هل تدفع حرب غزة لإعادة النظر في التطبيع والبحث عن مسارات جديدة للقضية الفلسطينية؟

دكتور مصطفى الشمري الأستاذ بجامعة بغداد:

السياسي العراقي الذي يقدم على السير في اتجاه التطبيع مع إسرائيل أو حتى التفكير  فيه فإنه يعني الانتحار السياسي

المحلل السياسي الفلسطيني: إسماعيل مسلماني:

طوفان الأقصى أحدث زلزالا ووضع حدا للتهافت على التطبيع ويجب على المفاوضين اشتراط قيام الدولة الفلسطينية أولا

“هناك أزمة أخلاقية للحكومات التى سارت على طريق التطبيع أو كانت على وشك ولوجه. هذه الحكومات لا تواجه فقط الحرج، ولكنها تواجه ما هو أخطر بكثير من الاعتبارات الأخلاقية، وهو أن حرب غزة تهدد الأمن الوطنى لهذه الدول كما تهدد مستقبل الدولة الفلسطينية أيضا” .. بهذه الكلمات عبر المفكر السياسي المصري وأستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، الدكتور مصطفى كامل السيد عن موقفه من مشروعات التطبيع العربي الإسرائيلي سواء التي تمت أو تلك التي كانت بطريقها للمحطة الأخيرة.

قبل اندلاع الحرب الحالية في غزة والتي انطلقت شرارتها عقب أحداث السابع من أكتوبر الماضي عندما قامت حركة المقاومة الفلسطينية حماس بمهاجمة الاحتلال الاسرائيلي في قطاع غزة، كان قطار التطبيع الإسرائيلي مع الدول العربية يسير بخطى سريعة بل ويخطط لتحقيق قفزات مفاجئة بالسعي للتطبيع مع المملكة العربية السعودية، وذلك بعد نجاح إسرائيل في اختراق منطقة الخليج العربي وتوقيع الاتفاق التاريخي مع دولة الإمارات العربية المتحدة وهو الاتفاق المفصلي في تأثيراته على تغير ملامح العلاقات الاسرائيلية العربية في ظل ما تضمنه من مشروعات واستثمارات وتفاهمات مشتركة ساهمت في تفعيل التطبيع أكثر مما كان في المراحل السابقة حيث كانت الإمارات أول بلد عربي يبرم اتفاقية تجارة حرة مع الكيان الصهيوني.

وكان ولي العهد السعودي قد أكد في خضم ذلك أن بلاده تقترب بشكل مطرد من تطبيع العلاقات مع إسرائيل، بينما كشف وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين أن الإطار العام لاتفاق إقامة علاقات بين إسرائيل والسعودية بوساطة أمريكية قد يصبح جاهزا بحلول مطلع العام المقبل.

لكن المملكة السعودية عادت وأعلنت تجميد مفاوضات التطبيع مع إسرائيل وجميع خططها المتعلقة بهذا الاتجاه، مما يشي بسعيها لإعادة التفكير في أولويات سياستها الخارجية في ظل تصاعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وفي المقابل اتهم الرئيس الأمريكي جو بايدن “حماس” بالتسبب في تعطيل مسيرة قطار التطبيع ومنع وصوله إلى المحطة التي كاد أن يصل إليها لولا الحرب وهي محطة المملكة العربية السعودية.

لاشك أن الموقف السعودي كان متوافقا مع المشاعر العربية والمواقف الشعبية الغاضبة مما يتعرض له الفلسطينيون من حرب إبادة، فبعد سقوط آلاف الضحايا من المدنيين والنساء والأطفال الأبرياء جراء الحرب الاسرائيلية الإجرامية على غزة وعدم احترام أية مواثيق دولية ولا أعراف إنسانية واستخدام أخطر وأبشع أنواع الأسلحة المحرمة دوليا تحت سمع وبصر العالم، الذي اكتفي بمتابعة مشاهد القتل والتدمير في صمت رهيب، ومع هذا الواقع المؤلم في قطاع غزة ومختلف الأراضي الفلسطينية أصبح مجرد الحديث عن أي تطبيع مثيرا للاستفزاز. وفي هذا الإطار يثور التساؤل حول مصير ومستقبل مشروعات التطبيع العربي الإسرائيلي سواء المبرمة أو المؤجلة.

