تركيا: مغادرة القمم – أردوغان يواجه أخطر أزمة اقتصادية منذ تولي حزبه السلطة

محمد قواص *

قد يمكن القول إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتولى التصدي لعلل الاقتصاد في بلاده بعلاجات هي أشبه بالتعويذات الروحية التي لا تؤثر في لوحة المعدلات والإحصاءات والمنحنيات البيانية لقطاعات الإنتاج في تركيا. والرجل الذي بنى أمجاده وأمجاد حزبه على ما حُقق من نقلة اقتصادية نوعية لتركيا بعد الوصول إلى السلطة عام 2002، يتأمل كل يوم انهيارا يضع تركيا ونظامه السياسي في موقف حرج يهدده كما يهدد الاستقرار في بلاده.

يربط أردوغان الانهيار غير المسبوق في أسعار العملة التركية بالتوتر الحاصل مؤخرا في علاقات تركيا بالولايات المتحدة. يحوّل الرجل أزمة الإدارة الاقتصادية التي تتحمل مسؤوليتها حكومة حزب العدالة والتنمية ويتحمل وزرها الأكبر قرارات وسياسات اعتمدها أردوغان شخصيا، إلى »قضية وطنية« في مواجهة »مؤامرة أميركية« ضد بلاده. وقد يجوز هنا التساؤل حول نجاعة اقتصاد تنهار عملته وترتبك قطاعاته بمجرد أن تفرض واشنطن عقوبات على وزيرين تركيين وترفع من تعرفتها الجمركية ضد قطاع انتاجي تركي واحد هو الفولاذ والألمنيوم.

ليس في الأمر أي عجب. لا ترتبط الأزمة النقدية الحالية بالعقوبات الأميركية ولا بتدهور العلاقات بين واشنطن وأنقرة. لا بل إن الأزمة بنيوية لم يفعل التوتر الأميركي التركي إلا منح أردوغان ورقة يتلطى خلفها مواراةً لسوء إدارة معطوفا على فساد ومحسوبيات تتغذى من أجواء سياسية متوترة منذ محاولة الانقلاب في يوليو عام 2016.

يعرف الاقتصاديون أن »الإجراءات الضرورية« التي أعلن عنها المصرف المركزي التركي لن تستطيع كبح جماع الانحدار في قيمة الليرة التركية. ويعرف الاقتصاديون أن عملة البلد ليست سوى مؤشر للعافية الاقتصادية التي تعاني من إجهاد حقيقي منذ عامين على الأقل. فأن

تعليق: هل انهارت آمال أردوغان في الحنين إلى عثمانية جديدة؟

يتجاوز سعر الدولار عتبة الـ 7 ليرات، فذلك انهيار قياسي لم يستشرفه أردوغان وحزبه الحاكم.

والمشكلة الأكبر أن الشركات التركية كانت استدانت بشكل كبير في الأعوام الأخيرة بالدولار. هذا يعني أن انهيار قيمة الليرة سيفرض على الدائنين صعوبات مالية قد تمنعها من تسديد مستحقاتها. أمر كهذا يهدد بإفلاس جماعي يضع كل النظام الاقتصادي في خطر. لكن ماذا حصل في الأشهر الأخيرة حتى تتفاقم الأزمة النقدية الراهنة؟

وصل التضخم إلى معدلات غير مسبوقة منذ عام 2003 )15.39 بالمئة في يوليو الماضي(. يجري الأمر داخل ظروف اقتصادية صعبة يفصح عنها تآكل قيمة الليرة في الأسواق. أمر كهذا أضعف القوة الشرائية للأتراك ورفع معدلات الأسعار على نحو موجع )24.41 بالمئة للنقل و19.4 بالمئة للمواد الغذائية(.

