شخصيات لها تاريخ – نازلي فاضل… امرأة لها دور، وتركت بصمة

المعيار الحاسم لمدى تقدم المجتمع هو  وضع المرأة 

 أمين الغفاري

ينتمي الرجل والمرأة الى عالم واحد، هو عالم الإنسان، أو عالم البشر، والناس، الذكاء فيه والكفاءة والعقلانية تتوزع بينهما بلا استثناء، اللهم فارق الموهبة والتربية والتعليم والثقافة، وتقاس تلك الصفات بمدى الأبتكار، والأنجاز، والمثابرة، وكم العطاء والأضافة، ولكن المجتمع عاد بدوره فقسم وحدد لكل منهما وظائف وأدوار فاختص الرجل بالعمل على اتساع حركة المجتمع، واختص المرأة بالمملكة الصغيرة ويرمز لها بالدار أو البيت أو المنزل، فهي ربة البيت وملكته، ورغم ان واقع الحال، وخلاصة التجربة، قامت بفرض واقع آخر جديد ومختلف، كانت المرأة فيه في الكثير من الاحيان أكثر تميزا وعطاءا، وذلك حين حين يحتاج الرجل الى مساعدة أو يمرض أو حتى حين يموت وتفقد الأسرة عائلها، حينئذ تتقدم المرأة بلا تردد لتقوم بالعمل والأنتاج عبر الميدانين.. العمل خارج البيت لتكسب موردا، وتعول أسرة مهددة بالضياع، وكذلك داخل البيت لترعى مملكتها وتحافظ على استقرارها وحمايتها ثم ان أضفنا معايير الموهبة والمثابرة نجد ان هناك نساءا لمعن وأشرقن في ميادين الأدب والعلم والفن والأمثلة أكثر من ان تحصى أو تعد، الرجل من جانبه لا يقوى على العمل داخل البيت أو رعاية الأطفال، وحين

نـازلـي فاضـــل
أميـــرة التنـويـــر

يفقد زوجته لأي سبب الموت او الانفصاال، يسارع بالزواج من اخرى لكي تملأ الفراغ في حياته الأسرية أو الوجدانية. في احيان أخرى لا تعامل المرأة كشريك، ولكن كعامل متعه، ومن خلال تلك النظرة يتطلع ذلك الشبق الجنسي الى التنوع والى التعدد بل والأستحواذ وهو منحى يمثل امتهانا لكرامة المرأة وانسانيتها، ويساهم المناخ الثقافي للمجتمع في النفخ في ذلك العامل، باستخدام المرأة كونها عنصر جاذب ومثير، وبالتالي فهي، تساهم في الترويج لأي سلعة، وعلى الأخص حين يستخدم جسدها ذاته في عمليات الاعلان للملابس بمختلف النوعيات والأشكال، والأحجام. لم يعد يثير هذا الأمر الانتباه من كثرة استخدامه وتكراره. هل نلاحظ مثلا أن طريق الوصول الى النجومية خاصة النسائية في عالم الفنون السينمائية والتشكيلية يكون في الكثير من الاحيان عبر قنوات الأعلان وعارضات الأزياء، والموديلات. ان جسد المرأة)الآن( سلعة في سوق النخاسة وفق قواعدها وقوانينها الحديثة، وتحت مسميات عديدة.

نموذج أكثر من فاضل ونبيل نراه في بعض النساء، يلعب الذكاء والتوقد، والسهر على ثقافة العقل واتساع مداركه دورا أصيلا في تكوين قامتهن السامقة، وأعني بالقامة هنا المكانة وليس الطول. منهن تلك السيدة الأميرة)نازلي فاضل(، من أسرة محمد علي التي حكمت مصر بداية من القرن التاسع عشر حتى ثورة يوليو عام 1952.تفتحت عينا الأميرة نازلي على ظاهرة تعدد الزوجات من حولها، فوالدها له احدى عشر زوجة و)مستولدة !( وعمها الخديوي اسماعيل له خمسة عشر زوجة و)مستولدة !(، وهكذا رأت في الأسرة، أن المرأة في الظل ليست لها رأي أو خيارات، وجعلها ذلك تمد النظر الى قضايا المجتمع الكلية، والى الواقع الاجتماعي والثقافي للمرأة في مصر.

نازلي فاضل.. النشأة والعوامل المؤثرة

هي احدى أميرات أسرة محمد علي، فهي ابنة الأمير مصطفى فاضل )كانت الأسماء مركبة في ذلك العصر( ابن ابراهيم باشا ابن محمد علي )تقول بعض المصادر أن ابراهيم باشا لم يكن ابن محمد علي، ولكنه ابن زوجته( وقد ولدت عام )1853( وحين نمى وعيها وجدت ان لديها 10 أشقاء وخمس شقيقات وهي أكبرهن سنا، لكنها الأبنة الوحيدة لوالدتها »دال اذاد هانم« وكان لأبيها )مصطفى فاضل( 11 زوجة.وهو الأبن الاكبر لأبراهيم باشا والذي كان سيخلفه بطبيعة الحال، لولا ان هناك أمرا تم الأتفاق عليه بين اسماعيل باشا الأبن الأصغر وبين )الباب العالي( في استانبول لكي ينصب واليا بدلا من اخيه، وتم بعد ذلك اطلاق لقب )الخديوي( عليه ثم أن يكون خليفته بالوراثة في أطار أولاده لا أشقائه. غضب مصطفى فاضل لذلك فنزح بأسرته الى الآستانة، وتنقل بينها وبين باريس، ولم يعد الا بعد وفاة الخديوي اسماعيل.كانت الأميرة نازلي في الثالثة عشر من عمرها، وقد احتفظت بالعادات الشرقية باقامتها الطويلة في الآستانة، لكن هذه العادات قد امتزجت ايضا بالثقافة الغربية التي تشربتها من خلال اقامتها في اوروبا. عادت نازلي فاضل مع عائلتها لتعيش في قصر )الحصوة( بمنطقة العباسية، وقد بني على انقاض هذا القصر، قصر آخر عرف باسم قصر )الزعفران(. تزوجت الاميرة نازلي من خليل باشا شريف، وكان والده محمد شريف باشا واليا على الشام في عهد محمد علي، وكان رجلا مثقفا تلقى علومه في فرنسا، ضمن البعثات التي كان يرسلها محمد علي الى الخارج، وقد عين وزيرا للعدل عام 1976 في الحكومة العثمانية ثم عين بعد ذلك سفيرا في فرنسا عام 1977 حيث صاحبته الى هناك، وكان يكبرها بنحو ثلاثين عاما. تفاعلت )نازلي فاضل( مع الحياة الثقافية في باريس، وأدركت مدى الدور الحيوي الذي تلعبه الصالونات الثقافية في التنمية الثقافية للمجتمعات، ولذلك عمدت الى تكوين صالون ثقافي لها في باريس يجمع نخبة متميزة من رجال الفكر والثقافة هناك، كما أنها اولت عناية كبيرة لدراسة اللغات فأجادت العربية والتركية بالأضافة الى الأنجليزية والفرنسية، واختلفت المراجع حول الأسباب التي دفعتها لطلب الطلاق من زوجها، وفور وقوع الطلاق عادت الى مصر لكي تساهم، في توهج الحركة الثقافية في وطنها، وتلعب دورا في تنشيط الحركة السياسية والثقافية، وقد برز من صالونها على الساحة بعض القادة مثل سعد زغلول واحمد لطفي السيد وطلعت حرب وكانت تشكل عناصر بارزة في صالونها الثقافي.

الصالون الثقافي

أسست الأميرة نازلي أول صالون ثقافي في مصر، وكان يعقد جلساته بشكل دوري في قصرها، الذي يقع خلف قصر عابدين، وكان بحواراته ومجادلاته بمثابة نقله نوعية في اطار الفكر السائد في تلك الفترة، بل ان البعض يشبهه بنقل روح عصر الحداثة والتنوير الذي تشبعت بها روح الأميرة نازلي الى المجتمع المصري.انضم الى هذا الصالون في مراحل متعاقبة أسماء لها أصبح لها بريق واشعاع في الحركة الفكرية بل والسياسية منها قاسم امين وسعد زغلول والشيخ محمد عبده وطلعت حرب، والأديب السوري عبد الرحمن الكواكبي. وغيرهم، كما كان يحضر بعض هذه اللقاءات اللورد كرومر )المندوب السامي البريطاني(، والحاكم العسكري للمستعمرات البريطانية في البحر الاحمر اللورد كيتشنر.نشطت الأميرة نازلي في اطار الحركة السياسية ايضا، فعمدت الى طلب العفو من الخديوي )توفيق( عن الشيخ محمد عبده، بعد ان تم نفيه أثر تأييده لأحمد عرابي في ثورته على الخديوي، ويذكر انها من جانب آخر قامت بتعيين سعد زغلول )المحامي الناشئ( محاميا في دائرة املاكها أثناء عمله بالمحاماة، ثم قامت باقناع كرومر بتعيينه مستشارا في محكمة الأستئناف كما توسطت في زواجه من ابنة مصطفى فهمي

سعد زغلول
تركت اثرا بالغا في حياته العملية والعائلية

باشا رئيس الوزراء في ذلك العصر، وكان رافضا لهذا الزواج باعتبار ان سعد زغلول فلاح لا يليق بمصاهرته للفارق الاجتماعي بينهما، ونجحت في ذلك، وقد احتلت )نازلي فاضل( مكانة رفيعة لدي سعد زغلول، ويقول )محمد فريد( خليفة الزعيم مصطفى كامل في مذكراته )ظلت صورة »نازلي فاضل« تتصدر جدران غرفة نوم سعد زغلول في )بيت الأمة(حتى بعد رحيله، مما يدل على تقديره لهذه الشخصية العظيمة التي اثرت فيه تأثيرا بالغا(.، كما انها قامت بحث الشيخ محمد عبده على دراسة اللغة الفرنسية، والتعمق في آدابها حتى يتمكن من الرد على الحملات الأجنبية على الأسلام، بصورة تقترب من العقلية الفرنسية ومداركها، وكانت تحمل تقديرا كبيرا لعلمه واجتهاداته. قامت كذلك بمراجعة قاسم امين في افكاره حين هاجم المرأة المسترجلة التي تصادق الرجال وتحاورهم وتجادلهم، في كتابه)المصريون( الذي اصدره عام 1894 ردا على كتاب قام بتأليفه الكونت)دراكور( باسم )سر تأخر مصر والمصريين( هاجم فيه الاسلام والمصريين، ودافع قاسم امين عن الحجاب باعتبار ذلك نوعا من التدين، بالأضافة الى كونه غرس للتقاليد الفاضلة، وقد استطاعت الاميرة نازلي أن تقنعه في حوارها معه ان العمل مع الرجال ومجادلتهم لا يعني التخلي عن انوثة المرأة، بل هذا تأكيد على انسانيتها فقط وقوة شخصيتها، وان الحجاب ليس من أصول الدين، و استطاعت في النهاية ان تبدل من أفكاره، وتصحح من مفاهيمه، فقام باصدار كتاب جديد تحت اسم )تحرير المرأة( وقد تمت طباعة الكتاب على نفقة )نازلي فاضل( وتحت رعايتها عام 1900.كانت هذه الأميرة تطرح آراءها في الصالون، وتكتسب أنصارا لأفكارها ومنطقها.يقول عبدالعزيز البشري وهو أديب كان يلقب باسم)الجاحظ المصري( في احتفال اقيم بذكرى قاسم امين )ان قاسما كان في مقتبل حياته من الرجعيين حتى انه حين رد على الدوق )داركور(دافع عن »الحجاب« واستنكر السفور، وهاجم المرأة المسترجلة، وظنت الأميرة أنه يقصدها فغضبت لذلك، ولكن سعدا قدم صديقه اليها، ولما رأى قاسم امين شدة عقلها، ورجاحة »حلمها«، ووثاقة فضلها انقلب على رأيه وأخذ يطالب بتحرير المرأة.

نازلي فاضل وزواجها الثاني

ترددت الأميرة )نازلي فاضل( على تونس عام 1896 تقريبا لزيارة أختها الأميرة )رقيه( التي تزوجت من تونسي اسمه )طاهر بن عياد(، وهناك نسجت علاقات كثيرة في اطار النخبة الثقافية، كانت امتدادا لعلاقاتها التونسية السابقة حين كانت تقيم في فرنسا، واستطاعت ان تصنع لها وجودا وتأثيرا بحيث تم تعيينها رئيسة شرفية للجمعية الخلدونية التي كانت تحمل عبء النهوض بالمرأة المسلمة في تونس من خلال تعليمها وتنمية ثقافتها.هناك تزوجت من السيد خليل بوحاجب ابن القاضي والمصلح التونسي ومفتي المالكية بعد أن أسرها بنشاطه وسعة افقه، وتم الزواج في 5 ابريل عام 1900وكانت في السابعة والاربعين من عمرها، وكان الزوج يصغرها بنحو عشر سنوات تقريبا، وكان يشغل رئاسة قسم التحقيق الجنائي قبل ان يعين وكيلا للنيابة، وبعد وفاة الاميرة عين محافظا فوزيرا ثم رئيسا للوزراء في تونس عام 1926، وتوفى عام 1939

ظلت الأميرة نازلى فاضل تتناوب الإقامة بين مصر وتونس، قائمة على نشاطها التنويرى فى قصريها بعابدين والمرسى، ويروى السلطان حسين أنه زارها يوم 28 ديسمبر 1913 في الساعة السابعة والنصف، فألقاها بصحة جيدة وإن لاحظ تدهور معنوياتها؛ وقد أخذت تتحدث بصورة انسانه تدرك تماما أن النهاية ستواتيها خلال شهر ديسمبر الذى شهد وفاة والدتها من قبل. وعند الفجر داهمتها أزمة قلبية فقضت نحبها، وقيل أنها أغمضت عينيها بيديها قبل أن ينفذ أمرالله.

علاقتها بالأحتلال البريطاني

وجهت اليها العديد من الأتهامات ليست فقط لأنها سيدة )مسترجلة( كما سبق واتهمها قاسم امين، ولكن لأنها روجت للتطبيع مع الأحتلال، بدليل ان كرومر وبعض القادة كانوا يحضرون صالونها مع بعض الشخصيات المصرية، خصوصا من شباب ذلك العصركما رأينا، كما انها من جانب آخر كانت من خلال )صالونها( أداة من أدوات التغريب التي طرأت على المجتمع المصري، وخصوصا فيما يتعلق بالمرأة المصرية وأوضاعها، وقد وصفها )محمد فريد( خليفة مصطفى كامل في رئاسة الحزب الوطني، وأحد قادة الحركة المناهضة للأحتلال أنها من )أنصار الأنجليز(. من الطبيعي والوارد ان تختلف الأجتهادات وتتعدد الرؤى لشخصية حملت تأثيرها الى شخصيات أصبح لها دور وتاريخ سواء في الحركة السياسية مثل سعد زغلول واحمد لطفي السيد، أو في حركة التغيير كالشيخ محمد عبده وقاسم أمين، وغيرهم كثيرون.كانت ترى ان

قاسم امين
أصدر كتابه تحرير المرأة على نفقة الأميرة

الأحتلال لابد ان يساهم في حركة النهضة والتحديث، كما كانت تولي الحركة الثقافية اهتماما، وصالونها يمثل اسهاما في تنشيط حركة الحوار والجدل من اجل المستقبل. ان قضية الأحتلال وطرد الأستعمار لم تكن قضيتها، وقضية الديموقراطية والدستور التي طرحها احمد عرابي لم تكن قضيتها. لكن قضيتها كانت التعليم ونشر المدارس، والثقافة والتنوير، ووضع المرأة والدفاع عن حقوقها وانسانيتها.ومن ثم فهى لا ترى غضاضة فى إقامة علاقات وثيقة برجال الاحتلال والمجاهرة بتلك العلاقات، وأنها تتصرف كسيدة مسلمة ومصرية خالصة الانتماء تعيش منشغلة بقضايا دينها ووطنها، وأنها قدمت اسهامات في هذا الشأن، ودائما لابد ان يبقى الجدل قائما حول تلك النماذج من الشخصيات، وتختلف حول أدوارها الآراء.فمن يرى انها قامت بالتطبيع مع قوى الاحتلال يجد ما يريد اثباته، ومن يرى انها مثلت في عصرها دفعة مؤثرة في دائرة الثقافة والتنوير يجد ايضا ما يعزز رأيه.

قبل الختام

انها احدى الأميرات، ولكنها لم تركن لحياة الرفاهية، ولم تجر نحو الأحلام الصغيرة، ولكنها رفضت في ذلك الزمن المبكر أغلال الحريم، وضربت مثلا رائعا للمرأة الشرقية حين تتملك منها عقلية ثرية وادراك عميق.ان معركتها لم تكن مع احتلال لمستعمر أو طغيان لحاكم، ولكن معركتها كانت ضد التخلف والأنغلاق، ضد الفكر المعتم والأفق الضيق..وهناك من الحكماء واصحاب الرأي الذين يقيسون مدى تقدم المجتمع أوتخلفه، بوضع المرأة، ومدى ما يقدمه لها هذا المجتمع أو ذاك من اعتبار لأنسانيتها، واحترام لثقافتها، وتقدير لدورها، أم أنها وراء الباب، وخلف الشباك، ودورها في الحياة ينحصر في خدمة الرجل، واطاعة اوامره واشباع رغباته. نازلي فاضل.. ترى هل نفتقد في هذا الزمان مثل ذلك النموذج من النساء

العدد 87 –كانون أول 2018