جمال خاشقجي..المرارة.. والأثارة.. وأحكام الأمن والسياسة

أمين الغفاري

أثارت حادثة اغتيال جمال خاشوجي الكثير من الجدل والنقاش، وأصبحت تتصدر نشرات الأخبار عبر كل وسائل الأعلام المرئية والمسموعة، ولكن في اطار ذلك الأتون المشتعل نلحظ شيئا رئيسيا في القضية كلها، شئ لم يتم الكشف عنه حتى الآن رغم مرور ما يربو على الثلاثة اسابيع على هذا الحدث المأساة، وهو البيان الرسمي للنائب العام التركي حول كل الملابسات، والعناصر موضع الاتهام كما ترد في تسجيلاته التي يقول انه حصل عليها، ولا نتائج التحقيق كذلك من الجانب السعودي باعتبار انه لم ينته من التحقيق بعد وينحصر كل الجدل الدائر، وتختصر كل العملية في حرب اعلامية مشتعلة تستند الى تسريبات غير رسمية، وتتعزز  بناء على ذلك ـ كل الأهداف السياسية للكثير من القوى التي تتحين الفرص لأحراز العديد من المكاسب بالاستغلال والابتزاز.. لفاجعة هبطت بها الأقدار على غير انتظار. لاشك انها جريمة مروعة، لا ينبغي الاقلال من وقعها أو التخفيف من مأساتها. لكن استخدامها لدوافع سياسية لتقويض أمن المملكة أو محاولة تفكيكها استكمالا لمخطط الربيع العربي وخريفه معا، أمر لابد من التصدي له، فالعالم العربي لم يعد يحتمل أضافة دولة جديدة، الى الدول التي عانت ومازالت تعاني من الفتن الداخلية، ومن الهجمة التترية للجماعات الارهابية المعدة والممولة لضرب وحدة الدول، وتفتيت الأوطان، وانهاك الجيوش، حتى نصبح لقمة سائغة للقوى الصهيونية وللمطامع الاقليمية، ونهبا لكل القوى الاستعمارية.

ان هذه السطور تناشد الملك سلمان أن يفتح الجرح الى نهايته، لكي تتساقط منه كل أنواع السموم، وألوان الصديد، وان يتطهر الجرح الغائر باجراءات حازمة، وبتحقيقات موسعة، لا تستثني، ولا ترحم حتى يسلم كل الجسد السعودي من آثار هذه الكارثة المروعة بأوجاعها وآلامها، وحتى يغلق الأمر تماما، فالأمن السعودي بصريح العبارة ووضوحها جزء لايتجزأ من الامن القومي.

حادث مر في ظروف واقع اشد وأنكى مرارة

ان الذي جرى في القنصلية السعودية في استانبول حدث مر وموجع ومؤلم بل ولا اتردد في القول انه مقزز ومثير للغثيان. ان مقار ومكاتب سفارات الدول عامة في الخارج وقنصلياتها وكافة مكاتبها هي حصن للمواطن المغترب، وداره التي يأمن فيها عرض مشاكله على تنوعها وتعددها، فما بالك بحياته ذاتها، وقد كان هناك من يدعي قبلا ان هذه السفارات تقوم فقط على العلاقات السياسية والدبلوماسية بين الدول، ولا يدخل المواطنون المغتربون ضمن شواغلها، ولكن ذلك زمن راح وعدى، فلقد اصبحت هناك بعد هذا التطور الهائل في عملية التواصل

الملك سلمان بن عبد العزيز
سلامة الدولة ونفاذ القانون

والاتصال، والتدفق العظيم في ظاهرة التنقل والهجرة بين دول العالم، ان أصبح العالم )قرية صغيرة( تتسع وتبتعد في الترحال و لكنها تقترب الى حد الاندماج في التواصل والأتصال، ولذلك تمت اضافة جديدة للوزارات في بعض الدول، وهي وزارات أنشأت خصيصا للهجرة والمغتربين في الخارج، وأصبح هناك مسؤولون متخصصون يعملون بلا كلل على ان لا ينفرط العقد بين المواطن وبلدة نتيجة الهجرة الكاملة او حتى المرتبطة بعقود العمل الزمنية. لابد من بقاء الحبال موصولة والعلاقات قائمة. المواطن في الخارج تتعزز علاقاته ببلده وتتجدد عبر علاقات هذا التواصل والتعامل، وهو من جهة أصبح سفيرا شعبيا لبلاده، يشرح قضاياها، ويطرح انجازاتها ويعبر عن آمانيها، هو سند لها في الخارج، وطاقة طبيعية للاعلان عنها، وتعزيز دورها ، ولذلك هو في حاجة الى اتساع الصدر لسماع شكاواه بل وأناته ان لزم الامر، وليس هناك من سبيل سوى المساهمة في حل قضاياه المعلقة في داخل بلده، وما اكثر تلك الأشكاليات القانونية ذات الذيول التي تشغل المواطن المغترب، ولا ادخل في حصرها، ولكن تبقى المكاتب الرسمية للدولة هي صدر المواطن، ومدعاة ثقته وأمنه. في اطار تلك القضايا الملحة التي تمتد أصولها للوطن، يأتي طلب الكاتب الصحفي جمال خاشقجي، وهوالحصول على وثيقة تثبت طلاقه لكي يعود ويتزوج. هناك في القنصلية الخاصة ببلده، موطن حمايته ان هددت حياته أو أضيرت مصالحه، يحدث الأشتباك، كما جاء في البيان السعودي من مسؤولين كبار في المملكة، ينتهي الى واقعة اغتيال. أي خيال يستنهض الهمم للمواطنين، ويحترم كرامتهم وكبريائهم يمكن ان يبتلع ذلك المشهد !. لقد وقع العدوان الجسدي، بما يشكله ذلك من عدوان على الرجل، ثم امتهان كرامته بالسباب الذي طاله، قبل ان يتطور الأمر الى عملية القتل ذاتها. جريمة مركبة، وأين تقع  ياللهول ـ في مكتب رسمي للدولة! ان المرارة تبلغ حدودها القصوى، حين نتذكر ان الرجل ليس مجرما او ارهابيا يمسك بيده سلاحا يهدد به الآمنين، وانما الرجل صاحب قلم، وصاحب رأي، يمكن ان يتم الاختلاف معه أو الأتفاق، وممكن مراجعته بنفس السلاح أي بالقلم، فالكلمة لا تصارع الا بالكلمة، ودخول السلاح اليها ينفخها ويعظم من مكانتها حتى وان كانت لاتستحق أي حفاوة أو انتباه، ولكنه من جانب آخر يحطم أبواب الثقة المفتوحة، ويدين بلا هوادة خصوم الكلمة وحرية الرأي. شخصيا لم أكن أميل الى كتابات خاشقجي، ولا اعتنق أفكاره الليبرالية، وأناهض أطروحاته، ولكنه في النهاية ليس الأول والأخير في عالم الكتابة، وكتاباته مهما بلغت في تأثيرها لن يترتب عليها انقلاب في الفكر، ولا جمهرة في الشارع. ولكنها آراء تصيب وتخطأ، وكفاها ذلك دورا تقوم به، سواء في تنشيط الفكرأو المساهمة في وضع خطة أو أسلوب حل.

الأثارة بين الدفع للتحقيق.. والتجارة بالأحداث

لاجدال في اننا نعيش في عالم تتصارع فيه المصالح، وتنقب عن أي نافذة ان لم تكن ثغرة، تخترقها لكي تحقق عائدا أو اضافة من خلالها، وتلتهم الأطماع والشهوات منها آمال الشعوب والأفراد في آن واحد، وفي ظروف دولية واقليمية خبرناها سابقا، ونصادفها حاليا، وتبدو واضحة أمامنا بالنظرة المجردة، وليست الثاقبة لكي نرى النمور والذئاب، وهي تتأهب للأنقضاض على المملكة لكي تنال منها، ان لم تعجز عن الفتك بها أو تفتتها، وتقضم ما تشاء منها.

نرى على الساحة أيضا قوى عظمى تتضارب تصريحاتها، تارة هادئة، تحاول ان تعرف أو أن تتقصى، أو تتفهم، وأخرى تهدد وتتوعد، وتلوح، كما لو كانت بالأحرى تساوم لكي تبتز. فرق كبير بين ان تنزعج من هول حدث قد وقع ذ وهو لاشك بالغ التدني والوحشية -، وان تبادر برفضه وادانته، وطلب اخضاعه لتحقيق منصف يتوخى بيان الحقيقة تحت سطوة القانون والأمتثال لأحكامه، وبين ان تتخذ من الحادث ذريعة لتصفية الحسابات، ومادة تتطلع للمنفعة الخاصة أو للأثارة الفجة.

ان حادثة لفرد مهما كانت درجة تدنيها ووحشيتها لا يقارن بأثمان دفعتها شعوب استجابة لشهوة أخرى استبدادية، والمثل شاهد ومازلنا نعاني آثاره. ان ماحدث للعراق وشعبه، ومعاناته وحجم ضحاياه بدعوى تخليصه من استبداد حاكم، ودون أي شرعية للتدخل، وماحدث لفلسطين،

الكاتب الصحفي جمال خاشقجي
دم سال ولابد من انفاذ القانون

وهو نموذج حي لحجم التآمر الدولي، والخسة في التطبيق، ومازال الأمر قائما دون ان يتحرك الضمير العالمي، وما زالت الضحايا تتساقط، والأراضي تسرق وتنهب في وضح النهار، في انتظار الضمائر أن تصحو والعدل أن يتحرك، وان كنا نعرف يقينا أن الأخلاق لاوجود لها في عالم السياسة. لكن يظل على الجانب الآخر ان ماحدث داخل القنصلية السعودية على ايدي مسؤولين سعوديين، جريمة حقيقية في حق المملكة ذاتها أولا فالضحية مواطن سعودي، وقد نال مصرعه على ايدي مواطنيين سعوديين مهما علت مراكزهم، ومهما كان حجم مواقعهم، وعلى ساحة رسمية، وان صحت التقارير المسربة بأنه قد تعرض ايضا للسب والاهانة، فتلك جريمة أخرى، واستغلال رخيص لرفعة الموقع والمكانة الوظيفية، كما انه استغلال مروع أيضا كونه رهين قبضتهم في موقع الضعف وقلة الحيلة في الرد أو حتى المساءلة و الشكوى.

أحكام السياسة وقوانينها

يعيبون على الرئيس ترامب لغته الفجة في التعامل مع العرب، وتركيزه على مطالب المليارات التي يبتزهم لدفعها، ولكن بصرف النظر عن تلك الفجاجة في التعبير فالرئيس ترامب ليس خريج الدبلوماسية الغربية التي تتحدث بالكلمات الناعمة وتعبر بالأسلوب الأرقى، وان كانت تنحو الى نفس الاتجاه، وتخطط من اجل تحقيق نفس الهدف، فالسياسة لها قانون، وهو خدمة مصالح الدولة، واستثمارأي حدث أو موقع أو نظام. انها مهنة يحكمها قانون الغاب ) البقاء للأقوى( ، أما الجانب الأخلاقي، فله ميادينه الأخرى، الأديان مثلا، وقيم الأنسان احيانا أخرى، والخطب الرنانة، ثم هناك علوم و مجالات تتسع لهذه الشعارات أو المبادئ منها الآداب وأحلامها والفنون ورومانسيتها، وترقية الحس الأنساني وتهذيبه، أما عالم السياسة فهو عالم الصراعات الضارية، والمعارك الطاحنة لكن بدون طلقة رصاص الا اذا حكمت الظروف، ودعت الحاجة الى تعزيز الكلمة بالسكين، والحجة بالمدفع، والفارق بين الذكاء الأنساني حين يتعظ بأحكام الدين والقيم الحضارية وبين الخبث الحيواني حين تتملك الشهوة وتعمى البصيرة. في السياسة ترتدي المصالح في اغلب الأحيان ثياب المبادئ، وعند الحاجة يتم السفور عن الانياب الفاتكة، ومازلنا نتذكر صيحات الرئيس الأمريكي جورج دبليوبوش، وهو يتحدث عن اسلحة الدمار الشامل في العرااق، وعن مدى  تهديدها للسلام العالمي، ودخل الى العراق يصحبه توني بلير، واعاداها بالفعل الى العصر الحجري، ناهيك عن الملايين التي سقطت ضحايا للعدوان، وأخرى للهجرة في الصحار والفيافي، ولم يتحدث أحد عن تلك الجرائم المروعة التي دمرت الأرض والبشر والحجر، ولوثت البيئة، والقت بالملايين الى أتون الجحيم.

