيلية.

فحين كان بإمكان ماكرون الغرف من العروض الرائجة للبريكست البريطاني ومواسم دونالد ترامب الأميركية، ذهب إلى برلين وأطل من داخل إحدى جامعات ألمانيا ليطلق رشقات مكثفة ضد الترامبية والانعزالية والانانية والشعبوية والتطرف، وليعلن تمسكه بالمشروع الأوروبي وبإزالة الحواجز بين البشر، وراح بثبات يروّج لقيم لا تمس بالاسلام والمسلمين، وتعيد تخصيب الهجرة بجرعات أخلاقية غابت عن خرائط الأرقام والإحصاءات وجداول الربح والخسارة.

فشلت لوبن في مسعاها الرئاسي. كان انتخابها رئيسة لفرنسا سينعش كافة تيارات التطرف اليميني في أوروبا. كان سيعيد تعويم الشعبوية الأوروبية ليصبح هدف تدمير الاتحاد الأوروبي شاملاً عابراً للحدود. وكانت دول الاتحاد ستعود لرفع حدودها وفرض تأشيراتها، وبالتالي سيعاد الاعتبار للعصبيات القومية بين الدول والعصبيات القومية، وربما الطائفية داخل هذه الدول. كان التاريخ سيعود إلى الوراء حين كانت القارة مسرحاً لحروب لا تنتهي. فشلت لوبن وكأن قدراً أراد إعادة تصويب مسار التاريخ.

تسقط مارين لوبن، لكن ما حققته من أصوات يعتبر تاريخيا بالنسبة لحزب يميني متطرف. وتكمن جسامة الأمر في الحساسية الفرنسية المفرطة حيال كل ما يرتبط بإرث يستلهم النازية وخياراتها. فأن ينال حزب لوبن رضى ثلث الفرنسيين، فذلك مؤشر إلى تحولات مقلقة طرأت على المجتمع الفرنسي أبعدته عن قيم »فرنسا الحرة« التي بشّر بها الجنرال ديغول منذ ندائه الشهير من إذاعة لندن عام 1940، وأبعدته عن قيم اليسار، الشيوعي والاشتراكي، الذي خصّب الوعي الفرنسي بروحية ميّزت البلاد عن امم غربية أخرى.

نعم انتخابات الأحد تاريخية في جدلها ونتائجها. وأهمية ما سينتجه الحدث على راهن ومستقبل البلاد هي رهن إمكانية أن يستمر الرئيس إيمانويل ماكرون في إبهار الفرنسيين كما فعل حين كان مرشحاً.

سيحتاح الرئيس الجديد إلى فريق عمل لحكم فرنسا يجمع بين القطيعة والوصل. القطيعة مع طبقة سياسية خيبت أمل الفرنسيين خلال العقود الماضية، والوصل مع كفاءات سياسية هي بالنهاية نتاج هذه الطبقات السياسية نفسها.

يتحرر الرئيس الجديد من براثن اليمين كما براثن اليسار. فالرجل بات رئيسا دون أحزابهم، وبالتالي فهو يملك أن يملي قواعده وشروطه وأسلوب عمله ومروحة خياراته. سيكون عليه خوض الانتخابات التشريعية المقبلة )11 و18يونيو( لتوسيع شرعيته داخل البرلمان وفق خريطة لا تمثل انقلاباً بقدر ما تمثل بداية ورشة إصلاحية كبرى لطالما وعد بها. وسيكون عليه أن يجد تحت قبة البرلمان مكاناً رحباً لتياره السياسي الفتي دون استدراج خصومة كل الطبقة السياسية التقليدية من أقصى يمينها إلى أقصى يسارها.

يعيد ماكرون فرنسا إلى العالم. يتنفس الاوروبيون الصعداء، فاحتمال لوبن رئيسة كان يعني انتهاء المشروع الاوروبي برمته. فأن تخرج فرنسا من الاتحاد، كما وعدت لوبن، كان سيؤدي إلى اندثار هذا الصرح الكبير. فإذا ما كانت الفكرة فرنسية ألمانية في جذورها وأصولها، فإن ألمانيا وحدها لن تتمكن من الدفاع عن هذا الحصن العريق. ابعد الفرنسيون لوبن عن الاليزيه. امتعض فلاديمير بوتين في الكرملين. بيد أن الأمر أصبح لا يزعج دونالد ترامب في البيت الابيض. سقطت لوبن حين أسقطت جدران البيت الأبيض الترامبية.

ليست الانتخابات الفرنسية تفصيلا فرنسيا بيتيا داخليا. سيكون لهذه الانتخابات تداعيات مباشرة على مستقبل أوروبا وستأتي الانتخابات الألمانية في أيلول / سبتمبر المقبل لترفد خيار فرنسا في التمسك بالاتحاد الاوروبي وفي الذهاب بعيدا في اصلاح المشروع الأوروبي. سيكون للحدث الفرنسي تداعيات مباشرة على تشكل النظام الدولي كما على مستقبل العلاقة التي ستجمع بريطانيا بأوروبا.

لم يكن مفاجئا أن تتقدم مارين لوبن السباق، لكن المفاجأة التي تليق حكايتها بالروايات الكبرى تتمثل في ظاهرة إيمانويل ماكرون التي لا زالت عصية على افتاء الخبراء وكبار المتخصصين بجمهورية فرنسا الخامسة.

فشلت لوبن في مسعاها الرئاسي. كان انتخابها رئيسة لفرنسا سينعش كافة تيارات التطرف اليميني في أوروبا. كان سيعيد تعويم الشعبوية الأوروبية ليصبح هدف تدمير الاتحاد الأوروبي شاملاً عابراً للحدود. وكانت دول الاتحاد ستعود لرفع حدودها وفرض تأشيراتها، وبالتالي سيعاد الاعتبار للعصبيات القومية بين الدول والعصبيات القومية، وربما الطائفية داخل هذه الدول. كان التاريخ سيعود إلى الوراء حين كانت القارة مسرحاً لحروب لا تنتهي. فشلت لوبن وكأن قدراً أراد إعادة تصويب مسار التاريخ.

يعيد ماكرون فرنسا إلى العالم. يتنفس الاوروبيون الصعداء، فاحتمال لوبن رئيسة كان يعني انتهاء المشروع الاوروبي برمته. فأن تخرج فرنسا من الاتحاد، كما وعدت لوبن، كان سيؤدي إلى اندثار هذا الصرح الكبير. فإذا ما كانت الفكرة فرنسية ألمانية في جذورها وأصولها، فإن ألمانيا وحدها لن تتمكن من الدفاع عن هذا الحصن العريق. ابعد الفرنسيون لوبن عن الاليزيه. امتعض فلاديمير بوتين في الكرملين. بيد أن الأمر أصبح لا يزعج دونالد ترامب في البيت الابيض. سقطت لوبن حين أسقطت جدران البيت الأبيض الترامبية.

تعليق تيريزا ماي رئيس وزراء بريطانيا: هل فعلاً سعدت بفوز ماكرون؟
تعليق تيريزا ماي رئيس وزراء بريطانيا: هل فعلاً سعدت بفوز ماكرون؟

لوبن والاعلام

لا يُعرف عن المرشحة للانتخابات الرئاسية الفرنسية، زعيمة »الجبهة الوطنية« اليمينية المتطرفة، مارين لوبان، ومن قبلها والدها جان ماري لوبان، مؤسس »الجبهة الوطنية«، ميلاً خاصاً نحو الصحافة والإعلام، إلا في صورة البروباغاندا الدعائية، على الطريقة السوفييتية، التي تساهم في التركيز على القائد، في نوع قريب من عبادة الشخصية. ووفق هذا المنظور، الذي يُعتبر فيه الحزب مؤسسة عائلية، تقريباً، أو كأنه جزءٌ من قرية القائد، فإن الصحافيين ووسائل الإعلام، كما ساسة كل الأحزاب، يمينيين أو يساريين، أيضاً، يُنظر إليهم باعتبارهم يخدمون »المؤسسة الحاكمة« )الاستبلشمنت(، وبالتالي فهم خصوم وأعداء. وما فتئت مارين لوبان نفسها تواجَه بهذه التُّهم كثيراً من الصحافيين على شاشات التلفزيون، من دون أي تنازل من قِبلها.

طاقم لوبن

استعانت مارين لوبان بطاقم انتخابي مصغر وفعّال من 34 عضواً من الحزب، لا يوجد بينهم أي شخص يتحدّر من أصول عربية وإسلامية، على الرغم من ادعاء قياديين من »الجبهة الوطنية« بتزايد أعداد مسلمي فرنسا الذين يُصوتون لصالح الحزب اليميني المتطرف. هؤلاء الأعضاء الـ34 يمثّلون ما يسمى »المجلس الاستراتيجي للحملة«، يجتمعون مرة كل أسبوع، من دون اشتراط حضور الجميع، ويرافقون لوبان في كل تحركاتها وأنشطتها على مدار الأسبوع.

هذا الطاقم المصغر يعمل تحت إشراف القيادي دافيد راشلين. وإلى جانبه توجد شخصيات بعضها أصبحت مشهورة في وسائل الإعلام الفرنسي والدولي، بعد سياسة الانفتاح التي دشنتها لوبان، إثر تخلصها من سيطرة الوالد/ المؤسّس، والتي استجابت لها كثير من وسائل الإعلام. من بين هذه الشخصيات لويس أليوت، ألان أفيلو، نيكولا باي، وهو الشخصية التي أرسلتها لوبان إلى إسرائيل لتطبيع العلاقات بين الحزب الفرنسي واليمين الإسرائيلي، والمحامي المثير للجدل جيلبرت كولار، وكاترين غريزيت، وماريون ماريشال لوبان، فلوريان فيليبو، وإيريك دومار وغيرهم.

ويُعتبر فلوريان فيليبو، الرقم الثاني في الحزب، القادم من تيار يسار الوسط ومن الديغولية، إضافة إلى زوجها لويس أليوت، نائب رئيس الحزب، وإيريك دومار، الصحافي السابق المتخصص في الرد على الهجمات السياسية في الويب، من أهم القياديين إلى جانب مارين لوبان. من دون نسيان الدور الكبير الذي اضطلع به المحامي كولار، لجهة فتح الحزب على المجتمع المدني، وإبعاد صفة التطرف عنه.

روسيا موّلت لوبن

مع كل استحقاق انتخابي تتكرر لازمة رفض المصارف الفرنسية تقديم قروض لـ»الجبهة الوطنية« لتمويل حملاتها الانتخابية. وحسب معظم التقديرات، فإن الحزب يحتاج إلى 15 مليون يورو للرئاسة و15 مليون يورو إضافية من أجل الانتخابات التشريعية )11 و18 يونيو/ حزيران(، كل هذه المبالغ يجب إضافتها إلى ميزانية الحزب التي تصل إلى 8 ملايين يورو سنوياً. وتطرح مشكلة كبيرة هنا، لأن عائدات الحزب محدودة، إذ لم يدفع في العام الماضي رسوم العضوية سوى 57 ألف منتسب من بين 85 ألف عضو. كما أن منتخبي الحزب في السلطات المحلية والإقليمية لا يتجاوزون 1995 شخصاً، استقال منهم نحو 400، وتُعتبر التعويضات التي يتلقونها هزيلة، قياساً بتعويضات نواب البرلمان ومجلس الشيوخ، لكن الحزب لا يمتلك سوى نائبين في البرلمان ومثلهما في مجلس الشيوخ.

وأمام رفض المصارف الفرنسية تقديم قروض للحزب اليميني المتطرف، لم تتردد مارين لوبان في الاعتراف بأنها طلبت قروضاً من مصارف أوروبية وبريطانية وأميركية وروسية، مؤكدة أنها ستقبل التعامل مع أول مصرف يستجيب لطلبها. وتتذرع الكثير من المصارف الفرنسية بأنها لا تموّل تشكيلات سياسية.

ولكن المبرر الأقوى يجب البحث عنه أمام القضاء. فالمصارف تريد أن تعرف كيف سيتم التصرف بالأموال من قبل حزب يُلاحَق اثنان من قيادييه، بشبهة التحايل على أموال الدولة، خصوصاً أثناء الحملتين الرئاسية والتشريعية عام 2012. من هنا لم يبقَ سوى الصديق الروسي لمنح الحزب الفرنسي هذه القروض المطلوبة، ومن هنا، أيضاً، جاء استقبال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمارين لوبان، يوم 24 مارس/ آذار الماضي.

هل هزيمة مارين لوبين هزيمة لليمين المتطرف في العالم؟
هل هزيمة مارين لوبين هزيمة لليمين المتطرف في العالم؟

لوبن والخارج

خاضت مارين لوبان حملة من أنشط الحملات، وزارت معظم المناطق الفرنسية وبعض الدول العربية والأفريقية، منها لبنان وتشاد، إلا مناطق فرنسا ما وراء البحار، بسبب رفض معظم سكان هذه المناطق لخطاب الوصم الذي تعبّر عنه مارين لوبان، والذين يعتبرونه استمرارية لخطاب »الرجل الأبيض«، الذي لم يتغير على الرغم من تغير الظروف.

وليس مفاجئاً أنّ نسبة كبيرة من ناخبي مارين لوبان من كبار السن، خصوصاً من »الأقدام السوداء«، أصحاب الحنين إلى الجزائر الكولونيالية، ومن »الحركيين«، والذين يرون أن مختلف حكومات فرنسا خضعت لإملاءات الجزائر وشروطها. وفي هذا الصدد صرّحت، يوم الأربعاء الماضي، أن »الاستعمار الفرنسي قدّم الشيء الكثير، خصوصاً في الجزائر«.

وجاءت الأزمة الاقتصادية العاصفة، التي تضرَّر منها كثير من الفرنسيين، لتجلب إليها جمهوراً جديداً، استطاعت لوبان أن تقنعهم بأن الاتحاد الأوروبي مسؤول عنها. ثم جاءت أزمة تدفق المهاجرين واللاجئين، قبل نحو سنتين، فرأت لوبان فيها أيضاً مسؤولية للاتحاد الأوروبي، وخضوعاً للإملاءات الألمانية، مشددة في أكثر من تصريح على أنها لن تكون أبداً مستشارة للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. فهي تعتبر الرئيس السابق نيكولا ساركوزي والحالي هولاند مجرد مستشارين لدى ميركل، كما سيكون عليه، أيضاً، حال منافسيها إيمانويل ماكرون.

ثم جاءت العمليات الإرهابية التي ضربت فرنسا، فرأت فيها لوبان عدم قابلية الإسلام للتعايش مع الجمهورية. ووصل بها الأمر، إلى إطلاق مزايدات غير مسبوقة، وهي تعرف شعور الفرنسيين المتزايد بانعدام الأمن، لتصرح قائلة: »لو كنتُ رئيسة لفرنسا، لما فعل الإرهابيون المهاجرون ما فعلوه في مسرح الباتاكلان، ولمَا فعل محمد مراح ما فعل من قتله للعسكريين وللأطفال اليهود«.

ليس سرّاً أن بعض مسلمي فرنسا يصوّت لصالح »الجبهة الوطنية«، ومن حين لآخر تظهر بعض الوجوه السمراء في إعلانات »الجبهة الوطنية« وهي تدافع عن الحزب، وتنفي عنه صبغة العنصرية والكراهية. ولكن هذه الأقلية كانت أنشط خلال فترة جان مارين لوبان مقارنة مع فترة مارين لوبان، التي تراهن على »تطبيع« وضعها في فرنسا والعالم، عبر فتح قنوات مع إسرائيل ومحاولة الابتعاد عن تهم معاداة السامية. فقد كان هذا التقرب من إسرائيل شرطاً من قِبل عدة أحزاب يمينية متطرفة، لتكوين مجموعة برلمانية في البرلمان الأوروبي.

اهم مواقف ماكرون ولوبان من العرب والمسلمين

تتخذ مرشحة اليمين المتطرف وزعيمة حزب »الجبهة الوطنية« لوبان موقفاً عدائياً من المسلمين والمهاجرين، وقالت في 5 فبراير 2017، أمام الآلاف من أنصارها الذين لوَّحوا بالأعلام وهم يرددون هتاف »هذه بلدنا«: إنها »الوحيدة التي ستحميهم من التطرف الإسلامي والعولمة إذا انتخبت رئيسة في مايو«.

ونددت لوبان في مرات سابقة بصلاة المسلمين في الشوارع، التي على الأرجح تكون في أيام الجمعة، أو المناسبات التي تحمل طابعاً دينياً، وتعهدت بأنها حال ترشحها سوف تصدر قانوناً يحظر تلك الممارسات، وأن عقاب المخالفين سيكون شديداً وغليظاً للغاية.

وطالبت مارين، مؤخراً، بإلزام جميع الفرنسيين مزدوجي الجنسية من الدول غير الأوروبية بأن يتخلوا عن جنسيتهم الفرنسية أو جنسيتهم الأخرى. ويستهدف هذا القرار القطاع الأكبر من الشعب الفرنسي المسلم دون شك، الذي يحمل معظمه الجنسية الفرنسية، بالإضافة إلى جنسيةٍ شمال إفريقية أخرى.

