مقاربات دراسات المستقبلات: الخصائص الهيكلية

ا. د. مازن الرمضاني*

يحظى مفهوم المنهج باتفاق شبه عام بشان مفهومه. لذا نرى، مع المستقبلي الأمريكي ويندل بل انه:  »… الطريقة التي يفظي الإستخدام المنظم لإجراءاتها التقنية إلى تحقيق شئء ما مرغوب به«.

وانطلاقا من تماثل مفهومي المنهج والطريق من حيث الدالة المعرفية، نرى أن إستخدامنا لتسمية المقاربة لا تتناقض واياهما، سيما وأن جميع هذه المفاهيم تلتقي في قاسم مشترك هو انتاج المعرفة.

ومنذ بدء إنطلاق التفكير العلمي في المستقبل، حوالي منتصف القرن الماضي، والعديد من المقاربات المنهجية يتم توظيفها لترجمة هذا التفكير الى واقع عملي ملموس. ويؤكد ويندل بل، ان هذه المقاربات توزعت على مستويين: الاول و يفيد بمقاربات تم ابتكارها من قبل مستقبليين دعما لإستشراف مستقبلي دقيق، ومثالها تقنية دلفي. واما عن المستوى الثاني، فهو يعبرعن مقاربات تمت استعارتها من العلوم الصرفة، والإنسانية، والإجتماعية الاخرى. ومثالها علوم الرياضيات، والاحياء، والهندسة، والإحصاء، وادارة الاعمال، والتاريخ، والإجتماع، والسياسة، وعلم النفس، وغيرذلك.

وتجدرالإشارة الى ان المقاربات الُمبتكرة لم تترّدد هي أيضا، عن الإستعانة بمقاربات مستعارة من علوم اخرى دعما لمخرجاتها. فمثلما استعانت مقاربة بناء المشاهد بالمقاربات المستخدمة في علوم التاريخ، والإجتماع، والرياضيات كذلك لم تتردد مقاربة تقنية دلفي عن توظيف المقاربات المستخدمة من قبل علوم النفس، والإجتماع، والرياضيات. والشىء ذاته ينسحب على مقاربة النماذج العالمية التي استمرت تنهل من مقاربات علوم الإجتماع، والرياضيات والإحصاء.

ان الإستعانة بمقاربات منهجية مستعارة من علوم اخرى لا يُرد الى الخصائص التي تتميز بها هذه العلوم فحسب وانما ايضا الى ادراك شائع بين المستقبليين مفاده ان توظيف هذه المقاربات يفضي الى دعم انتاجهم العلمي بما يجعله اكثر دقة بعنصر مهم مضاف….

 على ان هذه الإستعانة التي اخذت اشكالا افقية وعمودية، تمت ضمن اطار الحرص على خصوصية دراسات المستقبلات كحقل معرفي هادف. وبهذا الحرص تتماهى هذه الدراسات مع حقول معرفية اخرى، كالعلوم السياسة والإقتصاد والإجتماع. فجميع هذه العلوم وسواها عمدت الى الشىء ذاته ولكن دون ان يؤدي ذلك الى التاثير سلبا في خصوصيتها في الاقل.

وانطلاقا من مخرجات تطورها المنهجي عبر العقود السابقة، يؤكد فيندل بل: أن دراسات المستقبلات أضحت تقترن بثراء منهجي صار يتيح لها أنجاز غايتها المباشرة: إستشراف مشاهد المستقبل الممكنة والمحتملة والمرغوب فيها بجهد أيسر ومخرجات ادق بالمقارنة مع واقعها الذي كان خلال زمان بداية إنطلاقتها.

وعندنا يُعد هذا الثراء المنهجي محصلة لتاثير عدد من المدخلات المهمة. ولعل ابرزها الاتي:

فمن ناحية لقد بدأت دراسات المستقبلات وتطورت في عالم الشمال إلا أن امتدادها اللاحق إلى دول عالم الجنوب أفضى إلى أن تكون ظاهرة عالمية. إن هذا الواقع لم يؤد إلى مجرد إنتشار المستقبليين على شتى انحاء العالم وبخلفيات ثقافية ورؤى فكرية واهتمامات علمية و/أوعملية متنوعة فحسب وأنما أيضا إلى أن تشهد هذه الدراسات في عدد من الدول الاسيوية ولاسيما تلك المتقدمة وكذلك السائرة في طريق النمو انطلاقة واعدة تدعمها استجابة رسمية واسعة. ومن هنا راى مستقبلييون أن دراسات المستقبلات ستقترن لاحقا بنكهة أسيوية.

وأما من الناحية الثانية تجدر الاشارة إلى أن دراسات المستقبلات انطلقت خلال تطورها من أنماط مختلفة من التفكير أفضت بدورها إلى الاحذ بمقاربات منهجية تماهت وهذه المضامين. وقد تفاعل هذا المُدخل من تطلع رما إلى الحد من العزلة النسبية بين مستقبليين تميزت ثقافاتهم بالتعدد وتجاربهم بالتنوع سبيلا لتامين مستويات متعددة من التفاعل تحقق الإستفادة المتبادلة. وقد ادت مخرجات هذا التفاعل إلى تطوير منهجي مبدع للمقاربات المستخدمة.

إن تاثير هذه المدخلات وسواها أدت إلى أن تتمتع، جغرافيا هنا وهناك، بعض المقاربات بإستجابة وانتشاراوسع من سواها. فمثلا يتجه العديد من المستقبليين في الدول الناطقة باللغة الفرنسية، وكذلك في جل عالم الجنوب إلى تفضيل الإستعانة بمقاربة بناء المشاهد على سواها. ومثال ذلك تبني دراسات عربية رائدة ذات مضمون مستقبلي لهذه المقاربة. ومنها دراسة: مستقبل الامة العربية: التحديات والخيارات وكذلك دراسة: مستقبل مصر عام 2020.

 وقد ادى انتشار دراسات المستقبلات على الصعيد العالمي الى أن يعمد مستقبليون الى تصنيفها ولغايات تكمن، على الارجح، في التطلع إلى نشر المعرفة بمضامينها والتعريف باجراءات توظيفها. وقد تباينت معايير التصنيف وتنوعت. وبدون الدخول في التفاصيل نرى ان توزيع هذه المقاربات إلى إتجاهية ومعيارية وتكاملية يُشكل الإطار العام الذي يندرج بداخله الواقع الراهن لجل مقاربات هذه الدراسات.

لقد ادى التطور الذي مرت به دراسات المستقبلات خلال اكثر من خمسة عقود إلى أن تتميز أنماط التفكير في المستقبل بخصائص هيكلية محددة ولكن متباينة.

فإبتداءا، تميزت المرحلة الاولى من مراحل تطور هذه الدراسات بإنتشار رؤية فكرية قديمة الجذور. ويشرح المستقبلي الأمريكي، إدوارد كورنيش، مضمون هذه الرؤية بالقول إنها أدركت  »… المستقبل ينشأ من الماضي ويكون في الوقت ذاته، محكوما به«. واتساقا مع مضمونها تبنى العديد من المستقبليين الأمريكيين خصوصا مقاربات منهجية جعلت من التنبوء بالمستقبل، الاحسن أو الاسوء، أساسا لها. وتُعد المقاربة الاتجاهية، بانواعها، من بين ابرزها.

وتنطلق هذه المقاربة من المعرفة المتاحة في الحاضرعن كيفية التطور التاريخي لموضوع محدد سبيلا لتحديد الإتجاه )بمعنى المسار( الاكثر وضوحا وأهمية والذي أقترن به في ماضيهذا الموضوع، ومن ثم إسقاط هذا الإتجاه على المستقبل للتنبوء كميا )رياضيا( بالمشهد الذي سيقترن به في المستقبل.

وتبعا لذلك تفترض هذه المقاربة أن التغيير الذي تمت ملاحظته في الماضي سوف يستمر ممتدا إلى المستقبل على وفق ذات الحركة الدائرية والوتيرة المتكررة. ومن أجل استشراف المستقبل يصار إلى توظيف أدوات جلها كمية كالبيانات الرقمية، والحسابات الرياضية والقياس والمعادلات وغير ذلك.

وعلى الرغم من استمرار توظيف هذه المقاربة على المستويين الجزئي والكلي إلا أنها منتقدة. فمثلا قيل  » إن توظيفها بكفاءة يشترط توافر معلومات شاملة ودقيقة ليس فقط عن تلك المتغيرات التي تفضي مخرجاتها إلى اقتران موضوع ما باتجاه محدد وأنما أيضا عن مدى توافرالحاضر على مؤشرات تفيد باحتمالية امتداد هذه المتغيرات الى المستقبل فضلا عن استمرار تاثيرها. لذا أكد المستقبلي الامريكي تيودور جي كاردن، أن ضألة توافر مثل هذه المعلومات والمؤشرات في الحاضر لابد أن تفضي إلى أن تكون مخرجات هذا المقاربات أما خاطئة، أو مضللة أو غير ذات صلة.

على أن استمرار الاخذ بهذه المقاربة لم يحل دون تراجعها ومنذ زمان يعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومما ساعد على ذلك الاخذ برؤية أخرى تناقض مضمونها والرؤية الحتمية والاحادية للمستقبل. ففي فرنسا خصوصا برزت رؤية تاثرت بالفلسفة الوجودية لسارتر والتي قالت إن المستقبل لا يقبل الإنغلاق على صورة حتمية واحدة وأنما يتميز بالإنفتاح على صور بديلة ومتعددة. ويُعد مفهوم المستقبل المنظور الذي ابتكره المستقبلي الفرنسي غاستون برغيه في القرن الخامس من القرن الماضي أساس هذه الرؤية.

ولاصالتها يؤكد إدوارد كورنيش، أنها عُدت  »… تحولا هاما في وجهة النظر الغربية المعتادة عن المستقبل«. وجراء تاثيرها انتقلت دراسات المستقبلات من التنبوء بالمستقبل إلى إستشراف المستقبلات البديلة وبمخرجات أدت إلى الاخذ بمقاربات منهجية تتماهى واياه. وقد جرت العادة على تسميتها بالمقاربات المعيارية.

وتختلف هذه المقاربات عن سواها الإتجاهية على صعيدين أساسيين: أولهما، السعي إلى تصميم صورة للمستقبل المرغوب فيه انطلاقا من آليات كيفية، كالحدس و/أوالتخمينات و/أو التقيمات والرؤى والاحكام الشخصية الانطباعية، وما شابه ذلك. وثانيهما الإخذ بآلية الرجوع إلى الحاضرلإستكشاف كمية ونوعية التغيرات التي ينبغي حدوثها لتشكيل صورة المستقبل المرغوب فيه وبضمن ذلك الدعوة إلى تبني سياسات محددة لتسهيل تحقيق المنشود.

و تًعد المقاربات المعيارية هي الاخرى، مجدية خصوصا عندما يتم توظيفها لإستشراف مستقبلات مواضيع تفيد بها مؤشرات كيفية ومثالها الصراعات الداخلية والدولية. بيد انها عندما تغرق في توظيف متغيرات ذاتية فأنها تفقد خصائص الموضوعية والدقة العلمية.

وكذلك تتباين المقاربات الإتجاهية والمعيارية من حيث غاياتها ولياتها المنهجية.

فأما عن المقاربات الإتجاهية، فهي تنصرف الى استشراف المشهد المستقبلي انطلاقا من حقائق الماضي ومعطيات الحاضر. ولهذا الغرض فإنها تستعين بآلية منهجية تتأسس على، اولا على تتبع التطور التاريخي لموضوع الاهتمام لتحديد الإتجاه )بمعنى المسار( الذي اقترن به في زمان الماضي، وثانيا اسقاط هذا الاتجاه الممتد عبر زمان الماضي على المستقبل، بمعنى سحب ما كان على ما سيكون للتنبوء بالمشهد المستقبلي الاكثر احتمالا. ومن اجل ذلك فأنها تستخدم عادةّ ادوات متعددة ذات طبيعة كمية

واما عن المقاربات المعيارية فأنها ترمي اساسا الى استشراف صورة المستقبل المرغوب فيه. ومن اجل ذلك فأنها تنطلق من الية منهجية تتأسس على: اولا تصميم صورة المستقبل المنشود وتحديدها عبر توظيف ادوات كمية متعددة. وثانيا، توظيف الية للبحث عن تلك المعطيات في بيئة موضوع الاهتمام التي تسهل تحقيق صورة المستقبل المنشود وبضمنه الدعوة الى تبني سياسات محددة لهذا الغرض.

وتفيد الالية المستخدمة لإنجاز هذا الغرض إنها من نوعين

فأما عن الاول، فهو بالغ التبسيط يكمن في مجرد إستطلاع رأي أحد الخبراء، أو مجموعة منهم، بشأن مستقبلات موضوع محدد أو أحد جوانبه. ولا تجد هذه الالية قبولا لدى المستقبليين المحترفين. ويفسر المستقبلي الأمريكي إدوارد كورنيش ذلك بقوله:  »… إن الراي الواحد قد يكون مضلالا أو منحازا«

 وتاثرا بآلية الإستشراف عبر الخبير أو الخبراء تم تطوير آلية اخرى عمدت إلى استبدال الخبراء بالرأي العام المحلي لاستطلاع أولوياته بشأن المستقبل وذلك عبر تكرار طرح اسئلة محددة عليه وتكرارإعادة إجاباته إليه حتى يتم الوصول إلى نوع من الاجماع على أفضلية محددة بشأن المستقبل. وتنطوي هذه الالية على إيجابيات قوامها دمقرطة عملية إستشراف المستقبل. بيد أن سلبياتها تتماهى والمأخذ على مقاربة الإستشراف عبر الخبير أو الخبراء أي بالسطحية والإفتقار إلى الموضوعية والدقة العلمية.

وأما عن النوع الثاني من المقاربات المعيارية فهو الذي يستعين بإجراءات تتميز بقدر عال من التعقيد. ومثالها مقاربة واسعة الإنتشار، هي مقاربة دلفي، التي تستند إلى عملية قوامها تكرار التفاعل الهيكلي غير المباشر بين الخبراء من خلال جولات متعاقبة زمانا ومتجددة مضمونا، هذا سبيلا لتأمين إجماع كافة أو أغلب هؤلاء الخبراء على رأي محدد بشأن مشاهد المستقبل. وسنتناول هذه المقاربة المهمة وواسعة الإنتشار في مقال لاحق.

ونرى ان الآلية التي تعتمدها المقاربة المعيارية تتماهى في العموم والنشاط الذي يمارسه الإنسان خصوصا الذي يعمد الى تحديد اهداف مستقبلية محددة يوليها أهمية خاصة، ومن ثم يسعى لاحقا الى انجازها عبر اداة او ادوات يختارها من بين تلك التي تعبرعن نوعية قدراته وامكاناته.

وعلى الرغم من التباين النسبي بين المقاربات الإتجاهية والمعيارية وأدواتهما الكمية والكيفية، الا ان هذا التباين لم يٌعد حادا مثلما كان خلال زمان بداية انطلاقة دراسات المستقبلات. ومما ساعدعلى ذلك أن التمايز بين ما يُعد كميا وما يُعد كيفيا هو تمايز في الدرجة وليس في النوع، أي ليس قاطعا.

إن توظيف دراسات المستقبلات لمقاربات منهجية تنطلق من أنماط محددة من التفكير الإتجاهي والمعياري لم يحل، ومنذ ما قبل عقد التسعينيات من القرن الماضي دون إتجاه هذه الدراسات نحو التكامل المنهجي. ومما ساعد على ذلك مخرجات عقود من التجربة. فمحصلتها أفضت إلى تبلور رؤى مشتركة بين المستقبليين ادركت جدوى تحقيق تكاملهما المنهجي، وبالتالي تعظيم استفادتهم المتبادلة. وتكمن أبرز هذه الرؤى في الآتي مثلا:

فمن ناحية أدرك مستقبليون أن الإنطلاق من تاثير متغير محدد، كالتكنولوجي أو الاقتصادي أو الإجتماعي أو السياسي الخارجي أو مجموعة منها فقط لا يساعد على انجاز دراسة مستقبلية ذات مصداقية، سيما وأن المستقبل يُعد محصلة لتاثير تشكيلة متنوعة من المتغيرات الاساسية. ومن هنا يأتي التاكيد على جدوى الانطلاق من رؤية شاملة لتاثير هذه التشكيلة.

وأما من الناحية الثانية تنطوي طبيعة الموضوع المراد إستشراف مشاهد مستقبله على تاثير في اختيار المقاربة المناسبة لدراسته. ومن هنا تعددت المقاربات. فبينما تستدعي مثلا مواضيع الصراع الاجتماعي والدولي الاخذ بأحدى المقاربات الكيفية، يتطلب موضوع تحديد عدد سكان أحدى الدول في المستقبل مثلا الإستعانة بأحدى المقاربات الكمية.

ومع ذلك أدت سمات اللايقين والتعقيد التي يتميز بها عالم اليوم إلى تبلور رؤية افادت أن إنتاج إستشراف أكثر دقة ورصانة يتطلب الإستعانة بالإجراءات التقنية لعدد من المقاربات المنهجية، سيما وأن مثل هذه الإستعانة تعُد ضرورية لتوليد الإساس المعرفي لكل إستشراف مستقبلي.

وعلى الرغم من تطور دراسات المستقبلات بنسغ صاعد إلا أن هذا التطور لم يرتق بها إلى مستوى مخرجات العلوم الصرفة والتطبيقية. ومرد ذلك يكمن أساسا في أن معرفة ما قد يؤؤل إليه المستقبل وعلى نحوٍ مؤكد وقاطع تبقى مشكلة إنسانية عصية عن الحل.

ومع ذلك تبقى هذه الدراسات على قدر عال من الاهمية والضرورة القصوى. وغني عن القول أن حتى فشل بعضها ينطوى على فائدة هذا لدورهذا الفشل في إنارة الطريق نحو الافضل. وبهذا الصدد قال المستقبلي الأمريكي المشهور الفين توفلر:  »… في معالجة أمور المستقبل… لا تحتاج الرؤى إلى أن تكون صحيحة مائة في المائة لتكون مفيدة… )فحتى( الاخطاء لها فوائدها. إن الخرائط التي رسمها للعالم جغرافيو العصور الوسطى كانت أبعد ما تكون عن الدقة وكانت مليئة بالاخطاء… ولكن من دونها لم يكن من الممكن لعظماء المكتشفين أن يكتشفوا الدنيا الجديدة بل لم يكن من الممكن أن تُرسم الخرائط الحديثة والاكثر دقة«.

*إستاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات