مستقبلات النظام السياسي الدولي في عام 2027

أ.د. مازن إسماعيل الرمضاني*

في العدد السابع والستين من مجلة »الحصاد« تم البدء بسلسلة مقالات تتناول مستقبلات النظام السياسي الدولي في عام 2027، انطلاقا من ثلات فرضيات تعبرعن ثلاثة مشاهد مستقبلية ممكنة. وقد انصرف المشهد الاول إلى البحث في مدى امكانية إقتران هذا النظام بهيكلية القطبية الدولية الإحادية )الامريكية(. وقد انتهى إلى نفي مثل هذه الإمكانية. في هذا العدد من الحصاد سيصار إلى تناول المشهد الثاني بالدراسة، أي مشهد القطبية الدولية الثنائية.

 خلال فترة الحرب الباردة )1947-1991(، افضى توازن القوى النسبي بين الولايات المتحدة الامريكية والإتحاد السوفيتي السابق إلى الحيلولة دون هيمنة أحدهما على النظام السياسي الدولي، وهو الامر الذي ادى إلى تبلور قطبية ثنائية تمتع كل من أقطابها بتأثير ثقافي واقتصادي وسياسي مهم في مناطق نفوذه العالمية.

وتفيد تجربة حقبة الحرب الباردة )1947-1991( أن هذه القطبية وإن اقترنت بخصائص التذبذب بين إشتداد حدة الصراع وتراجعه، إلا أنها وإن حالت دون اندلاع حرب مباشرة بينهما، جراء الردع النووي المتبادل، إلا إنها لم تلغ حروبهما بالوكالة.

ويفترض هذا المشهد، الذي يكرر مضمون القطبية الدولية التي كانت سائدة خلال الحرب الباردة ولكن بين اقطاب دولية أخرى غير تلك التي كانت انذاك، أن تراكم مصادر القوة والتأثير وتمركزها في دائرتين : الاولى، أسيوية وتضم القوى الاكثر تأثيرا فيها، ولاسيما الصين واليابان . أما الثانية، فهي غربية وتجمع خصوصا بين الولايات المتحدة الامريكية ودول الإتحاد الأوروبي ولاسيما المركزية منها. إن هذا التمركزسيفضي إلى تبلور مشهد مستقبلي لقطبية دولية تتأسس على توازن بنيوي بين هاتين الدائرتين، وكذلك على تقاسم للنفوذ العالمي بينهما.

 بيد أن هذا المشهد يفترض أيضا أن القوى التي تشكل كلاً من هاتين الدائرتين ترتبط بعلاقات ثنائية تجمع بين خصائص التعاون والصراع، وأن حصيلة علاقاتهاهي التي ستحدد : هل أن النظام السياسي الدولي سيعود إلى الهيكلية الدولية ذاتها التي تميز بها عالم الحرب الباردة ؟

  1. الدائرة الاسيوية

  جراء نوعية قدراتهما الداخلية المؤثرة وفاعلية سياساتهما الخارجية، تعد الصين واليابان أبرزالقوى والاكثر تأثيرا في تفاعلات هذه الدائرة، بل ومن بين افضل الدول استعدادا لمواجهة تحديات المستقبل. وعلى الرغم من أن الهند قوة تنمو بسرعة، إلا أنها،مع ذلك، تحتاج لفترة من الزمان حتى تستطيع الإقتراب من هاتين الدولتين على صُعد القدرات الاقتصادية والعسكرية،والناتج المحلي الإجمالي، ومؤشرات التنمية الاقتصادية والبشرية فضلا عن مستوى الدخل السنوي للفردعلى سبيل المثال. والشيء ذاته ينسحب على بقية الدول الاسيوية الصاعدة، وإن بنسب ودرجات متباينة.

وتفيد العلاقة بين الصين واليابان إنهما وان يلتقيان، إلا أنها أيضا يختلفان بل وحتى يتصارعان ضمنا و/أو صراحة.

فالصين واليابان تلتقيان أساسا في تبنيهما لقيم ثقافية ودينية متماثلة، وتتأثران بقواسم حضارية مشتركة، إضافة إلى إرتباطهما بشبكة مصالح اقتصادية واسعة ساعد على نموها السريع حرصهما المشترك على تطوير العلاقات الثنائية سبيلا لتحقيق مصالح مشتركة.

 فالصين، ومنذ المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي الصيني عام 1977، وهي تحرص على إنجازمهمة التحديث الداخلي، بإعتبارها المهمة القومية الاولى لها، وبضمنه التحديث الاقتصادي، وذلك عبر اداتين متفاعلتين، هما تغليب الامن الاقتصادي على العسكري،فضلا عن تغليب التعاون على الصراع. ومن هنا جاء الإنفتاح الاقتصادي الصيني على دول العالم كافة ومن بينها اليابان بالضرورة.

 وبالمقابل لم تتردد اليابان عن توظيف هذا التطلع الصيني لصالح دعم الإرتقاء بعلاقتها الثنائية مع الصين إلى افاق ارحب، سيما إنها تطلعت في وقته، إلى تحقيق التفوق الاقتصادي والتقني سبيلا مرحليا لترجمة الغاية النهائية للمشروع الحضاري الياباني : اسيا للاسيويين بقيادة اليابان.

على ان علاقة التعاون بين الصين واليابان، والتي يدعم تطورها اتجاه كل منهما إلى مقايضة ما يتوافر لدى احدهما من قدرات بما لا يتوافر لدى الاخر لا تلغي، مع ذلك، تأثير ثمة متغيرات تحد من هذا التطور.

فإضافة إلى تأثير التجارب التاريخية السلبية السابقة بين البلدين في مدركاتهما الراهنة حيال بعض، ومن ثم الخشية المتبادلة، يدفع السعي الصيني إلى إعادة بناء الصين الموحدة الكبرى إلى سياسة يابانية مناهظة لان تكون الصين هي القوة المؤثرة في محصلة تفاعلات منطقة الحوض الهادي. ففي اليابان، كما في غيرها من دول شرق اسيا، ينتشرهاجس ، لمضمونه علاقة بتجربة الماضي، هو : » …أن الصين إذا ما نهظت فإنها سَتدوس بقدميها على الجميع.«

وفضلا عن ذلك، ينطوي اختلاف نوعية علاقتهما مع الولايات المتحدة الامريكية على تأثير كابح. ولنتذكر أن اليابان تُعد جزءً من النظام الرأسمالي العالمي، وهو الامر الذي ادى إلى ارتباطها به عبر علاقة خاصة لم تحل دونها خصوصية نظامها الرأسمالي. وبهذا الصدد يُفسر بات شوت في كتابه »السادة الجدد«، هذه العلاقة بما يفيد إنها إستخدمت سبيلا لتوظيف قدرات النظام الرأسمالي العالمي لصالح تأمين الإرتقاء الدولي لليابان.

على أن العلاقة الخاصة التي تربط بين اليابان والولايات المتحدة منذ عام 1945 لا تعنى إنها علاقة إنسياق ممتد. فكلمة لا التي تقولها اليابان احيانا للولايات المتحدة الامريكية، ليست بمعزلٍ عن تأثير تيار داخلي يسعى إلى الحد من تأثير الثقافة الامريكية في المجتمع الياباني لصالح الثقافة اليابانية )الشنتو(، وكذلك يدعو الى إنهاء التبعية اليابانية للولايات المتحدة الامريكية.

وبالمقابل ادى التحول في التوجه السياسي الخارجي للصين بعد وفاة ماوتسي تونغ إلى أن تتجه الصين إلى أن تكون أكثر واقعية في تعاملها الاقليمي والدولي. وينسحب هذا التعامل على العلاقة مع الولايات المتحدة الامريكية. فواقعيتها، جعلت التعاون، في العموم، سمة العلاقة الصينية-الامريكية.بيد أن هذه السمة لا تلغي السمة الاخرى لهذه العلاقة، أي الصراع الكامن. فكما هو الحال مع اليابان، كذلك تقف الولايات المتحدة الامريكية بالضد من الطموحات القومية الصينية و/أو أن تكون قائدة لدول عالم الجنوب،كما أكد بريجينسكي ذلك في وقته.هذا فضلا عن المدخلات الإقليمية الاخرى للصراع الصيني ذالامريكي.

ولطبيعة العلاقة الصينية- اليابانية في الوقت الراهن وعدم استقرارها، لا نرى أن الدائرة الاسيوية قادرة، خلال الفترة حتى 2027، على أن تشكل قطبا دوليا موحد المصالح والارادة ومن ثم التوجه السياسي الخارجي.

2- الدائرة الغربية

تفيد هذه الدائرة، بشقيها الامريكي- الاوروبي، إنها تتوافر مجتمعة على قدرة تكاد تكون فريدة على الفعل الدولي الهادف والمؤثر. فإضافة إلى مدخلات القدرة الامريكية، وهي متعددة ومؤثرة، ينبع التأثير الدولي للإتحاد الاوروبي من مدخلات متنوعة.

ويكمن هذا التأثير اساسا في مدخلات جغرافية واقتصادية وعسكرية وسواها ذات مخرجات إيجابية.