وتقول لوبان أيضاً إنها »ستحد كثيراً من الهجرة، وستطرد كل المهاجرين غير الشرعيين، وستقصر حقوقاً معينة متاحة الآن لكل السكان على مواطني فرنسا، ومن بينها حرية التعليم«.

وتراهن مارين لوبان على كل العناوين التي تشكل ركيزة لحزبها »الجبهة الوطنية«؛ لإعادة تعبئة معسكرها، أي الهجرة والهوية والأمن. وقالت في 19 أبريل 2017، في مقابلة متلفزة قبل تجمّع كبير بميناء مرسيليا المتوسطي، وهي مدينة حساسة حيال قضايا الهجرة، إن »الفرنسيين يشعرون بأن هويتهم وسيادتهم تُنتزعان منهم«.

وصعّدت لوبان )48 عاماً( لهجتها، عبر الدعوة إلى تعليق »الهجرة القانونية«، مكررةً عزمها على »وضع حد لاتفاقات شنغن« حول حرية تنقل الأفراد داخل الاتحاد الأوروبي، كما أنها تدعو إلى خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي.

في المقابل، يتخذ المرشح الوسطي المستقل ماكرون موقفاً بعيداً عن التشدد حيال المسلمين والمهاجرين، وبقاء فرنسا في أوروبا، ويرفع ماكرون شعار »لا يسار ولا يمين«.

قال في تصريح لافت في أكتوبر 2016، إن »فرنسا ارتكبت أخطاء في بعض الأحيان باستهدافها المسلمين بشكل غير عادل«، مشيراً إلى أن البلد يمكن أن يكون أقل صرامة في تطبيق قواعده بشأن العلمانية، بحسب ما ذكرته وكالة رويترز.

وخلال زيارته للجزائر، في فبراير 2017، قال ماكرون إن تاريخ فرنسا في الجزائر كان »جريمة ضد الإنسانية«. وتابع قائلاً: »كان الأمر وحشياً حقاً، وهو جزء من الماضي يجب أن نواجهه حتى نعتذر أيضاً لمن تضرروا«.

وتعليقاً على تصريحاته، قالت لوبان، مرشحة اليمين المتطرف: »هل هناك ما هو أسوأ -عندما تريد أن تكون رئيساً-من الذهاب للخارج واتهام البلاد التي تريد قيادتها بارتكاب جريمة ضد الإنسانية؟«.

وكانت لوبان قد هاجمت ماكرون وقالت إنه سيعطي »اندفاعة للنزعة الإسلامية« في حال وصوله إلى السلطة. وأضافت: »من الأهمية بمكان أن يدرك الفرنسيون أنه في حال انتخب لسوء الحظ رئيساً، فإن ماكرون سيُسرع أكثرَ وتيرةَ غرقِ المجتمع الفرنسي في انحراف التعددية الثقافية«.

وتساءلت لوبان عن وجود مسؤول محلي في صفوف حركة »إلى الأمام!« بزعامة وزير الاقتصاد السابق في الحكومة الاشتراكية، معروف بصلاته بالتيار الإسلامي، حسب قولها.

وقالت: »لماذا يرفض ماكرون إبعاد هذا الشخص من حركته؟ لأنه يخضع لضغوط« تمارسها مجموعة تناهض كره الإسلام في فرنسا، واصفة خصمها بأنه »بدون مبادئ«، بحسب ما ذكرته وكالة الأنباء الفرنسية.

ويرفض ماكرون أن يكون أي دين بمثابة مشكلة في فرنسا، وقال في وقت سابق إذا »كان ينبغي أن تكون الدولة محايدة، وهو ما يأتي في صلب العلمانية، فعلينا واجب ترك كل شخص يمارس دينه بكرامة«.

وعكس فيون ومارين لوبان، يقول ماكرون إن فرنسا لا بد أن تُظهر تضامنها مع اللاجئين، ودعا إلى تبنِّي سياسة »فعالة، وواضحة، تُنفّذ بالتعاون مع شركائنا الأوروبيين«، تجاه الهجرة واللاجئين.

* صحافي وكاتب سياسي لبناني