الواقع العربي والتطبيع والمصالح الضيقة

هناك من يرى أنه رغم الحرب الاسرائيلية المتوحشة ضد الفلسطينيين فإن مفاوضات التطبيع لن تتوقف وإن كانت تحدث خلف الكواليس ويتم الإعداد لها بعيدا عن الأضواء في ظل الضغوط الأمريكية والإصرار على دفع عجلات قطار التطبيع لأقصى مسافة ممكنة في المنطقة العربية.

في مداخلة خاصة ل”الحصاد” يقول الدكتور مصطفى الشمري أستاذ العلاقات الدولية بجامعة بغداد لا أعتقد حدوث تاثير سوى محدود فالدول التي أقدمت على التطبيع ترتبط بسياسة أكبر من رد الفعل على الأحداث كما أن إسرائيل لم تتغير سياستها منذ القدم فهي قائمة على العدوان والتوسع الاستيطاني المستمر فأقصى ما أتوقعه هو ردود فعل آنية لا ترتقي إلى تراجع أو تحول كبير في سياسة التطبيع لا سيما وأن هناك لاعبا دوليا كبيرا متمثلا في الولايات المتحدة، كما توجد قناعة لدى الدول الخليجية وغيرها بأنه لايمكن محاربة إسرائيل. إضافة إلى أن الواقع العربي منذ زمن بعيد وليس وليد اللحظة قد انزلق إلى مستوى المصالح الوطنية الضيقة بينما غابت القضايا المشتركة الجامعة وعلى رأسها القضية الفلسطينية، التي لم تستخدم كقضية قومية عربية جامعة، ولكن من أجل تعزيز رصيد الحاكم السياسي أو الحزب أو أية جهة شعبية وبالتالي تم استغلالها لتحشيد الرأي الشعبي بين فترة وأخرى ولو كانت قضية متفق عليها بحق ما عانت فلسطين من تنازلات كبيرة. ولذلك كان ثمن التطبيع منحصرا في تعزيز مصالح ضيقة وتأمين وجودها السياسي في زمن الهيمنة الأمريكية.

ولكن الأمر مختلف بالنسبة للعراقيين لأن التطبيع بالنسبة لهم مسألة حساسة فالسياسي العراقي الذي يقدم على السير في اتجاه التطبيع مع إسرائيل أو حتى التفكير  فيه فإنه يعني الانتحار السياسي، ذلك لأن العراق له وضع خاص ومختلف ويرتبط تاريخيًا في الفكر اليهودي بالسبي البابلي ولازال هناك عداء مشحون إلى الآن.

منذ أقامت كل من مصر والأردن علاقاتهما الدبلوماسية مع إسرائيل بعد معاهدتي السلام عام 1979 و1994 على التوالي توقفت حركة التطبيع لعقود طويلة لكن محاولات التفاوض والتعاملات غير المعلنة بين الكيان الصهيوني وبين أطراف عربية أخرى لم تتوقف وصولا لعام 2020 الذي شهد تطورات سريعة ومهمة في قضية التطبيع العربي الإسرائيلي بدخول أربع دول عربية إلى هذا المضمار وهي الإمارات والبحرين والمغرب والسودان مما جعل البعض يطلقون على تلك الفترة “عهد السلام الجديد”.

برعاية أمريكية كانت الإمارات أول دولة خليجية تعلن عن إقامة علاقات رسمية مع إسرائيل وانطلقت اللقاءات المتكررة بين مسؤولين من الإمارات وإسرائيل مع هبوط أولى رحلات الطيران التجاري المباشرة من إسرائيل إلى الإمارات العربية المتحدة وقد سُمح للطائرة الإسرائيلية بعبور المجال الجوي السعودي، بما يعد واقعة تاريخية غير مسبوقة حيث كان ذلك محظورا في السابق. وتتابعت الاتفاقات المنبثقة عن هذا التطبيع بين البلدين حيث وقعا اتفاقا يتعلق بشحن النفط الخام والمنتجات النفطية القادمة من دولة الإمارات إلى الأسواق الأوروبية عبر خط أنابيب للنفط في إسرائيل يربط بين البحرين الأحمر والمتوسط، وذلك بتجاهل خط قناة السويس أو خط أنابيب سوميد المصري! إلى جانب اتفاقات أخرى.

