بيت لحم دينامية مستمرة على رغم ويلات التاريخ

بيروت – جاد الحاج

بيت لحم، مهد السيد المسيح، مدينة فلسطينية ذات اصول كنعانية وتاريخ يعود إلى 4000 سنة قبل الميلاد. يتحدر اسمها من اسم الاله صلخموش الكنعاني، وتعني الخبز بالسريانية، او بيت الخبز. وفي العربية يقال: هل أَلْحَمَ الزرعُ؟ اي هل نضج فيه القمحُ؟ فاللحم والخبز واحد بالمعنى الغذائي لدى الامم المتحدرة من كنعان. سكن الكنعانيون المدينة سنة 2000 ق.م، ويروى أن النبي يعقوب مر بها في طريقه إلى الخليل، وماتت زوجته راحيل في مكان قريب منها يعرف اليوم بقبة راحيل. وفي بيت لحم ولد الملك داوود. وكانت في العصور القديمة قرية متواضعة تكتنفها الأودية العميقة من جهاتها الثلاث وتنتشر فيها حقول القمح. وفي القرن الرابع عشر قبل الميلاد ظهرت في مخطوطات تل العمارنة منطقة اسمها بيت لحم عند الحديث عن أنباء الحروب التي قامت جنوب القدس.

تقع بيت لحم ضمن سلسلة جبال القدس، وترتفع عن سطح البحر 775 مترا. وتعتبر تاريخيا منطقة مسيحية السكان، إلا أن معظم سكانها اليوم هم من المسلمين، مع انها لا زالت موطنا لواحد من أكبر المجتمعات المسيحية الفلسطينية. ولها دور بارز في القطاع الاقتصادي الفلسطيني من خلال السياحة التي تزداد أثناء موسم الاعياد حيث يتدفق الحجاج إلى كنيسة المهد بالمئات. ويشغلون أكثر من 30 فندقا ناهيك عن ورشات الحرف اليدوية والمساكنات المستقلة.

اشتهرت بيت لحم بفن التطريز على مدى قرون، وتميزت الوان فساتينها بالتألق اللامع مع معطف بلا أكمام من الصوف المنسوج محليا، يلبس فوق الفساتين للمُناسبات الخاصة، وهو مصنوع من الحرير المُقلم مع أكمام مُجنحه وسترة قصيرة او »تقصيرة« باتت معروفة باسم سترة بيت لحم. معظمها من المخمل أو الجوخ، وعادة تكون مع تطريز كثيف. وقد تأثر التطريز التلحمي بجمع الفضة والذهب وخيوط الحرير لتزيين واجهة وجوانب وأكمام ثياب الزفاف التقليدية. وتمتلئ تلك التصماميم المُميزة بقطب وأشكال فنية تستخدم الخيطان الحريرية البهية الألوان المشابهة لصاميم الزخارف والأزياء الكنسية، والزينة الرسمية والأوسمة للملابس العسكرية العثمانية والبريطانية القديمة.

 في أيلول )سبتمبر( سنة2014، نشرت بلدية بيت لحم ومركز حفظ التراث الثقافي كتاب »المركز التجاري في مدينة بيت لحم ذ شارع بولس السادس« من إعداد المؤرخ خليل شوكة. ثمانون صفحة من الورق المصقول، تحتوي 59 صورة تاريخية بين منتصف القرن التاسع عشر وأواخر القرن العشرين. وينحصر الكتاب في سرد التطور العمراني لبيت لحم في المنطقة الممتدة بين ساحة النجمة وباب الزقاق، على جانبي شارع بولس السادس، او »المركز التجاري في بيت لحم« الذي يؤمه سكان مدن وقرى المنطقة، إضافة إلى الزوار والسياح الذين يقصدون المدينة. ويهدف الكتاب إلى وصف الدافع والنشاط التجاريين في بيت لحم القديمة، منذ النواة الأولى لهما اي منذ نهاية القرن التاسع عشر، حتى تاريخه.

 استعرض شوكة ما كتبه الرحالة الأوروبيون عن بيت لحم خلال أواسط القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ويكاد هؤلاء الرحالة يجمعون على أن بيت لحم كانت مركزا تجاريا-سياحيا، يعمل أهلها، في الصناعات اليدوية التي يتقنها معظم أفراد العائلة؛ كخشب الزيتون والصدف وغيره. كما يؤكدون على أن شوارعها وأزقتها كانت تشهد حركة دؤوبة مصدرها الوافدون من القرى المجاورة.

ويشير الرحالة إلى أن بيت لحم سبقت غيرها من المدن على المستوى الحضاري؛ ففي حوالى النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان فيها خمسة عشر دكانا تبيع البضائع المختلفة مثل الأحذية، وبعض الأعشاب البيطرية، وفيها مستشفى. واشتهرت بيت لحم بالتخصص في صناعة الخمر والعسل، وكانت تربية الماشية ذات شأن فيها لارتباطها بالقبائل العربية من حولها.

وكانت المدينة محور ومركز النشاط الاقتصادي لجميع النواحي والقرى المحيطة، علي راسها تجارة الحِرَف التقليدية اليدوية والتذكارات الدينية والسياحية المصنوعة من الصدف وخشب الزيتون وحجر موسى مثل الصلبان والمسابح التي راجت كثيرا عن طريق الاتجار بها في الدول الأوروبية.

أما أهالي بيت لحم، فقد كانوا يتكلمون لغات مختلفة وخاصة الباعة، علما بأنهم أميين. وكانوا يمتلكون قيما راسخة، أهمها: عدم القيام بالأشغال من الأمور المعيبة. وبالتالي؛ فإنهم بجِدّهم واجتهادهم تمكنوا من أن يجعلوا لبلدتهم أهمية تجارية في البلاد من حولهم. وفي أواخر القرن التاسع عشر كان السوق التجاري الرئيس للمدينة عبارة عن ساحة المهد وشارع النجمة بالإضافة إلى المحلات حوله.

كما يتبين من هذا الكتاب أن المنطقة، قيد الدراسة، شهدت تغيرات دراماتيكية عبر القرن الماضي، من حيث الهدم والبناء، والترميم، ثم إعادة الهدم وإعادة البناء في الحقب الزمنية المختلفة. وذلك لرغبة المخططين والمستثمرين في أن تبدو مدينتهم بأجمل حلّة كبلد سياحي وكمركز تجاري.

هناك العديد من التسميات والمسميات التي تتحدث عن نفسها؛ ولا يحتاج المرء لجهد كبير للبحث في أصلها، كساحة المهد، وشارع النجمة، وشارع بولس السادس، والجامع العمري، والأحواش المختلفة المنسوبة إلى العائلات التي تمتلكها و/أو تقطنها. إلا أنه من الطريف أن نشير إلى تسمية »المدبسة« التي تعود تطلق على منطقة طبخ الدبس.

من جانبٍ آخر؛ هناك إشارة إلى أن هذه المدينة، وبالرغم من الحركة التجارية والسياحية الدؤوبة، كانت »مخيفة في الليل« حتى منتصف الأربعينيات، حين كانت تُعج بالضباع بعد الغروب.

أما أهم المحطات التاريخية ذات الصلة بالتحول العمراني والحضاري، فهي«:

1( في عام 1888 أصدر الباب العالي موافقته على إنشاء المستشفى الفرنساوي، باعتباره مؤسسة أجنبية خيرية.

2( العام 1895 صدور الفرمان السلطاني بإنشاء مجلس بلدية بيت لحم الذي تَبِعَه انتخاب أول مجلس بلدي للمدينة.

3( في العام 1898 تم إنشاء مدرسة الألمان )اللوثرية( والكنيسة المرتبطة بها وافتتحت »رسميا« بحضور امبراطور المانيا فيلهلم الثاني.

4( في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تطورت المدينة في ظلِّ الاستقرار النسبي والازدهار التجاري. حيث بدأ الأهالي بالتوسّع في البناء خارج قوس الزرارة.

5( ا دخلت الكهرباء المدينة في نهاية عام 1930.

6( تم تسمية شارع بولس السادس بهذا الإسم في العام 1963؛ بمناسبة زيارة البابا للمدينة في حينه، وكان قبل ذلك يسمى »شارع الحريزات«.

 ويتجول بنا المؤرخ-شوكة، بشكل تأريخي-سياحي-عمراني في أزقة المنطقة من مبنى البلدية، متجها نحو باب الزقاق، مرورا بالعديد من المباني والعمارات والأحواش، مثل: ساحة المهد، الجامع العمري، قوس الزرارة، شارع النجمة، ساحة المنارة، سوق البلدية، زقاق القطان، مفرق الحريزات، ساحة المدبسة، مجمع سعادة، شارع جمال عبد الناصر، حوش دكرت، حوش سلامة، حوش دعيق، حوش موسى دبدوب، حوش القطان، حوش هرماس، عمارة يوسف مسلَّم المالك، وعمارة طلماس، عمارة الجمعية الوطنية الأرثوذكسية، وعمارة ناصر، وعمارة علقم، عمارة كنيسة السريان… الخ.

 تجوال صاخب بعمليات البيع والشراء والتبديل والهدم والبناء واقتلاع الأشجار ونقل المقابر واستبدال الملاعب والساحات بالعمارات الشاهقة، وإقامة مبانٍ ضخمة على أطلال مبانٍ قديمة أثرية.

وبالاستناد إلى الوثائق التاريخية قام -شوكة بجولته الموصوفة أعلاه، وهو يشير إلى عمليات البيع والشراء والتبادل بين أبناء الشعب الواحد، دون النظر إلى الديانة، أو الطائفة، أو العائلة. كما لم تخلُ الجولة من ذكر السنوات والتواريخ التي جرت فيها تلك التغيرات والعمليات التجارية المتبادلة. ولعل طيب هذه العلاقة وقدسيتها تتجلى في وجود هؤلاء كأصحاب أعمالٍ ومصالح، متجاورين، في عمارة واحدة وطابق واحد، بل حتى في شقة واحدة.

خذ مثلا قطعة الأرض المقام عليها فندق »غراند بندك« حاليا، إذ كانت مقبرة حتى العام 1905، حين صدر قرار من الحكومة العثمانية بمنع تواجد المقابر داخل المناطق السكنية، وعلى إثرها نقلت المقبرة إلى موقع باب الزقاق، فقام م بشراء أرض المقبرة نقولا يوسف فقوسه وأقام عليها بعض الغرف وحولها إلى مقهى ومنتزه، ثم أصبح مقرا استأجرته إدارة نادي الشبيبة البيتلحمي عام 1930، الذي قامت سلطة الانتداب الإنجليزي بإغلاقه عام 1932 لأسباب سياسية، ثم استأجره حنا أنطون حنضل ثم محمد مصطفى كنعان )…(، ثم استأجر المكان جليل عيسى اجحا وإخوانه، الذي باع حصته فيما بعد إلى عيسى علي الهريمي، ثم إلى خليل هرماس والياس جحا وشركاه، وبقي كذلك إلى أن تمَّ شراء الأرض من قِبَل إبراهيم خليل البندك وإخوانه، حيث قاموا بهدمه وبنوا فندق غراند بندك الحالي.

ويتضح من هذا التسلسل أن عمليات البيع والشراء ونقل الملكية، كانت تجري بسهولة ويسر بين أبناء الشعب الواحد. كما يتبين لنا أن الانتداب البريطاني كان يقمع الحريات السياسية للفلسطينيين؛ مسيحيين ومسلمين، بلا تمييز.

 ويتضح من نتائج هذه الدراسة أن مدينة بيت لحم تطورت بشكل سريع خلال المائة سنة الأخيرة، ويعزي -شوكة ذلك إلى عدة أسباب، منها:

1- تأسيس رابطة الصناعيين في ثلاثينيات القرن العشرين، التي ركزت الضوء على أصحاب المهن في المدينة، بتشجيع الصناعات، وتخفيض الضرائب.

2- إنشاء شركة الباصات الوطنية لتسيير خط باصات بين بيت لحم والقدس؛ كان له أثر كبير في تنشيط التجارة وفي تنقل المواطنين بالإضافة إلى إنعاش السياحة.

3- قرار المجلس البلدي تحويل شارع المهد من منطقة سكنية إلى منطقة تجارية.

4- تأسيس وافتتاح جامعة بيت لحم كان له تأثير مباشر على النشاط التجاري وانتقال وفتح العديد من المحلات التجارية في محيط منطقة المدبسة والسينما، هذا عدا عن الزيادة الملحوظة في حركة تنقلات الطلبة من مناطق مختلفة داخل المحافظة ومن خارجها كمحافظات: القدس والخليل ورام الله.

5- استلام السلطة الوطنية الفلسطينية لمقاليد الأمور، وما نتج عنها من التوسع التجاري، وفتح مجالات الاستثمار في مختلف المرافق الاقتصادية.

6- ازدياد أعداد العمال الفنيين والحرفيين وعمال البناء الذين من خلال قوتهم الشرائية أنعشوا الاقتصاد المحلي، وأدى إلى توسع النشاط التجاري وتحديث وتطوير المحلات التجارية لخدمة المواطنين وانتشارها في شوارع المدينة بصورة واضحة.

الخلاصة

وسلطت دراسة شوكة الضوء على التطور العمراني والنهضة الحضارية التي عاشتها بيت لحم للفترة الممتدة على مدى القرن العشرين وحتى تاريخه، والتي تبين منها أنها قفزات كمية ونوعية، انتقلت ببيت لحم من بلدة مخيفة ليلا؛ تنتشر الضباع في أزقتها وحاراتها، إلى مدينة الأضواء والسهر والسمر والأمن والأمان. ويعود ذلك إلى قدرة أهلها وقاطنيها والمحيطين بها على الاستجابة لمتطلبات المعاصرة، ناهيك عن قربها من مدينة القدس

 كل ذلك أدى إلى التطور الذي شمل المكان والإنسان. فلم يتوقف الأمر على التطور الحضري للمكان، وإنما انتقل السكان من الأمية التي وصفها الرحالة أعلاه، إلى انتشار العلم والمعرفة فكانت المدارس الأجنبية والمحلية والحكومية والخاصة التي احتضنت أبناء بيت لحم وجوارها، ثم إنشاء جامعة بيت لحم منذ العام 1973، الأمر الذي مكّنهم من امتلاك ناصية العلم والمعرفة.

بقي القول: يتضح من هذا الكتاب أن الباحث قد بذل جهودا مضنية وجادة في البحث عن البيانات التي أرادها لدراسته، كما أن هناك نوّعا، إلى حد ما، في المصادر والمراجع التي استند إليها الباحث في جمع بياناته. وقد كان للصور المرفقة دورها في »إنعاش« الذاكرة التاريخية، وربط الحاضر بالماضي مما شكل دليلا للقارئ- الباحث عن حجم ومستوى تطور المدينة وأحيائها وأزقتها.