كان فخا للعراق بتهمة لاوجود لها، وتم العصف بكل مقدراته، تحت زعم أنه يهدد السلام العالمي

اليوم تهمة للمملكة العربية السعودية أن هناك اغتيال لكاتب في قنصليتها، وقد أقرت المملكة بذلك وتحملت مسؤولية اجراء تحقيق عادل وشفاف والضرب على ايدي مرتكبية، وذلك طيب ومحمود . لكن القضية مع ذلك يمكن استثمارها على نطاق واسع، فهناك الذئاب الصغيرة الاقليمية التي يسيل لعابها للأنقضاض، وهناك أيضا الذئاب الكبيرة العالمية وهي تتلمظ وتتوعد حينا وتبتسم حينا فهي تتحين الفرص، فالمملكة أحد الركائز المهمة في النظام العربي، وهو نظام ترنح تحت وطأة التنظيمات الارهابية الممولة والمعدة، وعدوانها طال اكثر من بلد. كان سقوط النظام الليبي مدعاة لفتح مخازنه المسلحة التي انتشرت، وشكلت منجما لكل المتربصين. وأصبح الصراع مفتوحا على أكثر من جبهة.

قضية جمال خاشقجي قضية بشعة، بصريح العبارة وصدقها، ولكن قد يكون ثمنها أكثر بشاعة وأغلى ثمنا، ان مس أمن دولة وهدد كيانها ، وهو لن يكتفي بتهديد أمن نظام أو حتى دولة وانما سيضرب حتى في الأعماق. ان الدول العربية التي مازالت تحتفظ بمقوماتها بغض النظر عن

الرئيس ترامب
تصريحات متضاربة تبحث عن العائد

التجاوزات فيها أصبحت معدودة، وفي الوقت الذي نستعجل فيه عودة الوئام العربي، وتنزاح فيه تلك الفترة الرهيبة التي يتعرض فيها الأمن والأستقرارالعربي لكل انواع التهديد. تعود الذاكرة الى ماض تعثرت فيه العلاقات بين مصر والسعودية، في نهاية الخمسينات، وكانت الوحدة المصرية السورية هي موطن الخلاف، وسبب الأزمة، ولكن حين تم التهديد الأسرائيلي لأمن المنطقة، دعا الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الى مؤتمر للقمة، ووجه الدعوة دون أي استثناء، وحين التقى الملك سعود بعبدالناصر في ساحة المطار، حيث تتم مراسل الأستقبال قال الملك سعود بيتا من الشعر) ويجمع الله الشتيتين.. بعدما ظن كل الظن أن لا تلاقيا( بل ان الملك سعود لجأ الى مصر بعد خلافه مع الملك فيصل. تعثرت العلاقات مرة أخرى بسبب اليمن وثورتها، ولكن في مؤتمر القمة الذي عقد في الخرطوم عام 1967 بعد النكسة، كان تصريح الملك فيصل يطالب بأن يكون خطاب الرئيس عبد النصر هو جدول أعمال المؤتمر. في حرب عام 1973 كان حظر البترول أحد الدعائم الرئيسية في المعركة. ان الأمن حين يتهدد تستلزم وحدة الصف. علينا ان نكون معا في السراء والضراء، فضمان أمننا في وحدتنا، وفي القضايا التفصيلية فليكن القانون هو السيد وهو الحكم، وفي غير ذلك لابد أن نتصدى معا للأمواج العاتية العالية التي تطمح في شبق ولهفة للعبث على الشواطئ العربية، وينبغي علينا أن لا ندع الشجرة تحجب عن عيوننا وحشية الغابة و أحراشها.

 

 

 

العدد 87 –كانون أول 2018