ناذرات الصمت

في الطريق إلى العمل هذا الصباح تشبثت بما نويته منذ دهر. أقفلت الراديو لئلا أنسجم فوق اللزوم مع الموسيقى ورحت أردد لنفسي كالدرويش: »لن تفعل أي شيء، قبل انتزاع ورقة الروزنامة«. في داخلي خوف مضغوط مثل الهواء في رئتي عصفور ممسوك من عنقه بقبضة شديدة. خائف أن يمضي الوقت، أن تكر الأيام مرة بعد، سنة أخرى، وأنا منسحب مع التيار كأنني في غيبوبة. يقهرني الأمر. كل سنة أقول: هذه السنة سأنزع ورقة كل صباح. سأجعلها عادة كالتنفس وأتغلب على شرودي بأي ثمن، وأفشل، مع أنني أضع الروزنامة في أكثر الأماكن بروزا ولا ينقصني سوى تعليقها في عنقي. تدفقت أمواج من الأفكار، معظمها ساخط، شاتم. لكنني ابتسمت لصورة الروزنامة في خيالي. ذهبت إليها مباشرة، عبر المصعد وباب المكتب، حابس الأنفاس مادا يدي في الهواء، أعمى يتلمس الرياح في صحراء. وسرني أن أحدا من الموظفين لم يعرني اهتماما »يا إلهي، هل أقوم دائما بحركات كهذه فما عادوا يتلفتون!؟« ا. على قفا الورقة وصفة مطبخية أراحتني من نوبة الوجدان التي تسببها لي »حكمة اليوم« أو الأبيات المختارة من »عيون الشعر الجاهلي«. هل أرميها؟ ام امعسها في قبضتي وأودعها سلة المهملات؟ أو أفرغ مكانا في أحد الأدراج وأجمع شقيقاتها كل يوم؟ فكرت نصف ثانية قبل أن أتركها ترفرف في الهواء إلى السلة، وجلست إلى مكتبي.

ماذا عندنا اليوم؟ تعالي أيتها السكرتيرة، أين قهوتي؟ قهوتي قبل العالم كله! إنه التقليد الوحيد الثابت في هذا المكتب وما تبقى بابل حقيقية ومستمرة. أجفان السكرتيرة غير نشيطة هذا الصباح. ربما لم تنم جيدا أو زادت في الهيام وأخواته. لا أصدق أبدا أنها حزينة من أجل الوطن وأن تفكيرها دائم الدوران حول بيوت المهجرين. ولذلك ما عدت أسألها: »ما بك اليوم يا جمانة؟ لأنها سترخي نصف عنقها من جهة واحدة وتحدجني بنظرة عميقة ملؤها المؤاخذة واللوم والعتب وجزء واضح من الاتهام قبل أن تقول: »ألم تسمع الأخبار؟ ألم تشاهد الصور الفظيعة ؟«. ثم تنطلق في موالها التقليدي حول عذاب الأطفال في هذا العالم…. العوذ بالله لن أسألها ما بك ولو طالت أجفانها المسدولة إلى خصرها.

مدير التسويق أطل بنصف كتفه وعينيه الراقصتين تاركا بقية جسمه وراء الجدار قائلا: »أريد منك جدولا لعدد الكتب المترجمة الجاهزة للطبع. وجدولا لعدد الكتب المعدة للترجمة…. اليوم إذا أمكن«.

يرن التلفون: ألو، نعم. من. مش معقول. كيفك. الحمد لله. الأخبار عندك- ضربوا– قتلوارهاجمواراحتلوارنسفوا– يا لطيف!- ما رح تخلصر الله يخليكر أهلا وسهلا، نحن هنا كل النهارر الله يحفظك!«.

جمانة.

نعم!

خذي كل المخابرات. واغلقي الباب. أنا مشغول ساعتين. غير موجود إلا إذا اتصلت أمي.

أوكاي.

تقولها بامتعاض تجريمي. تخفي في طياته ما معناه إنها تعرف أنني ساسحب القصائد من الدولاب الوحيد المقفل في مكتبي وعندما أناديها سأناولها أشعارا للطبع وليس جدولا لعدد الكتب. ولن تفهم كم عليّ أن أرمم عقلي أولا قبل تمكني من البدء بتمشيط شعر وظيفة، تدفع ثمن استمراري على الاختباء من قدري. يليق بي أي قاووش، أية محطة، أي قطار، أي زاروب، أكثر من هذا المكتب. وربطة العنق هذه، وهذا التلفون، ناهيك بالسكرتيرة والمديرين المحليين والعالميين والاجتماعات عبر البحار. من حقيبتي أتناول هلوسات ليلة الأمس علني أستخلص منها شيئا. لا أعتقد أن خطي يستطيع أن يقرأه سواي عندما أكتب آخر الليل. دوائر وخطوط كأنما الكلمات بقع أمطار استوائية.

 الراهبات ناذرات الصمت فوجئن بصوت يرتدي كلمة.

صارت الراهبات شمعا يشتعل ولا يذوب.

محرر لم تقل له السكرتيرة أنني مشغول لأنها ذهبت إلى الحمام. دخل بهدوء وسألني: يقول الإنكليزي إنها تمطر قططا وكلابا، كيف نترجمها.

قل: إنها تمطر أرانب وسلاحف.

خرج المحرر فاهما أنني لست هنا.

 في حكاية الراهبات ناذرات الصمت شيء. لكنني لا أفهم تماما ما هو. ارمها، فتكديس الغموض يقربك بسرعة أكبر إلى الجنون، والجنون في الغربة كارثة. اكتب شيئا يسليك، ينزه عقلك، يدلكه بخفة ورشاقة : »شحاذ يحمل كدسة مفاتيح لماعة ويحاول الواحد بعد الآخر في أقفال وهمية في الهواء. يفشل تماما ويلتفت إلى جسر وراءه. غيمة وردية انتشرت وكبرت في آخر الجسر بعدما غط صاحب عربة غزل البنات في النوم ناسيا أن اليوم عطلة ولن يخرج التلاميذ من المدرسة المجاورة وقت الظهر لإيقاظه بضوضائهم. لكنه أجفل ليرى الشحاذ يلتهم الغيمة. وبفرح كبير انتشل منه رزمة المفاتيح واستدار نحو الفضاء وبدأ يحاول. وعندما فشل تماما استبد به الغضب ورفس الباب بقوة في المصح رأيته يرتدي قميصا بيضاء بلا أكمام والشحاذ يدفع عربة الغيوم الوردية، في آخر الجسر، قرب المدرسة«.

مسائل كهذه قد تحصل لمن يركز طويلا على الروزنامة.