وكانت البحرين أول دولة خليجية ترحب وتشيد بالتطبيع الاماراتي مع إسرائيل وأول من لحق بالإمارات في القطار وذلك بعد فترة طويلة من الإتصالات المتبادلة مع الطرف الإسرائيلي ترجع لحقبة التسعينيات من القرن الماضي.

بعد فترة وجيزة من توقيع الإمارات اتفاق التطبيع مع اسرائيل تردد اسم السودان في في ظل إدارة استئنائية بالمرحلة الانتقالية ( تجمع بين الطرف العسكري والمدني)، دفعت للسير قدماً نحو التطبيع مع تل أبيب، ورغم محاولات الإنكار إلا أن ذلك ظهر جلياً بعد أن كشف وزير الاستخبارات الإسرائيلية في أغسطس 2020 عن وجود بعثات من السودان وإسرائيل تعمل على قدم وساق للتوصل إلى اتفاق سلام بين البلدين. وقد كشفت الملابسات المحيطة بالسودان منذ ثورته على البشير مرورا بالمجلس الانتقالي المدني العسكري وقبل السقوط في براثن الحرب الأهلية الحالية، أن السودان كان ينظر للتطبيع مع إسرائيل على اعتباره خيارا اضطراريا للخلاص من الأزمات الداخلية والخارجية.

تجميد التطبيع والمسارات الجديدة للقضية الفلسطينية!

أما المغرب فكانت الدولة الرابعة التي أعلنت عن التطبيع مع إسرائيل عندما قال البيت الأبيض إن ترامب والعاهل المغربي محمد السادس اتفقا على أن “تستأنف المملكة المغربية علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، فضلا عن تعزيز التعاون الاقتصادي والثقافي بين البلدين بما يدعم الاستقرار في المنطقة”. وشمل الاتفاق إعادة فتح مكاتب اتصال في كل من تل أبيب والرباط كانت قد أُغلقت عام 2000 إبان الانتفاضة الفلسطينية، ومن ثم تبادل فتح سفارات في كلا البلدين. كما تحدث مسؤولون عن استعداد المغرب للسماح برحلات جوية مباشرة من وإلى إسرائيل. وقد جاءت هذه الخطوة المغربية مقابل الحصول على اعتراف من الرئيس الأمريكي وقتها دونالد ترامب بسيادة المغرب على الصحراء الغربية. وهو الاتفاق الذي لقي معارضة كبيرة من الشعب المغربي لكون أغلب المغاربة يساندون القضية الفلسطينية ووصفه خبراء أنه مغامرة محفوفة بالمخاطر ومع ذلك حدثت تحولات مهمة في العلاقة بين البلدين منذ نهاية عام 2020 إذ تبادلا زيارات على أعلى المستويات، قبل أن يصل الأمر إلى اعتراف تل أبيب بتبعية الصحراء للمغرب، ما فتح المجال حينها إلى إمكانية زيارة بنيامين نتنياهو إلى الرباط. ولكن مع تواصل العمليات العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة، ورفض المغرب تواصل هذا العدوان فإن التطبيع بين البلدين دخل منطقة التجميد وقد يصل الأمر إلى حد التراجع عنه ووقفه بحسب مراقبين مغاربة. والأمر يتوقف على مدى استمرارية الحرب في غزة لأن ذلك يعني مزيدا من الضحايا مما يضع المملكة المغربية بل وكل الدول التي تسعى للتطبيع في موقف حرج ولكن هل يمكنها إعادة النظر في الأمر والتراجع عن خطوة التطبيع؟

في هذا الصدد يقول مدير مركز الصحراء وأفريقيا للدراسات الاستراتيجية بالمغرب، عبد الفتاح الفاتحي، أنه طالما أن “العنف يبقى مكلفاً للجميع”، ولاسيما على المستوى الإنساني، يبقى من المهم على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، ومعهما الدول العربية الانطلاق بـ”مسارات سياسية جديدة للقضية الفلسطينية”.

