التشرذم الاقتصادي يتوسع… فهل انتهت العولمة؟

قد يكلف الاقتصاد العالمي ما يصل إلى 7% من الناتج المحلي الإجمالي

عناوين فرعية:

* الاقتصاد العالمي يواجه حالة من عدم اليقين تعززت باندلاع الصراع بين إسرائيل و”حماس”

منظمة التجارة العالمية: التوترات الجيوسياسية تغير التدفقات التجارية

* تضاعفت الحواجز التجارية ثلاث مرات تقريبا منذ عام 2019 إلى ما يقرب من 3000 العام الماضي

بعد عقود من التكامل، يشهد الاقتصاد العالمي تشرذماً متزايداً، مما يجعله أحد أكبر التحديات التي تواجه التعددية وبلوغ الأهداف الاقتصادية المشتركة.

*من سيدفع التكلفة الاقتصادية لعالم مجزأ؟

واليوم، يواجه الاقتصاد العالمي حالة من عدم اليقين والتي عززها اندلاع الصراع بين إسرائيل و”حماس”، وذلك إضافة للحرب المستمرة بين روسيا وأوكرانيا. هذه الصراعات لا تهدد فقط المناطق التي تندلع فيها، بل تهدد بإضعاف الروابط بين أكبر الاقتصادات في العالم، وبالتالي انتهاء العولمة الاقتصادية.

لقد كانت مسألة تنامي المخاطر من التشرذم الاقتصادي ووجوب مواجهته، تتنقل بين الجلسات والتصريحات والمواقف في الاجتماعات السنوية التي عقدها كل من صندوق النقد والبنك الدوليين في مراكش في أكتوبر (تشرين الاول) الماضي والتي هيمن عليها الحديث عن القوى الجيوسياسية التي تشق الاقتصاد العالمي، وذلك  توازياً مع بدء الصراع بين اسرائيل وحركة “حماس”.

حاول صندوق النقد والبنك الدوليان ووزراء مالية العالم ومحافظو المصارف المركزية الذين اجتمعوا في المغرب أن يحددوا التكلفة الاقتصادية لعالم مجزأ.

إنها التكلفة الناجمة عن الجغرافيا السياسية. فهي ليست مجرد تكلفة الحرب فقط. بل أنها تكلفة ناجمة عن الإعانات والعقوبات وقيود التصدير وتعريفات السيارات الكهربائية التي يتم نشرها باسم الأمن القومي وتأثيرها على تدفقات رأس المال والسلع في جميع أنحاء العالم.

يقول صندوق النقد الدولي إنه رغم اختلاف تقديرات تكلفة التشرذم، فإن فرض المزيد من القيود على التجارة الدولية من الممكن أن يؤدي إلى خفض الناتج الاقتصادي العالمي بما يصل إلى 7 في المئة على المدى الطويل، أو نحو 7.4 تريليونات دولار. وهذا يعادل الحجم المشترك للاقتصادين الفرنسي والألماني، وثلاثة أضعاف الناتج السنوي في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

ما هو التشرذم؟

يشير التشرذم الاقتصادي أو التجزئة أو التفتت (fragmentation)، إلى عالم يمكن أن ينقسم إلى تكتلات اقتصادية، تتعامل دولها الأعضاء مع بعضها البعض فقط. وهذا من شأنه أن يكسر التدفق الحالي لرأس المال والسلع والخدمات والأفكار والتقنيات عبر الحدود، ما يؤدي إلى مجتمعات أكثر فقراً وأقل أماناً. وقد يزيد التشرذم من صعوبة مساعدة كثير من من الاقتصادات الصاعدة والنامية التي تعرضت لصدمات عديدة.

كما أن الأشكال الأخرى من التشرذم – مثل الانفصال التكنولوجي، وتعطل تدفقات رأس المال، والقيود المفروضة على الهجرة – من شأنها أن تؤدي أيضا إلى ارتفاع التكاليف.

وكان العاهل المغربي محمد السادس، دعا قبل انعقاد الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين، إلى إعادة النظر في المنظومة المالية العالمية، لتكون أكثر إنصافا لمصلحة الاقتصادات ككل. ولفت إلى أن “العالم يشهد اليوم تشرذماً جيو اقتصادياً وتنامياً للنزاعات السيادية، التي يعزى جزء منها إلى الرغبة في إعادة ضبط موازين القوى الاقتصادية والسياسية على الصعيد العالمي”.

وتظهر أبحاث صندوق النقد الدولي أن التحالفات الجيوسياسية تؤثر بشكل متزايد على الاستثمار الأجنبي المباشر وتدفقات المحافظ الاستثمارية.

ويمكن أن يؤدي تشرذم سوق السلع إلى خلق بيئة عالمية غير مستقرة، مما يهدد الأمن الغذائي والنمو الاقتصادي وتكلفة جهود التخفيف من آثار تغير المناخ.

لاشك أن هناك العديد من العوامل التي تساهم، ولا تزال، في التشرذم منها الحرب الروسية – الأوكرانية التي أدت إلى تشرذم أسواق السلع الأولية وإلى اضطرابات هائلة في التدفقات المالية والمتعلقة بالغذاء والطاقة في كل أنحاء العالم، ودفعت الدول إلى اتخاذ قيود على التجارة؛ وقبلها جائحة كورونا. يضاف إليها بالطبع التوترات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم، الصين والولايات المتحدة، والتي أخذت تتزايد وسط طفرة عالمية من القيود التجارية الجديدة.

التجارة العالمية

تقول منظمة التجارة العالمية إن التوترات الجيوسياسية تغير التدفقات التجارية حيث تحول الدول سلاسل التوريد إلى الحلفاء بدلاً من المصدر الأكثر كفاءة.

وهي تعتبر أن النظام الاقتصادي الدولي بعد عام 1945 بني على فكرة أن الترابط بين الدول من خلال زيادة العلاقات التجارية والاقتصادية من شأنه أن يعزز السلام والازدهار المشترك، محذرة من أن هذه الرؤية اليوم مهددة، وكذلك مستقبل الاقتصاد العالمي.

وتشرح المنظمة بأن السلع الوسيطة التي هي مقاييس لصحة سلاسل التوريد العالمية، انخفضت من متوسط حوالي 51 في المئة خلال السنوات الثلاث الماضية إلى 48.5 في المئة في النصف الأول من عام 2023.

وكانت المنظمة خفضت في أكتوبر (تشرين الأول) توقعاتها لعام 2023 للنمو العالمي للتجارة في السلع إلى 0.8 في المئة، بانخفاض عن توقعات أبريل (نيسان) عند 1.7 في المئة.

واحتسبت المنظمة أن تدفقات تجارة السلع بين كتلتين جيوسياسيتين افتراضيتين — بناء على السياسات الخارجية للدول وفقاً لأنماط التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة- نمت بنسبة 4-6 في المئة أبطأ من التجارة داخل هاتين الكتلتين منذ الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

تفاقم الحواجز التجارية

من الواضح أن هناك حاجة إلى مزيد من التعاون العالمي المتعمد. لكن هناك علامات على أن هذا التعاون يتعثر. إذ تضاعفت الحواجز التجارية الجديدة التي تم إدخالها سنويا ثلاث مرات تقريبا منذ عام 2019 إلى ما يقرب من 3000 في العام الماضي.

وتشير أرقام صندوق النقد الدولي إلى أن حصة واردات مجموعة العشرين المتأثرة بالتدابير التقييدية التجارية زادت من حوالي 2 في المئة عام 2011 إلى ما يقرب من 12 في المئة.

كما نشهد عودة للسياسة الصناعية المتزمتة، حيث تشير البيانات المتاحة إلى أنه منذ يناير (كانون الثاني) 2023 وحده، تم تسجيل 1340 تدخلاً جديداً في السياسة الصناعية، كان معظمها أشكالاً مختلفة من الإعانات التي نفذتها اقتصادات مجموعة العشرين.

كما أنه عند النظر  إلى البيانات عن كثب، نرى بالفعل تغييرات مهمة. فالحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين تعمل على إعادة تشكيل أنماط التجارة. بسبب التعريفات الجمركية، كانت واردات الولايات المتحدة من السلع الصينية الخاضعة لتعريفات 2018-2019 أقل بنسبة 12.5 في المئة في عام 2022 مقارنة بعام 2017 (صندوق النقد الدولي).

هل انتهت العولمة؟

تنقل شبكة “سي أن أن” عن اقتصاديين قولهم إن العولمة توقفت تماماً. ودعم الاقتصاديون في مصرف “ويلز فارغو” سيناريو أن عصر العولمة قد انتهى، وأرجعوا الأسباب الرئيسية لارتفاع القيود التجارية، وللانخفاض الحاد في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر حول العالم.

ويقولون إن إعلان إسرائيل الحرب ضد “حماس” قد يكون حافزاً آخر لانتهاء العولمة، على الرغم من أن تأثير ذلك لم يظهر في الأفق بعد.

قال الخبير الاقتصادي الدولي في ويلز فارغو، بريندان ماكينا «كانت العلاقات الجيوسياسية قد بدأت في التحسن في الشرق الأوسط، ولكن بسبب ما يجري في إسرائيل وغزة، يبدو أن ذاك التحسن الإيجابي بدأ في التراجع». وأضاف أن هذا التشرذم الجيوسياسي سيؤدي إلى تقليل التعاون التجاري بين البلدان، وقلة مشاركة المعلومات والتكنولوجيا، وتفكك روابط السوق المالية.

أما عن مدى تأثير الصراع على العولمة، فأكد أنه حال زاد التصعيد في الشرق الأوسط، فمن المحتمل أن يؤدي ذلك إلى شرخ عميق في الشرق الأوسط، وربما يمتد بين أقوى اقتصادات العالم.

وأضاف أن “دعم الولايات المتحدة القوي لإسرائيل، قد يأتي مغايراً لمواقف دول أخرى مثل الصين، التي إما ستعلن عدم دعمها بشكل صريح، أو تختار الامتناع عن التصويت، ولذلك أعتقد أن هناك احتمالاً أن بعض الروابط التجارية بين الولايات المتحدة وتلك البلدان قد تتلاشى”.

من الواضح أنه من شأن التشرذم المتزايد في التجارة في المستقبل أن يحد من الفرص الاقتصادية، ولا سيما بالنسبة للاقتصادات النامية، ويعيق الحد من الفقر على الصعيد العالمي، ويخفض مستويات المعيشة. فهل من سينقذ الاقتصاد العالمي من هذا النظام المستجد؟