إيران: زلزال تحت السيطرة – دول العالم تراقب بقلق تطورات الوضع والعواصم لا تريد سقوط النظام

محمد قواص *

ينشغل العالم أجمع بتطورات الداخل الإيراني، ذلك أن تموضعا عجيبا جرى في العقود الأخيرة حول الواقع الإيراني سواء كانت الجهات الدولية والإقليمية مؤيدة أو معادية لنظام الولي الفقيه في إيران. وتكشف المظاهرات التي اندلعت في مدينة مشهد وانتقلت إلى عشرات المدن الإيرانية عن حالة الاهتراء التي يسعى النظام السياسي الإيراني إلى إخفائها داخل خطاب شعبوي يتباهى بقوة البلاد ومنعتها. وتسلط هذه المظاهرات المجهر على حالة الغليان التي تتنامى داخل الشرائح الاجتماعية في إيران، ليس فقط بسبب الحالة الاقتصادية للبلاد، وهي حالة ليست أسوأ من بلدان كثيرة في العالم، بل بسبب حالة اختلال عامة يعيشها الإيرانيون بمختلف قومياتهم جراء ما تمارسه السلطات بحق أي أصوات معارضة أو إصلاحية أو منتقدة لخيارات طهران السياسية في العالم.

وينقل عن مصادر مطلعة في طهران أن قلقا ينتاب دوائر القرار في العاصمة الإيرانية بسبب طبيعة المظاهرات العفوية التي اندلعت في هذه المناطق والتي من الممكن أن تتمدد صوب مناطق أوسع في البلاد. وأضافت المصادر أن المظاهرات في هذه المنطقة لم تكن متوقعة من قبل الأجهزة الأمنية، وأن جهل تلك الأجهزة بهذا الحراك يعني أن هناك قوة كامنة داخل المجتمع الإيراني قابلة للانفجار لم يتم رصدها من قبل الأجهزة الرسمية السياسية والامنية في البلاد.

عفوية المظاهرات وغياب قادتها أمر يقلق سلطات طهران
عفوية المظاهرات وغياب قادتها أمر يقلق سلطات طهران

ويلفت بعض خبراء الشؤون الإيرانية أن التحركات الشعبية التي ترفع شعارات مطلبية تركز على شؤون العمل والاجور ومكافحة البطالة وإيجاد الوظائف، قد تخفي وراءها الآن أو لاحقاً حوافز أعمق تتعلق بحراك الأقليات داخل البلاد، كما التبرم من نظام ولاية الفقيه الذي يصادر ثقافة البلاد الحقيقية وموقعها التاريخي والحضاري في العالم.

ويرى هؤلاء أن طهران ليست قلقة من رفع المتظاهرين للمطالب المعيشية التي يتحرك الناس من أجلها في بلدان العالم، لكن خشيتها تأتي من إدراكها الكامل لحجم الامتعاض الداخلي المتعلق بهيمنة الحرس الثوري الإيراني على مصير البلد بجانبيه الاقتصادي والسياسي وخضوع الحكومة الإيرانية لأجندة الحرس وقرار الولي الفقيه المرشد علي خامنئي.

وتعتبر مصادر دبلوماسية غربية في طهران أن هتافات المتظاهرين كانت معبرة عن حقيقة المأزق الذي تمر به البلاد. فقد وضع المتظاهرون رئيس الجمهورية حسن روحاني والمرشد علي خامنئي في سلة واحدة بما يسقط هذا الخط الافتراضي الذي كان يرسم بين تيار المحافظين وتيار الإصلاحيين.

ويذكر المراقبون أنه عشية الانتخابات الرئاسية تبادل المرشحون الحجج التي تفصح عن حجم الكارثة. فعد 38 عاما على قيام الجمهورية الإسلامية في إيران تحدث المرشح المحافظ محمد قاليباف عن أن 11 مليونا من الإيرانيين يعيشون في بيوت الصفيح، فتصدى له المرشح المحافظ الآخر إبراهيم رئيسي ليصحّح الرقم ويؤكد أنه 16 مليونا. أما الأرقام فتتحدث حاليا عن أن 25 بالمئة من الإيرانيين يعيشون تحت خط الفقر.