لقد كانت المملكة العربية السعودية على الطريق وقاب قوسين أو أدنى من التطبيع حتى وقعت الحرب في غزة فتوقف كل شئ بل وحدث تراجع في المواقف بعد الإعلان عن تجميد المفاوضات. ويرى الباحث السعودي عزيز الغشيان أن موقف الرياض يدحض الشكوك بأن المملكة يمكن أن توافق على التطبيع على حساب دعم حقوق الفلسطينيين، مشيرا إلى أن نتانياهو وضع عقبة أخرى أمام المباحثات، بحربه على غزة وأنه لايمكن أن يحدث التطبيع على خلفية حرب.

 هناك من يرى أن مسار التطبيع قد نسف بالكامل وأن الدول التي أشارت إلى تجميد أو تعليق المفاوضات مع إسرائيل إنما استخدمت هذا المصطلح لكنها في الحقيقة تتجه نحو الإلغاء لأن عملية طوفان الأقصى التي نجحت في خرق التفوّق العسكري الإسرائيلي كان لها أثر أشدَّ وطأةً على مسار التطبيع خاصّةً مع ما حملته عملية السابع من أكتوبر من رسائل، مفادها أنه لا سلام في المنطقة إذا لم تتوقّف المجازر والانتهاكات بحقّ المدنيين، وما لم يحصل الفلسطينيون على حقوقهم المشروعة بإقامة دولتهم المستقلة إلى جانب إسرائيل وَفقاً لمبدأ حلِّ الدولتَين. وهو ما يؤكده الكاتب العربي أحمد الزعتري حيث يقول أن الدول التي تريد التطبيع مع إسرائيل ستفكر كثيرا قبل الإقدام على هذه الخطوة، خاصة بعد أن كشفت واقعة طوفان الأقصى زيف الاعتقاد بأن للإحتلال الإسرائيلي جيش لا يقهر، وذلك بعد أن عجز عن حماية شعبه مما يثير التساؤل حول السبب الذي يدفع دولا عربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني.

في المقابل هناك من يعتقد أن الصراع الدائر في الشرق الاوسط يستلزم المضي قدما في استئناف التطبيع العربي الإسرائيلي ومنهم جاريد كوشنر، مستشار الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الذي يعتبره أكثر إلحاحا الآن من أي وقت مضى.

الدولة الفلسطينية قبل التطبيع

ولكن كيف ينظر الفلسطينيون إلى التطبيع العربي الإسرائيلي؟ يقول المحلل السياسي الفلسطيني إسماعيل مسلماني في مداخلة خاصة للحصاد: لقد كان هناك تهميش للقضية الفلسطينية بشكل كبير خاصة في ظل الاقتحامات للمستوطنين للمسجد الاقصى في الأعياد وكانت هناك زيارتان بشكل رسمي أدت إلى إحباط في الشارع الفلسطيني على أساس خارطة الطريق ومبادرة السلام عام 2000 والتي تأسست على أن تقام أولا الدولة الفلسطينية ثم تتبعها علاقات التطبيع وليس العكس. وأعتقد أن عملية طوفان الأقصى ستضغط على هذه الأنظمة أوعلى الأقل تحد من علاقات التطبيع لأن المشهد الفلسطيني يفرض على الواقع العربي تغيير هذه المواقف وهذا ما يأمله الفلسطينيون. وأضاف مسلماني نستطيع القول أن نتنياهو خسر كثيرا عندما حاول اختراق بوابة الخليج العربي. لقد أسقط طوفان الأقصى هذا المشروع على الأقل لفترة معينة  وما تشهده فلسطين حاليا يتطلب أن تحسم الشعوب العربية طبيعة العلاقات الموجودة وخاصة ما يتعلق بالدولة الفلسطينية التي يجب أن تقام أولا ومن ثم أعتقد أن أحداث غزة وضعت حدا للدول التي تتهافت على التطبيع وكان الحديث عن 7 دول منها أيضا مثل ماليزيا وإندونيسيا. لقد كانت هناك نوايا لدى تلك الدول على التطبيع  لكن طوفان الأقصى قد أحدث زلزالا ووضع حدا لمثل هذه الممارسات وكلنا نشاهد اليوم الإجرام الوحشي الذي يرتكب باسم المجتمع الدولي وكل الداعمين تحت هذا القصف الذي تتعرض له غزة.