نهل الاقتصاد التركي ازدهاره السابق مما تملكه قطاعاته من ديناميات إنتاجية وتسويقية متراكمة. وليس صدفة أن ينكشف وهن هذا الاقتصاد حاليا مع توجه أردوغان للسيطرة على الاقتصاد. عمل الرجل على ذلك منذ إعادة انتخابه رئيسا يتحلى بصلاحيات مطلقة محضته إياها الإصلاحات الدستورية التي سهر على صياغتها. لم يعد المصرف المركزي التركي الذي يصدر العملة يملك أي استقلالية عن السلطة السياسية. وحين طالب خبراء الاقتصاد ومنابر السوق الرئيس التركي بمواجهة التضخم من خلال رفع أسعار الفائدة، وهو علاج كلاسيكي معروف، أصر أردوغان على رفض الأمر لأسباب تتعلق بالسياسة وليس بالاقتصاد. فحتى حين بشّر المصرف المركزي الأتراك بإجراءاته لم يفصح عن مصير معدلاته.

قبل الغضب الأميركي وعقوبات واشنطن، لم ترتح الأسواق التركية لقرار الرئيس التركي تعيين صهره بيرات البيرق وزيرا للمالية في 9 يونيو الماضي. بات الصهر، إضافة إلى منصبه، يحظى داخل الحكومة التركية بنفوذ متقدم على نحو يعتبر من خلاله رئيس الحكومة الفعلي.

بدا أن أردوغان استدرج واشنطن نحو الغضب الذي تحوّل إلى عقوبات ضد أنقرة. يتساءل الأتراك ما الحكمة من احتجاز القس الأميركي أندرو برونسون الذي عاش في تركيا منذ أكثر من عقدين راعيا لكنيسة القيامة في إزمير؟ ثم كيف استفاقت أنقرة على الرجل »جاسوسا« و»إرهابيا« ينسّق مع حزب العمال الكردستاني؟ ثم ما العبقرية في ربط مصير »الداعية الأميركي المسيحي« في تركيا بمصير »الداعية المسلم التركي« فتح الله غولن في الولايات المتحدة؟ ثم أخيرا هل تملك تركيا مناطحة الولايات المتحدة لتهدد تارة بإهمال الدولار وتارة أخرى بالالتحاق بالشرق متخلية عن تاريخها الأطلسي وتارة ثالثة باستبدال »آي فون« بـ »سامسونغ«؟

خرج القسّ برونسون من سجن بقي فيه عاما ونصف ووضع تحت الإقامة الجبرية. في هذا أعراض تراجع تركي سينتهي حكما إلى إطلاق سراحه طالما أن الأمر أصبح قضية شخصية بالنسبة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، وخصوصا لنائبه مايك بينس المسيحي الإنجيلي الذي ينتمي إلى نفس الكنيسة التي ينتمي لها القس في تركيا. لكن الظاهر أيضا أن أردوغان قد لا يكون مستعجلا على حلّ عقدة القس الأميركي، ذلك أن فك العقدة مع واشنطن لن يعيد للأسواق عافيتها، فمعاقبة وزيرين تركيين ورفع التعرفة الجمركية الأميركية على الفولاذ والألمنيوم ليست أسبابا حقيقة لتوعك الاقتصاد والعملة في البلاد.

الأزمة في عرف أنقرة »مؤامرة«. حتى أن وزارة الداخلية التركية أعلنت أنها تراقب وسائل التواصل الاجتماعي متهمة بعضها بأنها تروج لما من شأنه إضعاف الليرة التركية.

والأزمة في عرف المستثمرين الأجانب ليست كذلك. يذكر هؤلاء أنه في بداية الألفية الثانية تقدمت تركيا بصفتها اقتصادا مزدهرا واعدا. حتى أن صناعة الألبسة في البلاد باتت قطاعا منافسا للصناعات الأوروبية، فما الذي حصل؟

تبدلت طباع النظام وأضحت ملتصقة بطموحات أردوغان الشخصية. جاءت محاولة الانقلاب عام 2016 لترفع من منسوب التوتر الداخلي الذي يمقته الاقتصاد. ثم أن ضرب استقلالية المصرف المركزي، وهو الذي لعب طويلا دور الساهر على الاستقرار النقدي والمالي في تركيا، قلب وضع تركيا من ميدان جاذب إلى أخر طارد للاستثمارات الأجنبية. فكان أن كثيرا من الشركات الاجنبية قررت تحجيم أنشطتها أو الانسحاب نهائيا من السوق التركي بسبب الأجواء السياسية الملتبسة في البلاد.