وهتف المتظاهرون: الموت لروحاني الموت لخامنئي، بما ينزع عن روحاني على الأقل قناعه المعتدل والذي سقط قبل ذلك حين بدت تصريحاته ضد السعودية والولايات المتحدة وفرنسا ودول أخرى أكثر تطرفا من تلك الصادرة عن جنرالات الحرس الثوري.

ويشدد مرجع إيراني معارض أن التظاهرات أتت لتدعم ما تسرب من قبل دوائر سياسية إصلاحية في إيران من أن روحاني ليس معتدلا وليس إصلاحيا وهو ينفذ أجندة القوى النافذة في الحكم بقيادة المرشد. ويرى هذا المصدر أن ذلك يعني أن الناس، وعلى عكس المظاهرات التي خرجت عام 2009 ضد إعادة انتخاب محمود أحمدي نجاد انتصارا لمرشحي التيار الإصلاحي، فإنها هذه المرة تخرج ضد النظام السياسي الإيراني برمته لا فرق في ذلك بين تيار وآخر.

وينقل عن خبراء في الشؤون الاقتصادية أن إيران دولة غنية بمواردها، فهي ثاني دولة منتجة للنفط بعد السعودية وثاني منتج للغاز الطبيعي في العالم بعد روسيا وأن إيران تملك شبكة واسعة من العلاقات الاقتصادية في العالم وأن توسعها العسكري لا سيما في مجال التسلح والصناعات العسكرية هي أكبر دليل على توفر الموارد المالية على الرغم من ترويج طهران لمعاناة البلاد من العقوبات الدولية. وأضاف هؤلاء أن العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة والمجتمع الدولي يطال بالأساس القطاعين العسكري والأمني ولا يطال ما يمكن أن يؤثر على المستوى المعيشي العام، إلا أن سلطات طهران تلجأ للتذرع بتلك العقوبات في محاولة منها لإقناع الايرانيين بأن سبب مشاكلهم يعود إلى ضغوط يمارسها أعداء البلاد.

أحرق المتظاهرون سيارات الشرطة واصطدموا مع قوات البسيج وأحرقوا صور المرشد الحالي كما صور قائد الثورة الإيرانية روح الله الخميني. هتف المتظاهرون بسقوط الديكتاتور بما يعني أن المتظاهرين يعتبرون أنهم يعيشون داخل ديكتاتورية، أي نفس المسوغ الذي قاد الشعب الايراني يوما لإسقاط ديكتاتورية شاه إيران. والظاهر أن ترداد تعبير فليسقط الديكتاتور هو ما أرعب منابر الحكم في إيران لما لهذا الشعار من تفريغ كامل لشرعية الحكم الحالي في البلاد وعقيدة ولاية الفقيه التي تستند على مبدأ العدل، فكيف يتسق عدل مع ديكتاتور؟

شتائم المتظاهرين طالت المرشد ورئيس الجمهورية على السواء
شتائم المتظاهرين طالت المرشد ورئيس الجمهورية على السواء

ويلاحظ بعض المختصين في الشأن الإيراني أنهم رصدوا من خلال هذه المظاهرات نفس عوامل الثورة على الشاه، أي انتقال تأثيرات القرية إلى المدينة وبالتالي ترييف المدن من خلال زحف، يعبر عن خلل في التنمية العامة، نحو مراكز المال والعمل في المدينة. ويرى هؤلاء أن الفقر ليس هو المشكلة، فهو مشكلة منتشرة في العالم، إلا أن انفجارها متعلق بإحساس الفقير أنه مضطهد.

يقول مصدر إيراني مطلع أن شعارات المتظاهرين تشبه تلك التي ارتفعت أثناء »الحركة الخضراء« عام 2009 وتفصح عن وعي كامل بطبيعة الورم الذي تعاني منه البلاد. ردد المتظاهرون شعارات تطالب أن تكون »إيران أولا« لا غزة لا سوريا ولا اليمن ولا لبنان. ويضيف هذا المصدر أن هذه الشعارات ليست مطلبية بل سياسية تنتقد سياسة النظام الإيراني وتحملها مسؤولية العزلة الإقليمية والدولية التي تبعد إيران والإيرانيين عن التفاعل الطبيعي مع العالم. ويرى المصدر أن المجتمع الإيراني يعلم أن عشرات المليارات من الدولارات تنفق على الميليشيات التابعة للحرس الثوري في الخارج، وأن المجتمع الإيراني غير معني بدعم الميليشيات التابعة لإيران في الخارج، وهو أمر سبق لروحاني وللرئيس الايراني الراحل علي أكبر هاشمي رفسنجاني أن أشارا إليه.

وتكشف مراجع حقوقية إيرانية في الخارج عن أن سياسة الانفاق في الخارج باتت شرطا من شروط تشكل شبكة الفساد التي تنخر موارد البلاد. وتضيف المصادر أن مسألة الفساد باتت علنية يجري السجال حولها لدى وسائل الإعلام، وان تورط الطبقة السياسية برمتها في قضايا الفساد هو ما يدفع المتظاهرين إلى الهجوم على كافة أجنحة السلطة، وكأن هذا السلوك يوحي بالحاجة إلى بديل آخر قد يتطور ليطيح بديلا عن نظام الجمهورية الإسلامية برمته.

ويرى مراقبون لشؤون المنطقة أن التحولات الإيرانية باتت ضرورية لحل ملفات عديدة في المنطقة، وانه رغم المقاومة التي تقوم بها عواصم المنطقة ضد التدخل الايراني في شؤون المنطقة، إلا أن تغييرا داخلياً قد يعيد تشكيل المنطقة برمتها على نحو ينهي احترابها الداخلي ويعيد لها حدا من الانسجام الضروري لفرض الاستقرار والتنمية في كافة بلدان الشرق الاوسط. ويضيف هؤلاء أن سلطات طهران قد تعمد عبر القمع او اتخاذ تدابير استرضائية من امتصاص هذه المظاهرات، إلا أن تلك السلطات لن يمكنها وقف عجلة التاريخ، خصوصا أن مظاهرات اليومين الآخرين تضاف إلى حراك إيراني عام لم يتوقف منذ عام 2009 والذي يأخذ اشكالا متنامية قد تتحول إلى مفترق تاريخي جديد في حياة الإيرانيين.

ويلفت خبراء في شؤون إيران أن العالم برمته لا يريد سقوط النظام في هذا البلد. فلا تفهم المنظومات الدولية الحديثة الانفجارات الاجتماعية العفوية الخارجة عن حسابات الغرف الكبرى. بدا واضحا حجم التلعثم الدولي في مقاربة اندلاع المظاهرات في تونس أواخر عام 2010 والتي تمددت وشاعت بعد ذلك في كامل المنطقة لتتحول إلى »ربيع« ملتبس ما زال عصيا على الإدراك. ويبدو واضحا تمسّك العواصم الكبرى بإيقاعات رصينة في التعامل مع الحدث الإيراني. ففي ما عدا تغريدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فإن الدبلوماسيات الكبرى، بما فيها، للمفارقة، تلك في واشنطن، تراقب الحدث الإيراني بتأن وتسعى إلى عدم المغامرة في استشراف مآلاته وتتجنب الدفع به باتجاه احتمالات مجهولة.

والحقيقة أن دول المنطقة برمتها تنظر بعين محافظة عند تقييم التطورات في إيران. ولئن تعبّر تركيا عن تضامنها مع الجار الإيراني، فإن المجموعة الخليجية المفترض أن لها موقفا سلبيا من نظام طهران تتعامل مع »الربيع« الإيراني بنفس الريبة التي تعاملت بها مع »ربيع« العرب. وليس بالأمر أي غرابة في علم السياسة والعلاقات الخارجية، ذلك أن حوالي أربعة عقود من عمر الجمهورية الإسلامية في إيران خلقت وضعا إقليميا ودوليا يتأسس بنيانه على الحقيقة الإيرانية سواء ناصرتها دول أو خاصمتها دول أخرى.

ولا نكتشف جديدا إذا ما لاحظنا ضيقا داخل »تيار الممانعة« الإقليمي. فركائز تلك المنظومة سواء بجانبها الدولاتي الذي يمثّله النظام السوري، أو بجانبها الفصائلي الذي يمثّله حزب الله وحركتا حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين والفصائل الشيعية التابعة من أفغانستان إلى اليمن. لكن ذلك الضيق انسحب بشكل فجّ وسريع على الموقف التركي الذي رأى في الحدث الإيراني أعراضا تحمل في بذورها خلايا عدوى يسهل عبورها من حدود البلدين.

يجتمع النظامان الإيراني والتركي على قاعدة اتكائهما الإيديولوجي على الإسلام السياسي وعقائده. وينشط داخل العقل الباطني للنظامين حنين يستدعي عثمانية بالنسبة لتركيا وصفوية بالنسبة لإيران لجهة اعتبار التمدد باتجاه ما بعد حدود البلدين أصل من صلب ركائز ديمومة نظام

 الحرس الثوري أعلن إخماد »الفتنة« في البلاد
الحرس الثوري أعلن إخماد »الفتنة« في البلاد

الولي الفقيه في طهران كما نظام حزب العدالة والتنمية في أنقرة. كما أن عقلية الأمن الاستراتيجي لإيران وتركيا لا ترتبط بالمصالح التقليدية التي تشبه مصالح أي دولة في العالم، بل تتصل بأمن وأمان النظام السياسي نفسه، بحيث يتماهى أي اعتراض داخلي مع »مؤامرات« خارجية يحيكها أعداء البلاد. ولا غرابة في أن تعتبر أنقرة أن العدو »الوحيد« للنظام التركي )فتح الله غولن( يقبع في بنسلفانيا في الولايات المتحدة، فيما ترتاح منابر النظام في إيران إلى استنتاج أن »الهبّة« الراهنة هي من صناعة أميركية خالصة تؤكدها تغريدات الرئيس ترامب في هذا المضمار.

ويبرز الموقف الروسي، الشريك الثالث مع تركيا وإيران، في عملية أستانا بشأن سوريا، بصفته واجهة لحالة الارتباك التي تهدد كل المقاربة الروسية اللافتة في الشرق الأوسط. تطل موسكو، كما حال أنقرة، متضامنة مع طهران مصادقة على روايتها ومصدقا لقراءتها للحدث. ولئن بدا لأي مراقب أي تباين على المدى الطويل في أجندات إيران وروسيا في المنطقة، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين امتطى حصانه في المنطقة معوّلا على حلف حقيقي مع إيران ظهرت فعاليته في تلك الشراكة الملتبسة داخل الميدان السوري.

صحيح أن روسيا الحالية هي مولود غير شرعي للثورة البلشفية لعام 1917، وصحيح أن بوتين نفسه ربيب مؤسسات الاتحاد السوفياتي التي أفرزتها تلك الثورة، إلا أن موسكو لم تحب يوما الثورات داخل فضائها ولم تتردد في قمع أي حراك داخل بلدان أوروبية جالت في مساراتها، كما لم تحب، للمفارقة، أي ثورات في أي بلد لا تخضع إيقاعاته لحسابات الكرملين. ولئن كرهت روسيا »ربيع« العرب وجاهرت في مواجهته، فإن التطور الإيراني الطارئ لا يخرج عن عقائد رجل الكرملين ولا عن فلسفة السياسة الخارجية الروسية التقليدية والمستجدة في العقدين الأخيرين.

واللافت أن أوروبا التي روّجت لثورة روح الله الخميني ضد الشاه ومنحته منابر دولية أطل منها على العالم كما على الإيرانيين، لا تُبدي أي حماس حيال ما يجري في إيران. تجمع عواصم الاتحاد الأوروبي على »التعبير عن قلق« و»الدعوة إلى الحوار الداخلي« لاستيعاب الموقف وامتصاص ذلك الحراك الغامض. ولا تبدو الرصانة الأوروبية تنهل من الطابع الغامض لتلك التظاهرات فقط، بل أن العواصم الأوروبية لا تريد لذلك الغموض أن ينجلي وتريد بقاءه مبررا لهذا الحذر والتحفّظ اللذين يشوبان موقف باريس ولندن وبرلين وغيرها.

فإذا ما أعلن الاتحاد الأوروبي معارضة موقف الرئيس الأميركي والعزم على التمسك بالاتفاق النووي، فإنه ليس من مصلحة أوروبا أن ينهار نظام صارت تعرفه وتُحسن التعامل معه، ولا يملك الاتحاد في عزّ أزمته الراهنة بسبب البريكست البريطاني أن ينخرط في التعامل مع فوضى وعبث قد تبثهما الأورام الإيرانية.

ولا يجب تغييب الجانب الاقتصادي عن موقف الأوروبيين إزاء طهران. فالدول الأوروبية تدافعت عقب التوقيع على الاتفاق النووي مع مجموعة 5+1 عام 2015 على أبواب طهران للحصول على عقود تنهل من السوق الإيراني الكبير. والثابت أن الموقف الأميركي المتحفّظ على أي انفتاح مفرط مع إيران، حتى في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، هو ما كبح قفز الأوروبيين نحو الشريك الإيراني الواعد. وبالتالي فإن التهدئة التي تمارسها أوروبا تروم الحفاظ على الأسواق الإيرانية وحماية مداخلها المستقبلية التي كان من المفترض أن يجسّ الرئيس الفرنسي

الرئيس الفرنسي دعا إلى الهدوء والحوار
الرئيس الفرنسي دعا إلى الهدوء والحوار

إيمانويل ماكرون نبضها في زيارة ستطيح بها رياح مشهد ومدن إيران الغاضبة.

وللمفارقة أنه في 16 يناير من العام الماضي أعلن أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، أن طهران لا تسعى إلى إسقاط النظام في السعودية وذلك، وفق تحليله، لأن احتمالا كهذا »يؤدي إلى تقسيم السعودية وسيطرة الفكر المتطرف الداعشي المنحط على أجزاء مهمة من السعودية«. وللمفارقة أيضا أن المزاج السعودي الرسمي )كما الخليجي( الذي لطالما عبّر عن عداء شديد للنظام الإيراني وسلوكه، لا يبدو أنه سيكون مغتبطا لسقوط نظام طهران. صحيح أن الخطاب الرسمي لم يفصح عن طبيعة الرؤى السعودية حول الحدث الإيراني، إلا أن حناجر وأقلاما قريبة من كواليس القرار في الرياض جاهرت بالتعبير عن أن لا مصلحة سعودية أو خليجية بانهيار النظام في طهران.

تختلف حيثيات المواقف الدولية وحوافزها في إبعاد فرضية سقوط النظام الإيراني، بيد أن ويلات »الربيع« العربي في جانبيه المدمر للحجر والبشر، بما ذلك قذفه علل الهجرة والإرهاب إلى قلب العالم، توفّر قاسما دوليا مشتركا صلبا لعدم صبّ الزيت فوق النيران الإيرانية. فإذا ما توجّس الخليجيون من برنامج إيران النووي في جانبيه الأمني والبيئي المطلّ مباشرة على يومياتهم، فإن أي أزمة كبرى في إيران قد تتحول إلى كارثة زاحفة يكفي لها أن تعبر مياه الخليج.

ما يحدث في إيران هو جدل إيراني داخلي بيتي يحاسب نظاما حكم البلاد منذ عام 1979. الإيرانيون يهزون بقوة أعمدة هذا النظام ويَصبون إلى إصلاح يحسّن عيشهم، عواصم المنطقة تطمح إلى تغيير جذري في شخوص وفلسفة ومفاصل النظام يسحب فتائل من ملفات مشتعلة، فيما يسعى العالم للتأمل من بعيد لعل في تلك العاصفة ما يحمل نسمات ربيع حقيقي. يبقى أن حسابات ماكيافيلي العقلانية العتيقة لم تتوافق يوما مع إرادة التاريخ.

على أية حال فإن الحدث الإيراني لا يخص الإيرانيين وحدهم بل أن ملفات عديدة بالمنطقة متأثرة مباشرة بالتحولات الداخلية المحتملة في هذا البلد. يصعب على المحللين استشراف المستقبل الإيراني، ذلك أن مفاجآت كثيرة داهمت المعلقين بانتخاب ترامب في الولايات المتحدة وبفوز البريكست في بريطانيا وببروز خطر كوريا الشمالية. العالم لم يعد يحب المفاجآت وهو يكره تلك الآتية من إيران

واللافت أن أوروبا التي روّجت لثورة روح الله الخميني ضد الشاه ومنحته منابر دولية أطل منها على العالم كما على الإيرانيين، لا تُبدي أي حماس حيال ما يجري في إيران. تجمع عواصم الاتحاد الأوروبي على »التعبير عن قلق« و»الدعوة إلى الحوار الداخلي« لاستيعاب الموقف وامتصاص ذلك الحراك الغامض. ولا تبدو الرصانة الأوروبية تنهل من الطابع الغامض لتلك التظاهرات فقط، بل أن العواصم الأوروبية لا تريد لذلك الغموض أن ينجلي وتريد بقاءه مبررا لهذا الحذر والتحفّظ اللذين يشوبان موقف باريس ولندن وبرلين وغيرها.

 ترامب يغرد دعما للاحتجاجات ومؤسسات واشنطن متحفظة حذرة
ترامب يغرد دعما للاحتجاجات ومؤسسات واشنطن متحفظة حذرة

وللمفارقة أنه في 16 يناير من العام الماضي أعلن أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي شمخاني، أن طهران لا تسعى إلى إسقاط النظام في السعودية وذلك، وفق تحليله، لأن احتمالا كهذا »يؤدي إلى تقسيم السعودية وسيطرة الفكر المتطرف الداعشي المنحط على أجزاء مهمة من السعودية«. وللمفارقة أيضا أن المزاج السعودي الرسمي )كما الخليجي( الذي لطالما عبّر عن عداء شديد للنظام الإيراني وسلوكه، لا يبدو أنه سيكون مغتبطا لسقوط نظام طهران. صحيح أن الخطاب الرسمي لم يفصح عن طبيعة الرؤى السعودية حول الحدث الإيراني، إلا أن حناجر وأقلام قريبة من كواليس القرار في الرياض جاهرت بالتعبير عن أن لا مصلحة سعودية أو خليجية بانهيار النظام في طهران.

تختلف حيثيات المواقف الدولية وحوافزها في إبعاد فرضية سقوط النظام الإيراني، بيد أن ويلات »الربيع« العربي في جانبيه المدمر للحجر والبشر، بما ذلك قذفه علل الهجرة والإرهاب إلى قلب العالم، توفّر قاسما دوليا مشتركا صلبا لعدم صبّ الزيت فوق النيران الإيرانية. فإذا ما توجّس الخليجيون من برنامج إيران النووي في جانبيه الأمني والبيئي المطلّ مباشرة على يومياتهم، فإن أي أزمة كبرى في إيران قد تتحول إلى كارثة زاحفة يكفي لها أن تعبر مياه الخليج.

كادر

وقائع الأزمة الاقتصادية

فاقت نسب التضخم 45، بحسب تقديرات غير رسمية، بينما كان الناخبون يرون في حسن روحاني المخلص من الغلاء الذي استشرى في البلاد قبل عدة سنوات في عهد سلفه أحمدي نجاد.

ونجح الرئيس الحالي تدريجيا في خفض نسب التضخم لتسجل 3.8 في 2016، قبل أن تبدأ رحلة صعود من جديد في 2017.

ويأتي ارتفاع معدلات التضخم في السنوات الماضية تزامنا مع استمرار العقوبات الاقتصادية المفروضة على طهران، التي رفعت عنها شكليا مطلع 2016.

حاول الرئيس روحاني منذ توليه الرئاسة كبح جماح التضخم والقضاء على البطالة، إلا أن الأخيرة كانت صعبة على الرئيس نتيجة شح الاستثمارات.

وتعرض الاقتصاد الإيراني خلال سنوات العقوبات الاقتصادية إلى تراجع حاد في استثمارات أجنبية عديدة، بينما لم تكف الاستثمارات المحلية لخفض نسب البطالة.

وأعلن وزير الداخلية الإيراني عبد الرضا رحماني فضلي في أكتوبر/تشرين الأول الماضي أن نسبة البطالة في بعض مدن بلاده وصلت إلى 60.

وقال فضلي في تصريحات صحفية إن معدل البطالة الحالي في إيران يفوق 12، بينما وصلت النسبة في بعض المدن -ومنها محافظتا كرمانشاه )الكردية( والأهواز )العربية( وبلوشستان- إلى 60.

وفي كانون الثاني/نوفمبر الماضي، أعلنت إيران موازنة العام المالي 2018 بقيمة إجمالية تبلغ 341 مليار دولار، دون عجز، بحسب ما أوردته وكالة فارس.

وتتضمن الموازنة تعزيز الإيرادات عبر رفع أسعار الوقود بنسب تصل إلى 50، ورفع الدعم عن العائلات الفقيرة بنسب متفاوتة.

وبدا واضحا أن ذلك الدافع الرئيسي وراء خروج الإيرانيين والاحتجاج في الشوارع، في وقت فشلت فيه الحكومة في احتواء نسب التضخم وخفض نسب البطالة.

وتحتاج السوق الإيرانية لخفض نسب البطالة إلى ثمانمئة ألف فرصة عمل جديدة سنويا، وهو أمر غير ممكن حاليا.

إلى جانب العقوبات، فإن من أسباب عدم نجاح الحكومة في النهوض بالواقع الاقتصادي عاملين:

العامل الأول كان في سوء الإدارة في عملية توظيف وتهيئة فرص العمل في المدن الإيرانية المختلفة، إذ صرح وزير الداخلية الإيراني عبد الرضا فضلي بداية الأزمة الاقتصادية بأن عدد العاطلين عن العمل يتجاوز النسبة المعلنة، التي هي بحدود 12.

العامل الثاني الذي أسهم في جعله سببا رئيسيا وخفيا في تصاعد النقمة الشعبية على ممارسات النظام، هو ما صرح به الرئيس روحاني عند الحديث عن الميزانية السنوية في فبراير/شباط من العام الماضي.

ويدرك المطلعون أن الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في إيران، كانت موجهة بصورة مطلقة ضد النظام العام في البلد، وليس فقط ضد الفساد المالي والوظيفي والطبقي بصورة منعزلة.

ومدينة مشهد التي شهدت احتجاجات واسعة في الأيام الماضية، هي ثاني أكبر المدن الإيرانية، وتتمتع بمزايا لا تتوفر لغيرها من المدن، فهي مدينة تعتمد بشكل مباشر على السياحة الدينية لوجود ضريح الإمام الرضا.

وتأثرت المدينة بأحداث مهاجمة السفارة السعودية في طهران، وقطع السعودية علاقاتها مع إيران إثر الهجوم، حيث توقفت الرحلات والزيارات الدينية التي كانت تقوم بها أفواج الزائرين من بلدان الخليج العربي والجزيرة العربية.

ويمكن إضافة سببين آخرين: أولهما أن البنوك التي أعلنت إفلاسها في إيران مؤخرا جلها من مدينة مشهد، ففقد كثير من أهالي المحافظة أموالهم، في حين لم تقم الحكومة الإيرانية بتعويض المتضررين.

والسبب الثاني قد يكون في خسارة 160 ألف عائلة مشهدية أموالها في مشروع شانديز السكني، عبر عملية احتيال واسعة، تشير أصابع الاتهام إلى تورط مسؤولين متنفذين بالنظام فيها.

*صحافي وكاتب سياسي لبناني