استفتاء الاستقلال.. والقضايا المتغيرة- كركوك.. ودهاء التاريخ

لندن أمين الغفاري

أقسى مايواجهه زعيم سياسي أن لايقرأ واقعه جيدا. وأن تقوده عواطفه واندفاعاته إلى اقتحام مناطق وعرة وشائكة ان لم تكن مستحيلة وقاتلة. وهكذا الحال مع قضية الأستفتاء على استقلال اقليم كردستان عن العراق، أو بالأحرى انفصال كردستان عن العراق وليس استقلالها فهي تتمتع بالفعل بدرجة من الأستقلال لاتضاهيها او تماثلها فصائل كردية أخرى في اي دولة مجاورة. الزعيم الكردي استعاض بالمغامرة عن الحكمة. والاندفاع الذي يبلغ حد التهور عن الروية التي تستلزم التأني والخطوة المدروسه. خدعته بالتأكيد حالة التردي التي ذهب اليها العراق. والصراع الطائفي المفتعل بين الشيعة والسنة. والدور الذي لعبه بعض أقطاب العملية السياسية هناك بعد الغزو الامريكي.. لقد ساهم هذا الدور في رسم صورة مزيفة. وقام بترسيخ معالمها. خدعته الصورة المرئية ونجحت في نشر الغمامة على صفاء الرؤية. وأوحت له بأنها لحظة الضعف أو الأنكسار التي يمكن اقتناصها لتحقيق حلم يداعب الخيال في اعلان الدولة المستقلة،ومن ثم تؤكد نظام حكمة وتشكل معالم زعامته،أو من جانب آخر أراد أن يعتصر الحكم في العراق لمزيد من المكاسب لديه. قضية الأكراد في جوهرها قضية عادلة،وأي منتمٍ حقيقي للفكر القومي بشكل عام وبتجرد لابد أن يقف في صفوف الفكرة والمعنى بايمان حقيقي يقتضي الأنصاف،ومن جانبه لم يقصرالعراق ووقف عبر مراحل عديدة من حكمة. بالتعاطف معها وقدم لها أكثر مما قدمت لهم دول أخرى يأخذ فيها الأكراد نصيبا يكبر أو يصغر في مكوناتها من

مسعود البرزاني طموحه أكبر كثيرا من حكمته
مسعود البرزاني
طموحه أكبر كثيرا من حكمته

المساندة في الحفاظ على الهوية. واللغة والثقافة. بل ولامركزية الحكم. بل وكان منهم في مراحل سابقة نائبا للرئيس على سدة الحكم. وتطور الأمر فأصبح منهم الرئيس بعد ذلك ووزير الخارجية. وشهدت أربيل مراحل من مضطردة. كما تشهد الآن نوعا آخرمن الطفرة في مستوى الحياة المدنية والمعيشية. وفي تدفق الأستثمارات. وفي الرواج الأقتصادي. وفي سبل المواصلات المحلية بل والدولية. هي صورة بالتأكيد لدى النظرة الخاطفة قد تغري بالتقدم للأمام نحو تأكيد الذات، أو التهام المزيد من التوسع في مناطق تخضع لمنطق الأختلاف على تبعيتها. لكن القائد الحكيم لابد ان تختلف حساباته بحكم عظم مسؤولياته. وتتعمق رؤاه استنادا إلى خطورة خطواته. وترتيبا على ذلك يجدر السؤال هل استكمل اقليم كردستان في العراق كل مقومات الدولة. ولم يبق فقط سوى الأستفتاء على الأعلان ؟ أم أن الأمر كله لم يكن سوى مظاهرة عالية الصوت يمكنها ان تعزز بعض مقومات الزعامة للسيد البرازاني، وترسخ حكمة بعد ان انتهت مدة ولايته كحاكم للأقليم عام 1915. واصبح يمارس منذ هذا التاريخ حكما مطلقا استنادا إلى اغلبيته البرلمانيه. ومع ردة الفعل السلبية تماما التي واجهته سواء من حكومة العراق أومؤسساته أو من قواه الشعبية. بالأضافة إلى القوى الأقليمية المجاورة. فضلا عن المردود العالمي بشكل عام كان عليه أن يعلن مؤخرا عن تأجيل الأنتخابات الرئاسية والبرلمانية ثمانية أشهر بعدما كانت مقررة في الأول من نوفمبر الماضي اكتسابا لعنصر الزمن وحتى يعيد ترتيب أوضاعه من جديد بعد الخسائر التي مني بها مشروعه الأستقلالي. في بداية الستينات من القرن الماضي ذهب جلال الطالباني إلى القاهرة موفدا من زعيم الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي تأسس عام 1946 بزعامة مصطفى البرزاني لمقابلة عبدالناصر في القاهرة. طالبا منه بذل جهوده لدى الحكومة العراقية في ايجاد الحلول للقضية الكردية، وتطلعا إلى تأييده. وأجابه عبدالناصر )انني اتعاطف تماما مع اي قضية قومية انطلاقا من ايماني بقضيتي القومية العربية. ولذلك فانني أرى أن صيغة الحكم المناسبة لظروفكم تكون في اطار الحكم المحلي. أما التطلع للأستقلال فانه لايتلاءم مع ظروفكم السكانية والجغرافية والاقتصادية. وهي تتنافى مع مقومات الدولة. وسوف تساهمون في تقسيم العراق. وتكونون كدولة صغيرة ملعبا لقوى كبرى تشكل تهديدا لأمن العراق وسلامته،وعلى ذلك فانني لاأؤيد الأنفصال عن العراق(. انشق الحزب الديموقراطي الكردستاني عام 1964 إلى جناحين،وفي عام 1975 أسس الطالباني حزبا آخر باسم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وفي عام 1979 خلف مسعود البرزاني والده ذ بعد رحيله ذ في زعامة الحزب الديموقراطي. وأصبحا هما الحزبان الرئيسيان في كردستان العراق

الصراع على الزعامه

استفحلت حدة الصراع بين البرازاني والطالباني إلى ان وصلت في بعض الأحيان إلى حد الاشتباك المسلح. وكان الأستحواذ على الصدارة هو أحد أوراق المزايدة بين الطرفين، وفي احد هذه الصراعات استنجد مسعود البرازاني بقيادة الدولة الأم )العراق( لانقاذه من محاولة الفتك به وبحزبه. أي ان الدولة الأم )العراق( كانت هي ميزان الخلاص عند الخطر، وبمعنى آخر كانت سلامة وأمن كردستان وشعبها لا يتوفران لهما في ظل قيادات لاتتورع عن استخدام السلاح وتوجيهه إلى صدور مواطنيها ان استلزم الأمر في حدة التنافس على المكانة والسلطة. والتاريخ خير شاهد على ذلك كما أن الأحداث مازالت قريبة وماثلة في الأذهان. حال الأكراد في الدول المجاورة للعراق لايمكن مقارنته مع اوضاعهم في العراق حيث وجدوا المساندة في مقابل القمع. والوعي بالمشكلة في موازاته بالأنكار والضغط بل والأكراه. وفي حين يتمتع القادة الأكراد في العراق بمواقع رسمية ومؤسسية يتوارى القادة هناك في الزنازين المفتوحة مهددين بالأعتقالات وغياهب السجون ان لم يكن بالتصفية وأحكام الأعدام.

الانعكاسات الأقليمية على انفصال كردستان

ان اي دولة في العالم لايمكنها ان ترحب بدعاوى الأنفصال والتفتيت تحت ضغط شعارات ربما تسوقها العواطف اكثر مما يسوقها العقل. ولم تخضع لدراسة العواقب المترتبة على الانفصال بالقدر الكافي وخصوصا على مستقبل الأقليم ذاته الراغب في الأنفصال وقدرته على التنمية وعلى الأمن في آن واحد.،وقد رأينا النموذج في الشعب الاسكتلندي حين تصدى لدعاوى الأنفصال عن المملكة المتحدة. وتمسك بموقعه في اطار الدولة الكبيرة، وعلى الجانب الآخر نجد الصورة المرئية الآن في اسبانيا ومشكلة كتالونيا. خصوصا حين يفتقر الطرف الآخر الراغب في الأنفصال إلى مقومات الدول الحقيقية. بما يمكن ان يشكل في حالة انفصاله تهديدا لسلامة الدولة الجامعة ويسخر كشوكة مؤلمة في خاصرة الدولة الأم ترتيبا على صفقات معدة مع تلك القوى التي ساندت الأنفصال أوشجعت على انجازه ذ ليس في اطار حق تقرير المصير ذ وانما تطلعا لمصالح أخرى متميزة واستحواذا لمواقع أكثر تأثيرا على الخريطة الأقليمية. ان المنطقة تمور بأحداث جسام، والربيع العربي الذي هب على المنطقة العربية لم يكن كله ربيعا أخضرا مفعما بالزهور النادرة أوالورود اليانعة،وانما كان في معظمه يحمل أوراق الخريف الجافة

جلال الطالباني شكل مع البرزاني ثنائية الصراع على الزعامه
جلال الطالباني
شكل مع البرزاني ثنائية الصراع على الزعامه

الساقطة ذات اللون الأصفر القاتمة،وفي احيان متعددة يصطبغ باللون ألأحمر القانئ يعكس لون الدم المتفجر الذي جرى أنهارا متدفقة في الشوارع والحواري وأغرق العديد من الميادين في اكثر من عاصمة ومدينة عربيه. في اطار تلك الأجواء المحمومة المشحونة بالمخاوف من عمليات التقسيم والتفتيت التي تهدد المنطقة بأسرها، ورأينا نموذجا لها في جنوب السودان. والتلويح بتطبيق سايكس ذ بيكو جديدة. تعتمد على وجود دويلات صغيرة وكيانات هشة لاتمتلك من قوى الردع أو المقاومة فضلا عن التنمية والأزدهار الشيء الكثير. وبذلك يسهل كسر ارادتها. وتتيسر سبل التعامل بها سواء بالبطش أوالحصار، أو من خلال الترغيب برشوة معونة أو شحنة سلاح أو تيسير حركة تصدير واستيراد.

بالنسبة إلى ايران : لقد رأينا في التاريخ القريب كيف استخدم شاه ايران الحركة الكردية في الضغط على العراق لتحقيق مكاسب لأيران، كما عاصرنا ذلك في اتفاقية الجزائر في مارس عام 1975.

ان للتاريخ عبرة وفي بعض فصوله نجد العظة والدرس،ولذلك رأينا ان ايران ترتيبا على مصالحها الخاصة استخدمت الأكراد كورقة ضغط على العراق. وبالمقابل فهي نفس الدولة التي استخدمت كل انواع العنف والقمع ضد الأكراد لمطالبتهم بالفرصة المتكافئة التي حظوا بها في العراق وهي )الحكم الذاتي دون انفصال عن جسد الدولة المركزية (. وقد جرى ضربهم المرة تلو المرة عبر مراحل تاريخية متعددة كان منها بين عامي 1918. 1922 بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى. حيث تشير الأحداث التاريخية إلى ثورة اسماعيل سمكو اغا رئيس عشيرة شكاك في كردستان ايران. والتي أراد بها اقامة دولة كردية وسانده في ذلك الأتراك. وكانت المرة الثانية في اعقاب الحرب العالمية الثانية عام 1946 حين شهدت هذه الفترة محاولة انفصالية قام بها تحالف يضم الحزب الديموقراطي الكردستاني الأيراني وبعض الجماعات الشيوعية وذلك بتأسيس حكومة حليفة للسوفييت في منطقة أكراد ايران وقد سميت )حكومة مهاباد( ولكن باءت تلك المحاولة بالفشل بعد انسحاب السوفييت من المناطق التي سبق وان احتلوها في شمال غرب ايران. كما باءت محاولات أخرى من التمرد بنفس النتيجة للحصول حتى على حكم ذاتي عام 1979. وعام 2004 مما يعني أن ايران جادة في مجابهة اي تحرك كردي، وقد كان موقفها بالرفض واضحا أزاء اعلان البرازاني عن اجراء ألأستفتاء الأخير في كردستان العراق.

بالنسبة إلى تركيا : غلبت تركيا جزئيا مصالحها الاقتصادية على مصالحها القومية حين قبلت تصدير نفط اقليم كردستان ذ في اطار الأتفاق مع بغداد ذ عبر اراضيها، ويقدر هذا التصدير إلى الأقليم بنحو 550ألف برميل ذ من اصل 600 ألف ينتجها يوميا ذعبر أنبوب يصب في مرفأ جيهان التركي المطل على البحر الأبيض المتوسط ويشكل ذلك الأتفاق الدخل الأساسي للأقليم. وقد ذكر مدير معهد أسواق وسياسة الطاقة فولكان أوزدمير، أن »سلطات الإقليم لن تستطيع الصمود لفترة طويلة إذا أوقفت تركيا تصدير نفط هذا )الإقليم( عبر أراضيها، في الوقت الذي وصل فيه سعر برميل النفط إلى 60 دولارا«. وقد جاء ذلك تعقيبا على الأجراء الذي اتخذه مسعود برازاني بالأستفتاء على استقلال الأقليم. أي أن حليف الأمس أصبح عدو اليوم. فالحكومة التركية ترى أن هذا الأستفتاء يعد تهديدا استرايجيا وقوميا على الكيان التركي. ومشاكلها معروفة مع حزب العمال الكردي في تركيا. وقد سبق وان تم اعتقال زعيمه )عبدالله أوجلان( بعد ان تم طرده من سوريا أزاء التهديدات التركية بمهاجمتها

 دهاء التاريخ

أثر تلك الفوضى العارمة التي شهدها العالم العربي بعد احداث ما سمي ب)الربيع العربي( وعمليات الدمار التي لحقت بالعديد من دولة. وظهورالتنظيمات الأرهابية التي ارادت ان تقتلع الأمن والسلام والطمأنينة لدي شعوبها من خلال التصدي لقواتها المسلحة وقوى الأمن الداخلي متمثلة في رجال الشرطة. ومحاولة انهاكها ان لم يكن لتدميرها حتى تصبح الأرض العربية ممهدة تماما للقوى الأجنبية بهيلمانها. واضفاء صفة الشرعية لتدخلها لحفظ الثروات الطبيعية وفي المقدمة منها النفط والغاز. ثم اعادة تقسيمها طبقا للقواعد الجديدة التي تفرضها القوى الجديدة المهيمنة على الساحة الدولية فقد تهيأ المسرح لوضع السيناريو وتوزيع الأدوار. ثم تطرح مبادرة البرازاني باجراء الأستفتاء تمهيدا لأعلان تقسيم العراق. لكي تقرع الأجراس منذرة بالخطر الزاحف الذي تقدم يدق الأبواب. لقد استطاع البرازاني ان يوحد الأقليم خلف قيادته. ولكن حين حدث الأستفتاء انقسم ألأقليم إلى جبهتين احداهما في اربيل والأخرى في السليمانية. وعاد الصراع القديم على اهبة الأستعداد لحمل السلاح من جديد. ووجد البرازاني أن مشكلته لم تعد مع الأقليم الأم في الأنفصال واحتلال المناطق المتنازع عليها. وانما المشكلة اخترقت الداخل سواء في الجمهور الموالي للحزب الوطني )الطالباني( أو من الحزب الديموقراطي الذي يمثل قاعدته. إلى جانب جمهور آخر من القوى السياسية الأخرى في الأحزاب أو في المستقلين. على الجانب الآخر استنفرت قوى الدولة الأم. فقامت القوات العراقية بالسيطرة على المناطق

محمد رضا بهلوي استخدم الزعامات الكردية في الضغط على العراق
محمد رضا بهلوي
استخدم الزعامات الكردية في الضغط على العراق

المتنازع عليها. وألغت الأستفتاء وماترتب عليه. وانسحبت قوات البشمركة أمام تقدم القوات الأتحادية العراقية. وقد أشاد الكثير من المراقبين بهذا الأنسحاب الذي منع المواجهة من احداث حمامات من الدم تزيد الجراح وتزرع الفتن.

بهذا المشهد تراجعت فكرة الأنفصال. وبمعنى آخر فكرة التقسيم. وماتجره تداعياتها على سلامة العراق. وعدم انسحاب الفكرة لكي تطبق في سوريا وفي ليبيا. وبالتأكيد ستكون لها آثارها على ايران وتركيا. ويصبح الطريق معبدا أمام الكيان الصهيوني لكي يتمدد بحساباته في المنطقة تحت الرعاية الأستعمارية. وايران وتركيا في الأصل ليستا عدوتين بالمقارنة بالعدو الرئيسي وهو الكيان الصهيوني. حتى وان اختلفنا في السياسة معهما. وموطن الخلاف تحديدا يتركز في طموحاتهما في المنطقة.

كان دهاء التاريخ يتركز في تلك النقطة التي انطلق منها البرازاني لكي يحقق طموحه في الزعامة. هي نفس النقطة التي دقت فيها اجراس الخطر تنذربالعواقب الدموية المدمرة التي ستلحق بتلك الخطوة المتهورة. وأصبح البرازاني بكل المعايير الخاسر الأكبر،وبات عليه ان يتوارى بعد ان أرتكب عملا غير مدروس كان من شأنه أن يشعل النار فاحتمالات اقتحام القوات الأيرانية فضلا عن التركية للأراضي العراقية لضرب المشروع البرازاني كانت أكثر من كبيرة. ان لم تكن مؤكدة.

لقد تقاطرت التصريحات من منظمات وقيادات تنتمي للعراق الدولة والوطن تدين التصرف وتحذر من تداعياته لفرض التقسيم والتفتيت على الأقطار المختلفة المجاورة. وحتى الأبعد. بل ان بعض تلك الأدانات انسحبت لكي تساوى بين الأهداف التي سعى اليها البرزاني وبين التنظيمات المتطرفة التي استهدفت الكيانات الوطنية ذاتها. ولقد وضح أن العراق الوطن والدولة ووحدتهما ليس فقط خطا أحمرلدى الشعب العراقي. ولكنه خط وجودي لأمن الشعب وكل اطيافه وسلامته.

لكن على الجانب الآخر لابد ان توضع المشكلة الكردية في اطارها الصحيح. وأن تراعى مكانة الأكراد في المجتمع العراقي باعتبارهم أحد مكوناته الرئيسية. وأن تكون الأحكام الدستورية هي الفيصل في العلاقات من حيث تنظيمها وعدالتها. وأن يكون القانون وحده السند وهو المعيار.

د. حيدر العبادي رئيس وزراء العراق ذكر ان استفتاء البرزاني محاولة لتقسيم العراق
د. حيدر العبادي رئيس وزراء العراق
ذكر ان استفتاء البرزاني محاولة لتقسيم العراق