فتح سفارات عربية واستئناف التواصل مع العاصمة السورية عشية القمة العربية

دمشق والعرب: حكايات التطبيع!

محمد قواص *

تحول لافت طرأ على المزاج العربي العام سيتيح التطبيع الكامل للعلاقات العربية السورية. التحول بدأه الرئيس السوداني عمر حسن البشير وتلاه إعلان الإمارات العربية المتحدة والبحرين فتح سفارتهما في دمشق بما يمثل الواجهات الاولى لهذه التحول. وسواء كانت الاشارات سودانية أو اماراتية أو بحرينية أو موريتانية، فكل ذلك يرسم خارطة طريق نحو هذا التطبيع.

وكان الرئيس السوري بشار الأسد قد أعلن في مقابلة أجرتها معه إحدى الصحف الكويتية، في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أن »كثيرا من الدول العربية بيننا وبينهم تفاهم كبير، وهناك دول غربية قد بدأت تخطط وتجهز لفتح سفاراتها، وهناك وفود غربية وعربية قد بدأت بالفعل

هل زيارة البشير إلى سوريا حدث عربي أم روسي؟

القدوم إلى سورية لترتيب عودتهم، سواء كانت دبلوماسية أو اقتصادية أو صناعي«.

سوريا: العرب وإيران

وتكشف مصادر خليجية مراقبة أن العرب لا يريدون تكرار تجربة عزل العراق التي أوصلت الوضع في العراق إلى لحظة الغزو الأميركي ودخول العراق في المدار الإيراني كاملا.

وأضافت المصادر أن العزلة العربية هي فرصة إيران التامة، وأن نظام الأسد تحت التأثير الإيراني الآن، ولكن ضمن توازنات مع قوى أخرى خصوصا روسيا.

ويعزو محللون هذا التحول الحالي والمقبل في الموقف العربي إلى انحسار دور قطر وتغير موقف السعودية من طبيعة الصراعات في المنطقة.

وأضاف هؤلاء أن سوريا تحولت في السابق إلى ساحة لمنافسة قطرية سعودية على كسب النفوذ والحصول على الولاءات من فصائل سورية مختلفة، سرعان ما كان الكاسبان الأكبران من هذه المنافسة هما تركيا وإيران.

ويضاف إلى الاشارات العربية استئناف الخط الجوي بين دمشق وتونس بانطلاق طائرة في 27 كانون الأول/ديسمبر الماضي قادمة من مطار دمشق الدولي وهي أول رحلة مباشرة بين تونس وسوريا منذ ثماني سنوات.

وأوضح مدير التطوير بالشركة أسامة ساطع أن الرحلة هي باكورة رحلات الشركة إلى تونس مشيرا إلى أنه سيتم لاحقا الاتفاق على جدول الرحلات ومواعيدها وفق دراسة للسوق ووسطي عدد الركاب المحتمل نقلهم.

ولفتت مصادر دبلوماسية خليجية إلى أن الموقف العربي المستجد يأتي مكملا للتحولات التي ستشهدها الساحة الدولية والتي تمثلت أعراضها الأولى بقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب القوات الأميركية من الأراضي السورية.

وكشفت هذه المصادر أن موسكو، في بداية التدخل الروسي الواسع في سوريا عام 2016، قد سألت قيادات عربية أساسية بأن الخيار المطروح على الأرض هو ترك الأمر تماما لإيران وتركيا، أو أن يتقبلوا تدخلا روسيا عنيفا جدا، لكنه محسوب الآفاق، خصوصا وأن الولايات المتحدة لم تكن جدية يوميا في النظر إلى الملف السوري، سواء في عهد الرئيس السابق باراك أوباما أو في عهد الرئيس دونالد ترامب.

ورأت هذه المصادر أن الأمر تجسد عمليا بإعلان ترامب الانسحاب الكامل من سوريا ضمن ترتيبات ترجح كفة الأتراك، وليس كفة النظام السوري فقط، على حساب الفصائل الكردية الموالية لواشنطن.

وتقول مصادر دبلوماسية عربية إن عددا من العواصم العربية سوف تتخذ تدابير ممهدة من شأنها فرض أمر واقع جديد في العلاقة مع دمشق يبدل من توازن القوى داخل جامعة الدول العربية لصالح تفعيل عضوية سوريا داخل الجامعة. وأكدت أنه من المرجح أن يتم هذا التطبيع

انسحاب ترامب من سوريا هدية واشنطن لتركيا

ليكون ناجزا قبل أو أثناء القمة العربية المقبلة المؤمل انعقادها في تونس في 31 من شهر آذار/مارس المقبل.

البشير في دمشق: أصابع روسيا

ويعتبر مراقبون أن زيارة الرئيس السوداني عمر حسن البشير الأخيرة المفاجئة إلى دمشق شكلت حدثا صادما هدفه كسر محرمات داخل الدبلوماسية العربية المشلولة حيال الوضع في سوريا منذ قرار تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية عام 2011.

بالمقابل اهتمن وسائل الاعلام الدمشقية بخبر وصول الرئيس السوداني عمر حسن البشير إلى العاصمة السورية للقاء زعيم النظام بشار الأسد. الحدث لافت استثنائي على النحو الذي أوحي أن في الأمر تحوّلا قد يشي بأن النظام السياسي العربي، الذي جمد عضوية سوريا في جامعة الدول العربية في نوفمبر 2011، يدلي بأعراض نقيضة ويتحضر لانعطافة لا تشكل زيارة البشير إلا إرهاصاتها الأولى.

غير أن بعض المحللين رأوا أنه إذا ما كان للزيارة تفسير منطقي، فالأجدى في ذلك قراءتها داخل خريطة الدول المؤثرة مباشرة على مسار سوريا ومستقبلها. وتعتبر هذه التحليلات أن العرب، بمنظومتهم الجامعة أو بأجنداتهم المتفرقة، هم الآن خارج أي فعل في سوريا. بمعنى آخر، فأن يأتي البشير وغير البشير من الشخصيات العربية في هذه الأوقات لزيارة العاصمة السورية، فذلك تفصيل مهم في الشكل لكن لا حساب له في تغيير موازين القوى الناظمة لخرائط اللاعبين الحقيقيين. فما بين استانا وجنيف، مرورا بواشنطن وموسكو وأنقرة وطهران، انتهاء بعواصم الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، لا يبدو أن للعرب مكانة أو دورا بإمكانهما أن يتداعيا مباشرة على قرار دمشق كما قرار العرب من دمشق.

تمسك روسيا برئاسة فلاديمير بوتين بمفاتيح اللعبة المعقدة في سوريا دون منازع. على ضفاف الفعل الروسي تمارس إيران وتركيا وإسرائيل تمارين الكرّ والفر. تملك هذه الأطراف جميعها أدوات الحسم والرسم لتحسين مواقعها الإقليمية والدولية من خلال نفخ أحجام حصصها الموعودة داخل سوريا الجديدة.

وحدها الولايات المتحدة تأتي على نحو حيوي )يساعدها في ذلك موقف أوروبي واضح وتواطؤ صيني خبيث( ليس فقط لمنافسة الدور الروسي وقواعده، بل لتهديد كل الركائز التي بنتها موسكو منذ التدخل العسكري في سبتمبر 2015.

حين وصل البشير إلى دمشق كان الحدث يأتي على غفلة وخارج سياق أي عملية دبلوماسية معلنة. كان المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا قد أعلن، ما كانت ألمحت إليه موسكو، عن قرب التوصل إلى اتفاق لتشكيل اللجنة الدستورية. لا معطيات عن سرّ هذا الاتفاق الداهم الذي يدور أساسا حول رفض دمشق، وطهران من ورائها، للائحة اقترحها دي ميستورا لتمثيل المجتمع المدني جنبا إلى جنب مع لائحة النظام ولائحة المعارضة. لكن الداهم الوحيد لفك عقدة اللجنة العتيدة، هو تهديد واشنطن، عبر دعوة مبعوثها الخاص لشؤون سوريا، جيمس جيفري، إلى إنهاء عمليتي أستانا وسوتشي للتسوية السورية إن لم يتم تشكيل اللجنة الدستورية السورية.

ويعتبر المراقبون أن رحلة البشير إلى سوريا هي عمل يصب في حسابات روسيا وليس حسابات العرب. ترسل موسكو من خلال الرئيس السوداني رسائل للأميركيين والأوروبيين أن العرب يستعدون للتطبيع مع نظام الأسد لعل في تلك الرسائل ما يخفف من عناد العالم الغربي في مقاربته لمسائل إعادة الإعمار واللاجئين. تقول موسكو لواشنطن إن خرائطها للتسوية ناجعة، ليس فقط في ترويض طبائع الأتراك والإيرانيين، بل هي بدأت تعرض للواجهات الأولى لعملية ترميم علاقات النظام العربي بنظام دمشق.

يجتمع الموقف الأميركي والأوروبي، والذي لا يجتمع على ملفات كثيرة هذه الأيام، على نظرة متطابقة لكيفية التعامل مع المسألة السورية. يشترط العالم الغربي الشروع بعملية سياسية حقيقية تؤسس لمرحلة انتقالية قبل الحديث عن سبل دفع الأموال لإعادة إعمار ما دمرته أعوام

العرب يعتبرون أن لخراج إيران من سوريا بات مهمة دولية

الحرب السبعة. وهنا تبدو روسيا أسيرة موقف غربي لم يستطع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من تحقيق اختراقات داخله ما بين ضفتي الأطلسي.

ولئن يصل البشير إلى دمشق من داخل الخرائط الروسية، فإن ذلك يتم داخل أعراض جديدة يفصح عنها أصحاب أستانا أنفسهم.

مصالح »أستانا«

تود إيران التمسك بعملية أستانا بصفتها العملية السياسية الوحيدة التي تمنح الوجود العسكري الإيراني في سوريا غطاء شرعيا، أو على الأقل غطاء روسيا، في لحظة تتكثف فيها ضغوط واشنطن عليها.

وتود تركيا ألا ينهار صرح أستانا الناظم ضمنا لعملية درع الفرات، والمشرّع لوجودها العسكري في شمال سوريا واحتمالاته ضد الوجود الكردي شرق الفرات، مع ما يحمله ذلك من تناتش مع واشنطن.

يحلّ البشير لساعات معدودة ضيفا على الرئيس السوري في اليوم نفسه الذي أعلن فيه وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو أن بلاده ستدرس التعامل مع الأسد. يعلن الوزير التركي ذلك في الدوحة على نحو يوحي أنه أساسا ذهب إلى هناك ليعلن ذاك التحول من ذلك المكان. وعلى هذا تظهر ترنيمة جديدة تُعزف بين طهران والدوحة وأنقرة وموسكو، ليأتي الرئيس السوداني وينفخ في طبولها في دمشق.

على أن حدث زيارة الرئيس السوداني يمثل في جانب منه خطوة تؤشر على انقسام إقليمي دولي حول نظام دمشق والموقف من زعيمه، ولا يمثل تحولا إيجابيا موحدا لصالح الطبخة الروسية.

فإذا ما قُرئت الزيارة بصفتها واجهة من واجهات تحالف إيران وقطر وتركيا، فإن ذاك نذير تصدّع إقليمي إضافي يبعد العرب عن دمشق، وإذا ما قرئت بصفتها انقلابا عربيا أرادت روسيا ابلاغه للولايات المتحدة، فإن ذلك سيقابل بتشدد غربي يدعمه تيار عربي واسع لن يحيد عن المطالبة بعملية سياسية كاملة قبل القبول بأي تطبيع، حتى من النوع المبهرج الذي أحاط بزيارة البشير السورية.

ترامب ينسحب

ويلفت المحللون إلى غياب رد الفعل العربي في التعليق على قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب القوات الأميركية من سوريا. ففيما عدا دمشق المعنية مباشرة بالقرار الأميركي، فإن العواصم العربية ومنابرها تعاملت مع الخبر بصفته حدثا أجنبيا يتم تداوله من خلال مصادره الأميركية، أو بصفته تفصيل أميركي يجري بين أهل الحكم في واشنطن.

على أن العواصم العربية المعنية بالشأن السوري مضطرة أن تباشر عملية كبرى لإعادة تموضع يسببه حرد ترامب وعزوفه عن مواصلة اللعب مع اللاعبين فوق الأراضي السورية. استنتجت تلك العواصم أن الأمر جدي في واشنطن، يأخذ شكلا نهائيا على ما كشفت استقالة وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس والمبعوث الدولي للتحالف الدولي بريت ماكغورك. واستنتجت العواصم أن قرار ترامب الذي جاء أثناء اتصال هاتفي مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان يصبّ في بعده الآني، وربما الاستراتيجي الطويل الأمد، لصالح الأجندة التركية في سوريا، وربما أيضا في المنطقة برمتها.

والحال أن أنقرة نفسها أربكتها هدية ترامب المفاجئة. تدرك تركيا أن هرولتها لتعبئة الفراغ الأميركي في شمال سوريا يعد استفزازا للحلفاء قبل الخصوم. أعلنت المنابر التركية عن تأجيل العملية العسكرية صوب منبج وشرق الفرات، فيما تركت أنقره لوسائل إعلامها نقل صور قوافل

اعادة فتح السفارة الاماراتية في دمشق: عنوان التحول العربي

آلياتها وتجهيزاتها العسكرية الثقيلة تتدفق نحو الحدود مع سوريا. وفيما تسعى تركيا لضبط اندفاعاتها العسكرية وترشيق حركتها الدبلوماسية، قد يظهر لاحقا أن العرب يتحركون لتسريع تحركهم نحو سوريا في مسعى لضبط الاختراق التركي المترجل على عجل داخل هذا البلد.

بعد أيام على زيارة البشير لدمشق أعلنت جامعة الدول العربية في بيان أن موقفها تجاه تعليق عضوية سوريا لم يتغير لعدم وجود »توافق عربي«. إلا أنه لا يمكن هنا إلا التقاط حدث الزيارة بصفته خطا بيانيا عن اعادة التواصل مع دمشق بطرق مختلفة بما في ذلك الزيارة التي قام بها رئيس مكتب الأمن الوطني في سوريا اللواء علي المملوك إلى القاهرة.

يعتبر العرب، حتى إشعار آخر، أن مسألة النفوذ الإيراني في سوريا وبلدان عربية أخرى، باتت مسألة دولية تقودها الولايات المتحدة منذ قرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي. اختلف الأوروبيون مع الأميركيين حول مسألة التمسك بالاتفاق، واتفقوا، مع ذلك، على ضرورة وضع حد للنفوذ الذي تمارسه طهران داخل دول المنطقة. في هذا يلتقي موقف واشنطن، حتى الآن، مع موقف الأوروبيين، في أن أي عملية تمويل لإعادة الأعمار كما إعادة اللاجئين في سوريا لا يمكن أن تجري إلا بعد التثبت من عملية سياسية تشرف عليها الأمم المتحدة تؤسس لتسوية سياسية حقيقية تنهي المأساة في هذا البلد. وفي ثنايا هذه التسوية بحث مستقبل الدور الإيراني في سوريا.

على هذا يأتي الموقف الإسرائيلي ليكون مكملا طبيعيا لمزاج دولي ناجز في هذا الإطار. تتولى النيران الإسرائيلية ضرب تحركات إيران وميليشياتها في سوريا كلما رأت تل أبيب فيها خطرا على أمنها الاستراتيجي. تحظى العمليات الاسرائيلية منذ سنوات بدعم أميركي كامل، وبتفهم أوروبي واضح، وبرعاية روسية، ارتبكت، لكنها، لم تتزحزح في المبدأ، وإن كان اعتراها ما يشبه سوء الفهم والتقدير الذي تتم مداراته بالتعاون والتنسيق.

هل عاد العرب متأخرين؟

العرب وتركيا

وفق ذلك، سيتحرك العرب محاولين تعبئة فراغ دولي في مسألة التصدي لتركيا، مقابل ما تقوم وستقوم به عواصم العالم ضد التواجد الإيراني في سوريا. ولا يمكن هنا إلا ملاحظة استفادة دمشق من القرار الذي اتخذه ترامب بصفتها الطرف المناط به الدفاع عن »السيادة« في مواجهة أطماع تركيا ودور نظام أردوغان المقبل في تحديد مسار ومصير سوريا المقبلين. ووفق ذلك التحول سيصبح أسهل على دمشق العودة لتطبيع علاقاتها مع عواصم عربية عدة، وسيصبح أسهل على بلدان عربية، لا سيما تلك التي تجاهر في انتقاد تركيا وسياستها العربية، العودة إلى دمشق والنفخ من شأن نظامها.

بيد أن المناورة العربية تبقى تجريبية تأخذ أشكالا خلفية خجولة. فالعرب، كما روسيا كما إيران كما تركيا نفسها، ما زالوا يحاولون قراءة الموقف الأميركي الضبابي من شأن سوريا وشؤون المنطقة. يكشف التخبط داخل الإدارة الأميركية نفسها، عن نمط حكم لا يمكن الركون إليه لبناء سياسة خارجية أميركية متماسكة، ليس في قضايا المنطقة، بل في ملفات عالمية أخرى. يتأمل العرب الخلاف الذي تعملق بين الولايات المتحدة وتركيا، منذ عهد الرئيس السابق باراك أوباما، وذوبانه بين ليلة وضحاها. انقلب الأمر إلى درجة إغراء واشنطن لأنقرة بالإفراج عن

سيكون لبوتين اليد الطولى في تقرير مستقبل سوريا

عقود منظومة باتريوت ومقاتلات أف 35. في ذلك ما يشي أن هناك استفاقة، ربما متأخرة وربما ساذجة، هدفها »استعادة« تركيا داخل كنف الحلف الأطلسي وسحبها من اندفاعتها باتجاه حضن فلاديمير بوتين الروسي.

ربما من المبكر الحكم على هدية ترامب لتركيا في شمال سوريا. من الصعب أن ينتهي المراقب إلى استنتاج حول ما هو ترامبي في قرارات واشنطن، وما هو أميركي حقيقي، يمثل الدولة العميقة في الولايات المتحدة. غير أن قرار ترامب يمثل« الأمر الواقع«، فيما تحرك تركيا العسكري في شمال سوريا يمثل أيضا »الأمر الواقع«. وعلى هذا يجد العرب أنفسهم مضطرين للرد بـ »أمر واقع« بديل.

لم توفر موسكو جهدا في دعوة العرب إلى تطبيع علاقاتهم مع سوريا. لم يخف ذلك على مدى السنوات الأخيرة وزير الخارجية، سيرغي لافروف، الذي جدد المطالبة بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية. ولا يخفي نقل الرئيس البشير لزيارة دمشق بطائرة روسية ورشة موسكو في هذا الصدد. سيكون للتطبيع العربي مع نظام دمشق روحية تأخذ بعين الاعتبار خيارات روسيا في سوريا. ابتعد العرب عن التدخل بالشأن السوري منذ أن بات للولايات المتحدة وجود علني رسمي داخل سوريا. انسحب العرب تاركين لعملية استانا وحدها احتكار الترتيبات العسكرية والسياسية لتحديد لراهن سوريا ومستقبلها. لم ينسحبوا أمام إيران وتركيا، بل أمام ما ترسمه روسيا من داخل استانا وخارجها.

العرب والحل السوري

قد يفهم أن الانسحاب الأميركي من سوريا يصب في مجمله لصالح تركيا. لكن العقل الاستراتيجي لا يمكن أن يفهم الأمر إلا بصفته إقرارا بالنفوذ الروسي في سوريا وربما في المنطقة بمجملها. تنسحب واشنطن من سوريا وتستعد لفعل ذلك من أفغانستان على نحو يغير الخرائط الكبرى لصالح روسيا. تركيا، التي سرّها أن رئيسها هو أول من أبلغه ترامب بقراره الانسحاب من سوريا، مضطرة أن تقر بأنه سيكون لروسيا اليد العليا والطولى والطليقة في إدارة الشأن السوري. العرب من جهتهم لا يريدون أن يروا إلا هذا الجانب، ويسعون هذه الأيام إلى الجهر بالانخراط داخل خرائط روسيا السورية، حتى لو اضطرهم ذلك إلى العبور نحو سوريا، كما البشير، بقطار موسكو نحو دمشق.

أحد الأمثلة الشامية يقول »اللي يحضر السوق بتسوّق«. العرب يأتون هذا السوق متأخرين، يأتونه بعد أن هجره ترامب، يأتونه من مداخل ضعيفة ومن أبواب لا تفتح إلا بتوقيت التجار الكبار.

اتخذ العرب مواقف من نظام الأسد على خلفية خرائط دولية أوحت بذلك. وسيتخذ العرب مواقف جديدة للتعامل مع مشق وفق خرائط جديدة استحدثت واستجدت داخل المشهد الدولي العام. وكما التزم العرب بالسقوف التي تفرضها إرادة الدول الكبرى والتفاهمات في ما بينها، فإنهم سيقاربون أمر دمشق وفق ما هو مطلوب في المستقبل من دمشق.

لن يكون مهما ما يريده نظام دمشق وما يطمح إليه المعارضون. بكلمة أخرى لن يقف العالم عند ما يريده السوريون. يُرسم مصير سوريا بلهجات غير سورية. يغيب العامل السوري في عملية استانا وسيكون صوريا مصطنعا إذا ما أعيد إنعاش عملية جنيف. على هذا يعود العرب ليكونوا جزءا من عزف غير سوري ينظم نشيد سوريا المقبل.

سيكون من المفيد تأمل التحولات العربية بصفتها تدشينا لعصر عربي آخر يسعى لإقفال مرحلة »الربيع العربي« والعبور نحو منظومة سياسية مستقرة تأخذ بعين الاعتبار لغة السياسة والواقعية ومنطق المصالح. والظاهر أن ذلك ليس تحولا عربيان بل دوليا أيضا يود مقاربة مختلفة تنهي مآسي الارهاب وظواهر اللجوء التي هزّت قلاع أوروبا.

اتخذ العرب مواقف من نظام الأسد على خلفية خرائط دولية أوحت بذلك. وسيتخذ العرب مواقف جديدة للتعامل مع مشق وفق خرائط جديدة استحدثت واستجدت داخل المشهد الدولي العام. وكما التزم العرب بالسقوف التي تفرضها إرادة الدول الكبرى والتفاهمات في ما بينها، فإنهم سيقاربون أمر دمشق وفق ما هو مطلوب في المستقبل من دمشق.

قد يفهم أن الانسحاب الأميركي من سوريا يصب في مجمله لصالح تركيا. لكن العقل الاستراتيجي لا يمكن أن يفهم الأمر إلا بصفته إقرارا بالنفوذ الروسي في سوريا وربما في المنطقة بمجملها. تنسحب واشنطن من سوريا وتستعد لفعل ذلك من أفغانستان على نحو يغير الخرائط الكبرى لصالح روسيا. تركيا، التي سرّها أن رئيسها هو أول من أبلغه ترامب بقراره الانسحاب من سوريا، مضطرة أن تقر بأنه سيكون لروسيا اليد العليا والطولى والطليقة في إدارة الشأن السوري.

بيد أن المناورة العربية تبقى تجريبية تأخذ أشكالا خلفية خجولة. فالعرب، كما روسيا كما إيران كما تركيا نفسها، ما زالوا يحاولون قراءة الموقف الأميركي الضبابي من شأن سوريا وشؤون المنطقة. يكشف التخبط داخل الإدارة الأميركية نفسها، عن نمط حكم لا يمكن الركون إليه لبناء سياسة خارجية أميركية متماسكة، ليس في قضايا المنطقة، بل في ملفات عالمية أخرى.

على أن العواصم العربية المعنية بالشأن السوري مضطرة أن تباشر عملية كبرى لإعادة تموضع يسببه حرد ترامب وعزوفه عن مواصلة اللعب مع اللاعبين فوق الأراضي السورية. استنتجت تلك العواصم أن الأمر جدي في واشنطن، يأخذ شكلا نهائيا على ما كشفت استقالة وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس والمبعوث الدولي للتحالف الدولي بريت ماكغورك. واستنتجت العواصم أن قرار ترامب الذي جاء أثناء اتصال هاتفي مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان يصبّ في بعده الآني، وربما الاستراتيجي الطويل الأمد، لصالح الأجندة التركية في سوريا، وربما أيضا في المنطقة برمتها.

رحلة البشير إلى سوريا هي عمل يصب في حسابات روسيا وليس حسابات العرب. ترسل موسكو من خلال الرئيس السوداني رسائل للأميركيين والأوروبيين أن العرب يستعدون للتطبيع مع نظام الأسد لعل في تلك الرسائل ما يخفف من عناد العالم الغربي في مقاربته لمسائل إعادة الإعمار واللاجئين. تقول موسكو لواشنطن إن خرائطها للتسوية ناجعة، ليس فقط في ترويض طبائع الأتراك والإيرانيين، بل هي بدأت تعرض للواجهات الأولى لعملية ترميم علاقات النظام العربي بنظام دمشق.

 *  صحافي وكاتب سياسي لبناني

العدد 89 –شباط 2019