يتحمل حكم حزب العدالة والتنمية الوزر الأكبر من الأزمة الراهنة للاقتصاد التركي. تتحدث التقارير عن تنامي المحسوبية والفساد من جهة، وعن تراجع في مستوى التعليم الضروري لازدهار أي اقتصاد من جهة ثانية، وعن تسييس المحاكم التي تفصل في نزاعات قطاع الأعمال من جهة ثالثة، ناهيك عن أجواء تخويف داخل الرأي العام لا تحبها الأسواق.

وعلى الرغم مما يشكله انهيار العملة التركية من مؤشر ضعف كبير، إلا أن الأرقام الرسمية التي نشرت عبر المكتب الوطني للإحصاءات حول تلك المتعلقة بالفصل الأول، كشفت أن تركيا سجلت معدل نمو وصل إلى 7.4 بالمئة، ما يضعها في مصاف الاقتصادات الرئيسية العالمية أمام الصين والهند.

غير أن للخبراء رأي آخر. يعتبر هؤلاء أن هذا النمو مصطنع مرتبط مباشرة بالمشاريع الحكومية العملاقة. ذكروا بأن صهر الرئيس، الذي يبحث في عواصم العالم هذه الأيام عن قروض تنقذ تركيا، تحدث بعد تعيينه وزيرا للمالية عن »سياسات اقتصادية جديدة«، إلا أن ذلك لم

لا علاقة للأزمة الاقتصادية التركية بتوتر العلاقة مع واشنطن

يحرر الاقتصاد ولم يطلق ديناميات جديدة له. فإن تنهار الليرة فذلك حدث خطير في وقت تطلق فيه حكومة أنقرة مشاريعها العملاقة بما في ذلك إطلاق برنامج نووي جديد.

بيد أن اللافت هذه المرة أن خطابات أردوغان الأخيرة لا تهزّ أعمدة اقتصاد تركيا فقط، بل أن أسواق المال في العالم ترتعد من احتمال عدوى تصيب اقتصادات ناهضة. تحذر الغارديان والفايننشال تايمز من أن يتسبب فشل أنقرة في تأثير يشبه »مبدأ الدومينو» على اقتصادات أخرى عرضة للخطر.

ولكن بغض النظر عن تقييمنا لما يجري في تركيا، فإن أهل تركيا »أدرى بشعاب« تركيا، ولن يكون »عرب تركيا« أكثر حرصاً على الأتراك وبلدهم. وفي ورشة الردح الجارية حالياً ضد »المؤامرة الصليبية« ضد »تركيا المؤمنة«، أعراض أخرى لمرض قديم جديد لا يهملنا نقرأ فيه حدث اليوم بأدوات وتعويذات الأمس.

لا يمكن لنفس الحدث الحسابي أن ُيلاحظ بأعين متفاوتة وبعدّة متناقضة. للغة الأرقام في حسابات الميزانية والعجز والنمو وسعر العملة مسببات علمية مثبتة لا جدال حولها. وهي في ارتباكها في تركيا منذ سنوات تتأسس على سياسات خاطئة في علم الاقتصاد قد لا تكون بعيدة عن مزاج آخر طرأ على حكم رجب طيب أردوغان وحزبه. وفي البحث عن ترياق للعلّة وعن حلول للمشكلة، فإن الخيارات تقنية والتدابير موضوعية تلجأ الحكومة التركية هذه الأيام إلى بعضها وستلجأ إلى أكثر منها لاحقاً للخروج من دوامة مقلقة. فالأزمة لن توقفها استثمارات قطر الحديثة ولا دعوات أردوغان مواطنيه للتمرد على الدولار والتخلص من لعناته.

وفيما تعرب عواصم أوروبية كما أسواق دولية عن قلقها من تأثر اقتصاداتها بالأزمة في تركيا، تعبر منابر عربية عن خشيتها من أن يكون للأزمة النقدية في تركيا مفاعيل مقوّضة للرعاية التركية لتيارات الإسلام السياسي التي جاهرت في السنوات الأخيرة بإعلان بنيوية بقائها وديموتها بصلابة وجود أردوغان وصحبه على رأس السلطة في أنقرة. بمعنى آخر فإن عواصم العالم ستعمل، صيانة لمصالحها، على مدّ يد المساعدة لإنقاذ الاقتصاد التركي وانتشاله من كبوته، فيما سيُكثر الغيورون العرب من الدعاء لنصرة »الرجل المؤمن« وحمايته من أعدائه الكفار.

لا مصلحة دولية، لا سيما أوروبية، في انهيار الاقتصاد في تركيا. ولا مصلحة لدائني تركيا في العالم أن تتعرض سيولة تركيا لخطر يمنعها من سداد قروض خارجية تراكم حجمها. ولا مصلحة، حتى للولايات المتحدة في أن ترتبك المؤشرات الاقتصادية التركية على نحو يضخ في المنطقة فوضى جديدة تحاول ضبطها وإعادة ترتيبها. يعرف الرئيس أردوغان ذلك، وهو وإن كان ممعناً في إطلاق خطاب شعبوي يمتص به قلق الداخل ويبرر من خلاله مصاب الليرة التركية، يتواصل مع برلين وعواصم أوروبية أخرى ينهل منها الدعم في القول والعمل قبل أن يصبح مجبراً لسلوك الطريق نحو المؤسسات المالية الدولية الكبرى، البنك وصندوق النقد الدوليين.

كان لأسباب الازدهار في الاقتصاد تركي في السنوات الأولى لوصول أردوغان وحزبه إلى السلطة أسباب اقتصادية دقيقة نتجت عن قرارات كبرى في السياسات الداخلية والخارجية للبلد. ربطت أنقرة قوتها الاقتصادية بسلسلة اتفاقات وتفاهمات مع الاتحاد الأوروبي وحررت عوامل الإنتاج والتجارة من كوابحها القديمة وراحت، وفق عقيدة »صفر مشاكل« التي نظّر لها أحمد داود أوغلو، تفتح أسواق المنطقة كما أسواق العالم لمنتجات احترمت والتزمت معايير النظام الاقتصادي الدولي المعولم.

وإذا ما راكم المراقب طباعاً جديدة طرأت على كيفية إدارة أردوغان لحزب العدالة والتنمية كما إدارة الشأن العام في تركيا في السنوات الأخيرة، لأمكن له بسهولة استنتاج كثافة العوامل التي أضعفت مصادر القوة في اقتصاد البلد وتضخم حجم الخلايا المريضة التي بدأت تفتك بالمنظومة الاقتصادية والمالية في البلاد. غاب أحمد داود أوغلو عن المشهد، بات »تصفير المشاكل« من الماضي، وانحرفت أنقرة باتجاه اشتباك متعدد الجبهات في سوريا والعراق، كما ضد روسيا والولايات المتحدة، ورعت تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي بما أثار سخطاً وريبة وخصومة داخل النظام العربي من طموحات رجل تركيا القوي وحنينه العثماني في المنطقة.

غاب الرئيس التركي السابق عبد الله غول. بات هامشاً بعد أن كان في متن الصعود الأردوغاني عام 2002. وغابت عن قيادة الحزب الحاكم وجوه من القادة الذين وطدوا حضور »العدالة والتنمية« داخل قطاعات المال والأعمال، كما أسسوا لفلسفة تعولم تركيا داخل قواعد القرن الواحد والعشرين. صار اقتصاد البلد عاجزاً عن الحفاظ على ديناميات ازدهاره وسيولة انسيابه داخل أسواق العالم في وقت اصطدم فيه الرئيس أردوغان بدول الاتحاد الأوروبي، لا سيما أثناء الترويج داخل أوروبا للاصلاحات الدستورية التي منحته هذه الأيام صلاحيات رئاسية مطلقة.

ليست أزمة الاقتصاد في تركيا حدثاً استثنائيا في هذا العالم. غير أن ما هو أزمة في الأرجنتين أو باكستان أو مصر يعبّر عنه بلغة الاقتصاد ومنطق الأرقام، فيما يريد »عرب تركيا« أن لا يروا في أمر الأزمة في تركيا إلا مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين. بدا أن الأتراك أنفسهم، لا

ما تداعيات تهميش أحمد داوود أوغلو وعبد الله غول

سيما كتلة الحزب الحاكم الناخبة لا ترى في أزمة بلادها ما يراه الأردوغانيون في الخارج.

واجهت القاهرة أزمتها الاقتصادية المزمنة بمجموعة من التدابير والإجراءات الصارمة والقاسية وبالمواكبة الكاملة لصندوق النقد الدولي. »باكستان الجديدة« بقيادة عمران خان تسعى للتخلص من أزمتها بالتوجه إلى طلب عون باكستان والسعودية قبل أن تلجأ ربما إلى صندوق النقد الدولي، فيما يسعى مهاتير محمد في ماليزيا إلى ترتيب علاقاته الاقتصادية مع الصين على الرغم من أن حملته الانتخابية استندت على شن حملة لتخليص البلاد من الانكشاف لبكين وفق خطط سلفه نجيب رزاق.

قد يكون الرئيس الأميركي أكثر المندهشين من قدرات تغريدتين  له على »تويتر« على أحداث هذا الزلزال الاقتصادي في تركيا. لم يحدث ذلك مع كندا ودول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين التي يعاقبها ترامب بوتائر أكثر قسوة في إطار حربه التجارية الشعواء. وقد يكون الرئيس التركي أكثر إدراكاً لما يمكن أن يخسره وما يمكن أن يربحه من إعادة تموضع جديد لبلاده في الداخل والخارج لاستعادة أمجاد اطلالاته الأولى على الحكم في أنقرة.

فقدت تركيا دينامياتها الذاتية بعد أن تنازلت لرئيسها ومنحته صلاحيات مطلقة أطبقت على محركات البلد بما في ذلك الاقتصاد والعملة والمصرف المركزي. في ذلك أن السوق لا يحب إلا نفسه ولن يجاري رئيسا طموحاً يرى تركيا من خلال نفسه وما امتلكه من صلاحيات من أجل ذلك. والظاهر أن »عرب تركيا« يرون في تركيا زعيما يكثفون الدعاء له ولا يرون أتراكاً سيعملون على انتشال بلدهم من نكسته.

لا ترتبط الأزمة النقدية الحالية بالعقوبات الأميركية ولا بتدهور العلاقات بين واشنطن وأنقرة. لا بل إن الأزمة بنيوية لم يفعل التوتر الأميركي التركي إلا منح أردوغان ورقة يتلطى خلفها مواراةً لسوء إدارة معطوفا على فساد ومحسوبيات تتغذى من أجواء سياسية متوترة منذ محاولة الانقلاب في يوليو عام 2016.

استدرج أردوغان واشنطن نحو الغضب. يتساءل الأتراك ما الحكمة من احتجاز القس الأميركي الذي عاش في تركيا منذ أكثر من عقدين راعيا لكنيسة القيامة في إزمير؟ ثم كيف استفاقت أنقرة على الرجل »جاسوسا« و»إرهابيا«؟ ثم ما العبقرية في ربط مصير »الداعية الأميركي المسيحي« في تركيا بمصير »الداعية المسلم التركي« فتح الله غولن في الولايات المتحدة؟ ثم أخيرا هل تملك تركيا مناطحة الولايات المتحدة لتهدد تارة بإهمال الدولار وتارة أخرى بالالتحاق بالشرق متخلية عن تاريخها الأطلسي وتارة ثالثة باستبدال »آي فون« بـ »سامسونغ«؟

قد لا يكون أردوغان مستعجلا على حلّ عقدة القس الأميركي، ذلك أن فك العقدة مع واشنطن لن يعيد للأسواق عافيتها، فمعاقبة وزيرين تركيين ورفع التعرفة الجمركية الأميركية على الفولاذ والألمنيوم ليست أسبابا حقيقة لتوعك الاقتصاد والعملة في البلاد.

ليست أزمة الاقتصاد في تركيا حدثاً استثنائيا في هذا العالم. غير أن ما هو أزمة في الأرجنتين أو باكستان أو مصر يعبّر عنه بلغة الاقتصاد ومنطق الأرقام، فيما يريد »عرب تركيا« أن لا يروا في أمر الأزمة في تركيا إلا مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين. بدا أن الأتراك أنفسهم، لا

ماذا يريد أردوغان من اعتقال القس برونسون

سيما كتلة الحزب الحاكم الناخبة لا ترى في أزمة بلادها ما يراه الأردوغانيون في الخارج.

القس برونسون: المسألة الموجعة

أضاف احتجاز القس الأمريكي أندرو برونسون في تركيا عام 2016، بعداً جديداً للعلاقات المتوترة بين تركيا والولايات المتحدة، وتحول إلى أحد العوامل الرئيسية لتصاعد هذا التوتر.

فبعد محاولة الانقلاب الفاشل في يوليو 2016، وجهت تركيا أصابع الاتهام إلى رجل الدين التركي فتح الله غولن، المقيم في الولايات المتحدة والذي تطلب تسليمه لها بأي ثمن، بينما ترفض الأخيرة ذلك.

وكان برونسون، من بين المعتقلين الذين اتهمته تركيا بالتجسس ومساعدة المنظمات الإرهابية.

وقد هدد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تركيا بفرض عقوبات كبيرة عليها ما لم تطلق سراحه فورا.

ولد برونسون عام 1968. ويعيش في تركيا منذ 23 عاماً، ويرعى كنيسة إنجيلية صغيرة هناك، يبلغ عدد أتباعها 25 شخصا.

ولديه ابنان ولدا في تركيا وكان يتأهب للتقدم بطلب إقامة دائمة في تركيا حسب قول محاميه. نشأ في ولاية كارولينا الشمالية، وهو الأكبر من ضمن سبع إخوة ومن أسرة متدينة جداً.

وقالت والدته إنه »عندما كان صغيراً، كاد أن يموت من مرض عضال، ولذلك السبب منحته للرب«.

وقالت أخته بيث:»كانت حياتنا الأسرية بسيطة للغاية، كنا نموذج الأسرة الأمريكية التي تعيش في أماكن نائية«. وانتقل إلى تركيا في منتصف التسعينيات، واستقر مع زوجته وأطفاله الثلاث في مدينة أزمير. وكنيسة القيامة التي يرعاها، هي من بين عدد قليل من أماكن العبادة المسيحية هناك.

أما الرئيس الأمريكي غرد في حسابه على موقع التواصل الاجتماعي، تويتر، قائلاً: »إنه رجل نبيل وشخصية مسيحية ويتعرض للظلم في تركيا دون سبب«.

وألقت السلطات التركية القبض عليه بتهمة الارتباط بحزب العمال الكردستاني وجماعة فتح الله غولن، اللتان تعتبرهما تركيا منظمات »إرهابية« وهو ما ينفيه محامو برونسون والولايات المتحدة نفيا قاطعا.

وأخلت المحكمة سبيل برونسون في يوليو من العام الحالي، لكن وضعته رهن الإقامة الجبرية. وهذا أغضب الولايات المتحدة لأنها كانت تأمل إطلاق سراحه.

وبحسب » الغارديان«، احتجز برونسون مع 21 سجين آخر في زنزانة مخصصة فقط لثماني أشخاص. وفي حال إدانته، فإنه يواجه السجن لمدة 35 عاماً.

وقال برونسون للمحكمة التي نظرت في قضيته، إنه لا يوجد دليل ملموس ضده، معلقاً: »لقد عانى تلامذة المسيح باسمه، والآن دوري. وأنا رجل بريء من كل هذه التهم وأرفضها، وأعرف لماذا أنا هنا، أنا هنا لأعاني باسم المسيح«.

أما تركيا، فهي مصرة على عدم إطلاق سراحه بسبب التهمة الموجهة إليه وهي الانخراط في أنشطة بالنيابة عن جماعة غولن، وحزب العمال الكردستاني المحظورين في تركيا، بناء على أدلة قدمها شهود لم يفصح عن هويتهم.

ويصر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على أنه لن ينحني لمحاولات واشنطن لتأمين إطلاق سراح برونسون ، رغم العقوبات الأمريكية التي دفعت بالليرة التركية إلى التراجع بشدة مقابل الدولار، وتدهور العلاقات بين البلدين.

وكان أردوغان، قد اقترح في شهر سبتمبر من العام الماضي الإفراج عن برونسون مقابل تسليم واشنطن لفتح الله غولن في صفقة تبادل، لكن الأخيرة رفضت الفكرة ومازالت مصرة على إطلاق سراح برونسون بدون مساومات، وكانت الولايات المتحدة قد أسقطت جميع التهم التي وجهتها إلى الـ 11 من حراس أردوغان الشخصيين الذين اتهموا بالاعتداء على متظاهرين خلال زيارة الرئيس التركي لواشنطن العام الماضي.

خلافات أنقرة وواشنطن

الخلاف الأميركي التركي حول قضية القس برونسون جاء تتويجا لسلسلة من الخلافات حول عدد من الملفات الهامة التي لم تحسم بعد، وينتظر أن تظل مصدرا للتوتر بين الجانبين لفترة طويلة قادمة.

أول هذه الملفات هو الدعم الأمريكي للمقاتلين الأكراد في سوريا، وتحديدا وحدات حماية الشعب التي تمثل القوة الاساسية في قوات سوريا الديمقراطية. ويرجع هذا الدعم إلى اعتماد واشنطن على المقاتلين الاكراد في التصدي لتنظيم داعش من جانب، وحاجتها إلى قوات موالية لها في شمال سورية تتصدى للنفوذ الروسي-الايراني من جانب آخر. غير ان المشكلة أن تركيا تصنف وحدات حماية الشعب على انها منظمة إرهابية بسبب ارتباطها، حسب ما تقول أنقرة، بحزب العمال الكردستاني. وبالتالي كان الدعم الأمريكي للأكراد في شمال سوريا محل انتقادات متكررة من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي تساءل كثيرا في خطاباته عن أسباب دعم واشنطن لمن يصفهم بالإرهابيين في الوقت الذي تطالب فيه واشنطن قادة المنطقة بمكافحة الإرهاب.

ملف آخر مرتبط بسورية يبرز فيه التباين في وجهات النظر بين أنقرة وواشنطن، وهو التنسيق بين تركيا وروسيا وإيران في اطار أتفاق آستانا لخفض التصعيد في مناطق محددة في سورية، هذا علاوة على التقارب الكبير بين موسكو وأنقرة في مجلات حيوية مثل مشاريع الطاقة ومشتريات تركيا من السلاح الروسي، وهو ما يثير حفيظة المسؤولين الامريكيين.

وتبقى مشكلة أخرى معلقة، وهي مشكلة الداعية الاسلامي فتح الله غولن الذي تتهمه السلطات التركية بالضلوع في محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في 15 يوليو2016. وتطالب أنقرة السلطات الأمريكية بتسليم غولن، الذي يقيم في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، وهو ما ترفضه واشنطن. واقترح أردوغان مبادلة غولن مع القس الامريكي، وهو اقتراح ترفضه واشنطن.

وعند الحديث عن محاولة الانقلاب الفاشلة، لا يتوقف الخلاف حول دور غولن في دعم الانقلاب، حسب ما تقول أنقرة، بل تكررت الاتهامات في وسائل الاعلام التركية للمخابرات الامريكية بأنها كانت وراء محاولة الانقلاب الفاشلة، وأن قاعدة »أنجيرليك« الجوية، الموجودة في تركيا والتابعة لحلف الناتو، كانت مركز التخطيط لهذا الانقلاب.

* صحافي وكاتب سياسي لبناني