داناي.. الحبُ المِثال، وفلسفة الانتظار في ابتهالات هنري زغيب

بيروت ـ نسرين الرجب

ابتهالاتٌ عاشقة شعرًا ونثرًا يُقدمها المؤلّف والشاعر »هنري زغيب«، في كتابه :« داناي ..مطرُ الحب« ، الصادر عن نشر مشترك لـ » دار سائر المشرق، ودرغام«، العام 2017.

قالها الشاعر نزار قباني: »الحب في الأرض بعض من تخيّلنا/ لو لم نجده عليها  لاخترعناه«.

 هل يخترع »هنري زغيب« حُبا بهذه المثالية ليردُم الهُوّة التي تفصلنا عن الواقع، واقع العصر الآني الذي يضجُ بالبغضاء، وتطفو فوق سطحه حكايا العشق التالفة، ودواعي الفراق القاهرة؟! وإلام يهفو من ذلك؟ هل يحاول أن يعود بنا من خلال الأسطورة إلى عالم الُخيال المجاني، حيث لا تموت  الأحلام، ويحق للشاعر ما لا يحق لغيره ، يحق له أن يهبنا الوهم أو أن يحفّز فينا الحلم لننهل قدر ما يتسع لنا الخيال من تأويلات الحب المِثال؟ وكيف لنا أن نصحو، معافين من لهفة الانتظار؟!

ـ الشاعر هنري زغيب: لا يمكن اختراع كلمات جديدة لتحميلها الاحساس أو المعاني
ـ الشاعر هنري زغيب: لا يمكن اختراع كلمات جديدة لتحميلها الاحساس أو المعاني

داناي بين الأسطورة والواقع

 يقول »هنري زغيب« في مفتتح كتابه: » الكلام صحيح لمن يريد التّمعن في مدلولاته/ لا يمكن اختراع كلمات جديدة لتحميلها الأحاسيس أو المعاني/ الإبداع هو في سبك الكلام«، فهو يسبك كلامه على محور الحب والدهشة، »داناي« وكما عرّفها لنا قادمة من عالم الأساطير اليونانية، سجنها والدها في برج ذهبي كي لا تتزوج ولا تلد، لأن العرّاف أنبأه أنه سيولد لها ابن يكبر فيقتل جدّه، يُعجب بها كبير الآلهة زوس فيتسلل إليها بعدما يتحول إلى مطر من ذهب، يُخصِّبها فتلد ابنًا يُحقق نبوءة العرّاف، ويحيل  المؤلف »داناي« إلى بُعدها الواقعي حيثُ المرأة المسجونة في بيئة قاسية،  مُقيّدة بالعادات والتقاليد التي تمنعها من الخروج إلى حرية العيش مع حبيبها.

يمدح الشاعر بالحب والحبيبة، »الحدث الاستثنائي الذي لا يأتي في العمر سوى مرة واحدة وحيدة«، وهي ليست المثال فقط الخرافي للحبيبة الأسطورة، فيوجه خطابه للمتلقّي: » تبدأ عادية كأي امرأة لها شكل واسم وحجم..ثم تتحول حضورا هيولانيّا عظيما من دون شكل ولا اسم ولا حجم..تراها..تعيها..تحبها..تتكرس لها..تتعلق بها..«

يستند المؤلف إلى رؤية فلسفية للحب، تُظهره في مثالية تعلو عن أرضية الواقع، يحاكي بها تساؤلات الوجود، يضع فرضيّة »الموت ليس نقيض الحياة، الموت نقيض الحب، …« ويصل إلى أن : »الحياة ليست نقيض الموت بل نقيض الـ لاحب«،  تظهر مصطلحات فلسفية: »الخلود، حياة بعد الموت،الكمال، الاكتمال، الاتحاد بالمدار، الكون الشمولي، الكوسموس، القدر، العناصر الأولى، هيولانيا، الكائن الأسمى، صورة، الزمن،الترويح النيرفاني، الحدس،رقم العهد النهائي 7، التجلي، في أجلوك….«

ينزع الشاعر من خلال فلسفة الفكرة ، نحو تكثيف المثال الفني للحب، بين داناي والشاعر، كمثال أعلى في الأنثى داناي الخائفة والشديدة الجمال، المُحبة والعظيمة الكيان، والشاعر المستميت عشقا، الفصيح بلاغة في التعبير عن مكنونات قلبه، الحب في مثاليته المكتملة الجمال والحضور،  تكثيفًا يُنازع الأسطورة ويحنو نحو الغنائيّة  ، حيث يغيب الشاعر في حالة من الوله والتذلُل للحبيبة من خلف  حجاب الغياب، ويسرح في مشاهد غراميّة.

يتخذ الهذيان بالحبيبة  سِمات الحوار في المشاهد الأخيرة حيث حوار الشاعر وداناي، تحولت الحبيبة إلى حلم من خلال الأسطرة، أسطرة هذا الحب الذي تجاوز حدود الخيال ، حدود الواقع ، واقع عصر آني، لا يتماثل للفكرة المُحال، ففي ختام الكتاب وفي عنونة هامشية يقول فيها المؤلف أنه في نهاية حوار الحب بين داناي وشاعرها  يجثو الشاعر عند قدميها فتضع يدها على رأسه في صيغة القسم، وهنا تدخل المشهديّة الأخيرة في نبوءة العرّاف، حيث »صحا الشاعر من رؤاه/ لكن لم يصح من الانتظار/ حتى تتحول رؤياه إلى حقيقة…«وسوف.. وسيبدآن.. ولو في خريف العمر كما يقول الشاعر.

 إنّها المرأة المثال، الحُب المُفتقد يُترجم صيغته على ألسنة الشعراء في كل زمان،  غياب التصوّر الواقعي ، يتمثل في حضور الحب الأبدي الذي لا تعصف به أحوال ولا تُغّير مصيره أقدارٌ، بل هو القدر.

الأسطورة لا تتوقف عند الميثولوجيا اليونانية وتنتهي، بل يُضيف المؤلف إليها من ذاته، يعطيها مثال الواقع، حيثُ المرأة المكبّلة بالأعراف والتقاليد، ويجعل حبها لهجا على لسان الشاعر الولِه، فهي  ليست مقصودة لذاتها ، وليست سردًا تاريخيًّا ، بل يُحمّلها المؤلف رؤياه الحاضرة المستمرة،  فهل تراه نجح  في توظيف الأسطورة إذ قدّم من خلالها رؤيا شاعرية رومانّسيّة،  تنحو منحا تأمليًا فلسفيًا؟!

التشكيل الفني والبُعد المشهدي

يتميز المحتوى بالكثافة، ليست الكثافة من حيث المضمون فقط، بل كثافة التشكيل والإخراج الفني للكتاب، بين الشعر في هيأته الكلاسيكية العاموديّة  من حيث الوزن والقافية، والشعر في أبعاده الحداثيّة حيث القصيدة مُتحررة من الوزن وتعتمد في ايقاعها على الأبعاد الدلالية للصورة الفنية من استعارات وانزياحات ومفارقات لغويّة، وتناص أسطوري وغيرها من عناصر التكثيف الايقاعي ، ويحضر النثر في  خطابيّة تتفجّر بدلالات متنوعة.

يعتمد على  شعريّة  دراميّة بالغة البلاغة، في تمثيل هذا الحب الأفلاطوني الذي يُحاكي عالم المُثل،  ولغة خصبة الدلالة غنيّة بالتعابير والرموز والصور الفنيّة المبدعة التي تمنح النص شاعريته المُتقنة، ونغميته  التي لا تفارق مقطعًا إن كان للنثر نحا أو من الشعر دنا، في طقس ابتهالي كثيف بالتقديس لصورة داناي الحبيبة المنتظرة، تكرار التغزّل بالحبيبة عبر  التوازن والتوازي بين الجمل الشعريّة المتتالية »كل فاصلة فيه أنت/ كل كلمة فيه أنت/..«، وأيضًا، »لأنك شمسي الوحيدة في ليل هذا الوجود…/ لأنك ما بين ظلي وظلي، أعيشك خارج وهم العيون../ لأنك….« وغيرها من الأمثلة الكثيرة في الكتاب.

   تتجلى الدراما الفنيّة  عبر البنيّة  الدائريّة للحكاية،  تتمثل في مشهديّة تبدأ برجاء حيث الشاعر يُناجي محبوبته:  »داناي يا داناي إفتحي شبّاك برجك العالي لشاعرك المولّه..«، وتُختتم  بانتظار مليء بالرجاء، أيضًا، :« يا حبيبتي داناي / من برجك العالي أطلّي علي /….سأظل واقفا عند انحدار البرج حتى تتخطي زمن الأوليا والحرّاس…« ، تبدو البنيَة دائريّة مغلقة  في ظاهرها عندما يصحو الشاعر ليجد أنه لم يلتق بعد بداناي، ولكنّها تحتمل في باطنها الإمكانيّة، يتبدى ذلك من خلال الأمل بالتسويف، ممكن لهذا الحب أن يوجد، ممكن لداناي أن تتجسد في أية صورة لامرأة حقيقيّة حيث يفعل الحب الأعاجيب.

قد يُصنّف هذا النص الشعري الطويل ضمن الشعر المسرحي، حيث الشاعريّة تطغى عليه، متمثلة برومانسيّة حالمة، تطرق باب الخيال، وتغيب في ذاتيّة الحلم، وتنتقل في الزمان والمكان بخفة دراميّة مذهلة، عبر الرؤيا الممتدة من الماضي زمن الأسطورة إلى الحاضر الذي لا يحضر من معانيه ودلالته سوى الانتظار، في تسويف ممتلئ باحتمالية تحقق الرؤيا، فإذ بنا نشهد صيرورة الوقت انسيابه كنهر جار لا يتوقف، بين الليل والفجر، الغياب والحضور، الانتظار والوصول.  قد تخفُت الإضاءة على الآن والهُنا، ولكنّها  تُظهر انطباع الشاعر الحقيقي الذي يتقنّع في شخص الشاعر المتخيّل الواله ، انطباع يعبّر عن موقف يفيض بالعاطفيّة والحاجة المُلحّة للكينونة أن يا دناي تعاليْ وكوني .

 يُمسرّح المؤلف الرؤيا المثاليّة للحب الإنساني، للقدر العاطفي الذي يعد بالوجود، على الرغم من طغيان الغنائيّة، هناك حبكة تتمثل  في تطور الأحداث، التي تسير على خطو زمني هادئ إلى ذروة اللقاء والهبوط على أرض الواقع، ولكن هذا الهبوط لا يُمثل النهاية ، بل يمنح الشاعرقوّة الايمان بأن هذا الحب سيأتي،  مشهديات كثيفة، حوارات على قلّتها إلّا أنّها غنيّة بالدلالات تُعبّر عن الشغف بالحب، عن الوصول المتوهّم ، اللغة متعالية كمثال هذا الحب، عميقة المضامين، شاردة في البعيد، تأمليّة ، صارخة ثائرة.

يعطي هنري زغيب صوته للشاعر، الذي يتخذ موقع الفاعليّة في الكتاب، بينما صوت داناي لا نكاد نسمعه إلا في حوار طفيف يجمعها والشاعر، وذلك ضمن أربع صفحات من بين  152 صفحة يكون الكلام فيها للشاعر وحده، إضافة إلى تدخلات وجيزة لما سمّاه بالراوي. هذا التفاعل الصوتي الطويل في امتداده ، والذي يعبّر من خلاله الشاعر عن انفعالاته، عن صلاته العشقيّة، دليل على زخم إحساسه ، فهو يتلون بألوان الحب ومراتبه النبيلة من عشق وهيام وتوله واستماته ، تصوير الصراع الأفقي حيث الدعوة للتمرد على قوانين المجتمع، على الحد الفاصل بين الواقع والخيال، على المستحيل الذي لا يُضعف عزيمة الحب إلا ليُقابله حلم وإيمان، إنه الحب في مثاليته العليا، ولكن هل يكتمل والحبيبة مُحتجِبة  في برجِها العالي  تتلقى الغزل، تتلقى الشغف وهي هائمة في أثير الغياب؟!