فأما جغرافيا، يمتد الإتحاد الاوروبي على رقعة جغرافية شاسعة تساوي نحو  2255962 كلم وتمتد على 27 دولة أوروبية، قبل الاستفتاء الخاص بخروج المملكة المتحدة من الإتحاد الاوروبي، الذي تم بداية عام 2017.

 أن هذه المساحة أتاحت للإتحاد الاوروبي أن يتوافرعلى كم ونوع من الموارد الإولية أفضت به إلى أن يكون أحد أهم مناطق الفيض العالمي في الغذاء والمعادن الوقودية وكذلك النفط في بحر الشمال.

وفضلا عن ذلك يتوافر على كم سكاني لا يكمن تأثيره في عدده )نحو 500 مليون( فحسب وإنما أيضا في نوعيته. فمجتمعات دول الاتحاد الإوروبي تتميز بإرتفاع نسبة المتعلمين فيها، وبما يساوي نحو 98.

كذلك يتميز الإتحاد الاوروبي بخاصية جيو استراتيجية مهمة تفتقر إليها الولايات المتحدة الامريكية مثلا. فوقوع أوروبا في وسط العالم تقريبا جعلها الاقرب من سواها إلى القارات الاخرى ومن ثم الاكثر تفاعلا معها، اقتصاديا، وثقافيا، وعسكريا، وسياسيا.

وأما اقتصاديا،فالإتحاد الاوروبي قوة اقتصادية كبرى مهمة وقابلة للنمو.فمجمل انتاجه القومي الإجمالي يساوي نحو 28 من الناتج القومي الإجمالي العالمي وبما يجعله ياتي بعد الاقتصادين الامريكي والصيني. ويعود ارتفاع هذا الناتج إلى قدرته التجارية الواسعة، فمن عشر دول تجارية كبرى تشكل دول الإتحاد الاوروبي سبعا منها.

وأما عسكريا، فالإتحاد الاوروبي يُعد قدرة عسكرية تقليدية ونووية مهمة. فإضافة إلى كم عسكري يرتقي إلى نحو )3( مليون جندي تدعمه قدرة قتالية متطورة، تتوافر بعض دوله ولاسيما فرنسا المملكة المتحدة، على قدرات نووية. ويسند هذه القدرة إنفاق عسكري عال يساوي نحو 4 من مجمل الناتج القومي الإجمالي لدول الإتحاد الاوروبي، ومما يجعله في مرتبة عالية عالميا.

وفي ضوء نوعية قدراته الموضوعية، يتكرر القول أن الإتحاد الاوروبي يعبر عن بروز قوة دولية فاعلة وقادرة على إحداث تغير مهم في المعادلة الدولية لعالم ما بعد الحرب الباردة، ومن ثم المشاركة في بلورة الهيكلية الدولية لعالم القرن الحادي والعشرين للصالح الاوروبي. فمثلا، قال بول كنيدي : » إذا لم يكن القرن القادم قرنا امريكيا، فمن المحتمل جدا أن يكون قرنا اوروبيا.«

صحيح أن القدرات الموضوعية للإتحاد الاوروبي تدعم القول ببروزه قوة دولية فاعلة، إلا أن هذا الجانب الإيجابي للصورة الاوروبية لا يلغي الجانب الاخر لها. فمثلما هو الحال مع الولايات المتحدة الامريكية، يعاني الإتحاد الاوروبي هو الاخر من إشكاليات هيكلية تنطوي على تأثيرات سالبة في أنماط سلوكه تحد حاليا دون بروزه كقوة دولية فاعلة.

تتوزع هذه الإشكاليات على مستويين متفاعلين : داخلي وخارجي.

   فأما عن الإشكاليات الاوروبية الداخلية،أفضى تباين التطور الحضاري لدول الإتحاد الاوروبي إلى أن يجمع، منذ تأسسه في عام 1992 جراء معاهدة ماسترخت و عبرتطوره الهيكلي اللاحق، بين مستويين مختلفين من هذه الدول :

 فأما عن الاول، فهو يشيرإلى تلك الدول ذات القدرات الخاصة والتي تم تسميتها، منذ السبعينيات من القرن الماضي، بدول المركز. وهي الدول الاوروبية الكبرى: المانيا، فرنسا، ايطاليا، المملكة المتحدة )قبل خروجها من الإتحاد الاوروبي(

وأما عن المستوى الثاني، فهو يشمل مجموع بقية الدول الاوروبية الاخرى: المتوسطة والصغرى، والتي تم تسميتها بدول الاطراف.

وفضلا عن ذلك يُعد الإتحاد الاوروبي هيكلا لتجمعات قومية واقتصادية وإرتباطات خارجية متعددة ومتباينة. فبجانب أوروبا الجرمانية الاقوى اقتصاديا، هناك أوروبا اللاتينية الاكثر تنوعا، وأوروبا السلافية الاكثر عددا، وأوروبا الانكلوسكسونية الاعمق عزلة.

ويفيد هذا التصنيف أن تباين دول الإتحاد الاوروبي في قدراتها الذاتية يفضي بالضرورة إلى أن تتنافر مصالحها ومن ثم الاخذ بسياسات تعبر عن هذا الواقع. لذا لا يستطيع المرء القول إن الإتحاد الاوروبي يُعبرموضوعيا عن تجمع مصالح متماثلة. فمصالح دول المركز الاوروبي لا تتماثل بالضرورة مع مصالح سواها. هذا، ناهيك عن الخشية الاوروبية الكامنة وشبه الشاملة من الهيمنة الالمانية. لذا لا مغالاة في القول أن الاتحاد الاوروبي يفتقر لوحدة المصالح السياسية.

وإضافة إلى التوتر الكامن بين الاوروبيين، ينطوي إستمرار تعارض المصالح الاوروبية، داخل وخارج القارة الاوروبية، على تعطيل ذوبانها ضمن إطار المصالح المشتركة. فقانون التنافس بين الدول الرأسمالية مثلا، الذي تتاثر به دول الاتحاد الاوروبي أيضا، يدفع بها إلى الوقوف، ضمنا او صراحة، بالضد من السياسات الاوروبية المشتركة التي تتقاطع ومصالحها الوطنية، سيما وأن هذا القانون يفيد أن الدول الرأسمالية لا تنمو اقتصاديا إلا على حساب بعضها البعض الاخر.

وجراء واقع الاختلاف والتنافس والصراع داخل الاتحاد الاوروبي وكذلك خارجه لا يستطيع هذا الاتحاد إلا أن يكون مرادفا لهذا الواقع.

 وأما عن الإشكاليات الاوروبية الخارجية، فأبرزها يكمن في طبيعة العلاقة الاوروبية-الامريكية واثرهاعلى مستقبل الدور الدولي للإتحاد الاوروبي.

يفيد تاريخ هذه العلاقات إنها مرت، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بمراحل تباينت في خصائصها. وتُعد نهاية الحرب الباردة عام 1991 بمثابة الحد الفاصل بين نوعين عامين منها:

فأما عن المراحل الاولى، فهي تلك التي تميزت بإنسياق أوروبي شبه مطلق وراء السياسة الخارجية الامريكية. وقد افضت إلى ذلك مخرجات الحاجة الاقتصادية والهواجس الامنية الاوروبية خلال الزمان الممتد بين 1991-1945.

وأما عن المراحل الثانية، فهي تلك التي تميزت بدعوة إلى إعادة بناء العلاقات الاوروبية مع الولايات المتحدة الامريكية على أسس جديدة. وإلى هذا التطلع دفعت مخرجات العلاقة بين نمو القدرة الاقتصادية الاوروبية والنزوع إلى أداء دور سياسي دولي مستقل. وقد كانت فرنسا والمانيا وراء هذه الدعوة.

ويفيد واقع العلاقة الاوروبية-الامريكية بعد انتهاء الحرب الباردة أن الإنسياق الاوروبي وراء السياسة الخارجية الامريكية، الذي لا تلغيه مسببات التنافس و/أو الصراع الاوروبي-الامريكي، أستمر لصيقاً بهذه العلاقة. ومما ساعد على هذا الإنسياق التوظيف الامريكي للقواسم المشتركة الاوروبية- الامريكية، فضلا عن تأثير مخرجات دعم عدد من الدول الاوروبية، وخصوصا المملكة المتحدة، للفكرة الاطلسية التي دعت إلى ديمومة الإرتباط السياسي الاوروبي الوثيق بالولايات المتحدة الامريكية

إن التأثير الامريكي في السياسة الاوروبية، حيال قضايا أوروبية وغير أوروبية، لا يفيد بفاعليته فحسب،وإنما يؤكد كذلك إستمرار التطلع الامريكي نحو تعطيل الإتحاد الاوروبي عن ممارسة سياسة خارجية مستقلة خشية أن يؤدي ذلك إلى دعم صعوده كقوة دولية مؤثرة ومنافسه.

إن حصيلة تأثيرمدخلات القوة والضعف، التي تتسم بها الدائرتان الاسيوية والاوروبية في نوعية حركتهما الدولية، لا تسمح بالقول أن هاتين الدائرتين تستطيعان، في عام2027، العودة بهيكلية النظام السياسي الدولي إلى مثل تلك التي إقترن بها العالم خلال الحرب الباردة، أي هيكلية القطبية الدولية الثنائية.

 *استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات