الفاتيكان والأزهر: تحولات القرن بين المسيحية والإسلام – البابا فرنسيس في الإمارات والكنيسة تنخرط مع المسلمين لمحاربة لإرهاب

محمد قواص (*)

ثلاثة أيام قضاها البابا فرنسيس في دولة الإمارات العربية. المناسبة شكلت فاصلة مهمة في تاريخ العلاقات بين المسيحية والإسلام، كما في تاريخ العلاقات الإنسانية قاطبة في القرن الواحد والعشرين. يواصل البابا وسيواصل انفتاحه على العالم الإسلامي بما يعزز اللحمة الروحية بين رأس الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان والعالم الإسلامي ويعبد الطريق نحة مزيد من التحاور بين المسيحيين والمسلمين.

يمارس البابا تمارين جديدة، تبدو لافتة إذا ما قورنت بأداء البابا السابق بنديكت السادس عشر الذي ارتكب زلّة لسان عطلت التواصل بين المسلمين والفاتيكان وألقت ظلالا من العتمة والظلال على التقييم الحقيقي للكنيسة المسيحية للدين الإسلامي في تاريخه وراهنه.

وقد تصحح زيارة البابا فرنسيس إلى الإمارات، والتي بدأها في 3 من شهر شباط / فبراير الماضي، بعضا من التوازن في المشهد الحالي الذي يُدار من خلاله العالم عامة والمنطقة خاصة. وقد يتوسل الحدث تصويب الأبجديات التي ترسم العلاقات الدولية، بحيث لا تقتصر على أروقة الدبلوماسية وعتمة الغرف الكبرى، بل يعاد التذكير أن أساس العالم هو الشعوب في حضاراتها ودياناتها وثقافتها وتقاليدها وتنوعها واختلافها، وأن تلك الشعوب، في ما تستبطنه من ذاكرة وما تتوق إليه من طموحات، هي أصل الحكاية الإنسانية وسرّ استمراراها.

وللزيارة معان أخرى في ذلك الزمان الأسود الذي يخترق بلداننا منذ سنوات والذي نخاله لا ينتهي. يحمل البابا في زيارته جرعاً عالية من الأمل بهذا الشرق الأوسط الذي يروج داخله الظلم والعنف والدمار والإرهاب. وقد يقول قائل إن رجل الفاتيكان القوي سيمر في ديارنا في

زيارة البابا للإمارات تعزيز لثقافة الاعتدال والوسطية في العالم الإسلامي

مشهدية عابرة ينشغل بها الإعلام دون أن يكون للأمر أثر في كسر هذا الجموح نحو التطرف والنزوع إلى العدم. لكن الأمر غير ذلك تماماً، ويكفي تأمل مسجد الشيخ زايد الكبير الذي احتضن  »لقاء الأخوة الإنسانية« لاستنتاج البعد العميق للحدث الكبير.

للبابا فرنسيس حكمة في القيام بزيارة للإمارات، هي الأولى لبابا الكاثوليك إلى منطقة الخليج العربي في تاريخ البابوية العتيق. وللإمارات حكمة في أن تقيم على أرضها قداساً، ضخما في مساحته، فريداً في تعدد أعراقه، عميقاً في صداه داخل العالمين العربي والإسلامي. وفيما تروج في عالم هذه الأيام شعاراتُ عيشٍ وقواعد فكرٍ تنفخ في أشرعة العنصرية والشعبوية والدفع باتجاه رفع الحدود وتشييد الجدران بين الشعوب، يبدو حدث الإمارات، في بعده الروحي المسيحي الإسلامي، مفترقا يعوّل عليه ليكون فاصلة في تغيير مجاري التيارات السوداء. ففي الحدث ما يحفز الإنسانية جمعاء للعودة إلى الإيمان بكوكب الأرض قرية واحدة لا بديل لها للجنس البشري من شرقها إلى غربها.

من التبسيط اعتبار حدث الإمارات احتفالية روحية دينية يجتمع داخلها جمع من رجال ونساء ينتمون إلى ديانات الأرض قاطبة. الحدث سياسي بامتياز، يستفز أهل الحكم في عواصم القرار، ويدعوهم إلى إعادة قراءة هذا العالم وفق معطى الموعد في أبو ظبي.

أن يلتقي البابا للمرة الرابعة بشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، وأن يلتقي هذه المرة بأعضاء مجلس حكماء المسلمين، فذلك أن المسيحيين والمسلمين تجاوزوا بحزم مرحلة التوتر التي شوشت العلاقة بين الفاتيكان والإسلام في عهد البابا السابق بنديكت السادس عشر. بدا تقييم البابا السابق متقادماً وبدا تقييم البابا الحالي جب ما سبق من تقييم سلبي متسرّع ومسطح لتاريخ الإسلام ودوره داخل الحضارة الإنسانية.

يعرف البابا فرنسيس أن  »العنف« الذي لاحظه سلفه في الإسلام احتل مرحلة ضبابية في تاريخ المسيحية. عرفت العصور الوسطى ألواناً من التعصّب والتطرّف أقيمت محاكم التفتيش خدمة لها، حتى أن الكنيسة في التاريخ الحديث اتهمت بالتواطؤ مع النازية وارتداداتها في العالم. فإذا ما تخلّصت الكنيسة من شوائبها فإن زجاج الكنيسة في هذا المضمار زجاجي لا يتيح رمي الآخرين بحجر.

على أن في لقاء الفاتيكان والأزهر ما يمكن أن ينبه دعاة الإصلاح في العالم الإسلامي، والأزهر وإمامه خصوصاً، أنه كان على الكنيسة أن تطهر نصوصها مما لم يعد يتّسق مع قيم العصر وقواعده، وأن جدلاً كنسياً داخليا موجعاً انتهى إلى عصرنة المسيحية. تخلّص الفاتيكان (وما زال) من شوائب تراثية وسلوكيات خارجة عن سياق العصر، وبات رافعا لقيم الإنسانية الحديثة في ما أنتجته من نظم حكم، واحترام لمنظومة حقوق الإنسان، وسُبل تداول على السلطة، وموقف حازم ضد النازية والفاشية والعنصرية.

التقى إمام الأزهر بالبابا فرنسيس ثلاث مرات في السابق. تقاطع الرجلان داخل سعي مشترك لرعاية السلم والاستقرار ومكافحة العنف والتطرّف الإرهاب. بدا أن أمر محاربة هذه الآفات الخبيثة هو مسؤولية مشتركة ما بين الكنيسة المسيحية وإسلام العصر الحالي. وبدا أيضا أن للإسلام في العالم عنوان رسمي ومرجعية سامية يمثلها الأزهر في مصر. في ذلك علامة لافتة بإن إسلام هذه الأيام لا تمثله أية مرجعية أخرى في أي بلد إسلامي آخر. وداخل تلك الورشة المشتركة ما يفتح فضاء آخراً لمحاربة الإرهاب في العالم يتجاوز آليات الأمن والعسكر. فإذا ما

البابا وإمام الأزهر د. أحمد الطيب: الحوار الدائم بين المسيحية والإسلام

كان أصل الإرهاب فكر ظلامي ماضوي، فإن معالجة الآفة تستوجب تفريغ خزاناتها الفقهية واللاهوتية والايديولوجية. وإذا ما دفع العالم أجمع، بمسلميه ومسيحيه، وربما مسلميه قبل مسيحيه، ضريبة الإرهاب، فحريّ أن تتولى الكنيسة في الفاتيكان والأزهر في مصر الفلاحة المشتركة داخل حقول روحية لطالما أهملتها قواعد القرن الواحد والعشرين.

يتوجه البابا فرنسيس في الإمارات إلى المهاجرين. يحج البابا إلى هذا البلد حيث تتعايش حوالي 200 جنسية تحمل لغاتها ولهجاتها وموسيقاها وروائحها وأديانها وتقاليدها. هم مهاجرون منهم مليون مسيحي يعيشون تجربة الهجرة وفق النمط الذي ارتآه أهل الإمارات في تجربة نادرة، تكاد تكون فريدة، في تسامحها واعتدالها واحتضانها للآخر.

نمت الكنائس في الإمارات كما تنمو المساجد، واقيمت المعابد على تنوّع ملامحها، على النحو الذي يتيح للوافدين ممارسة عباداتهم وشعائرهم بحرية كاملة. بات أمر ذلك من طبيعة البلد. وبات ذلك النموذج علامة تكاد تكون مضادة للتيارات التي تزدهر في العالم ضد الهجرة وعبق المهاجرين.

يردُ البابا فرنسيس في الامارات على حائط الرئيس الأميركي دونالد ترامب على حدود بلاده مع المكسيك. يبشّر بابا الفاتيكان في أبو ظبي بقيم يهددها صعود اليمين المتطرف ورواج الشعبوية في العالم. فإذا ما كان التعدد الاثني والديني والاجتماعي من الطبائع العادية لدولة الإمارات منذ قيامها، فإن البابا يبشر بالأمر من الإمارات بصفته حدثا إنسانياً وجب تعميمه وإخراج حصريته من الأبجديات الإماراتية المحلية.

يسافر البابا من روما باتجاه الإمارات وفي ذهنه أنه ينتقل إلى  »أرض الإسلام«. يحلّ البابا ضيفا في أرض مسلمة تستضيف مسيحيين بتسامح لا يشبه تلك الواجهات التي تصدرها نسخ داعش والقاعدة من الإسلام. يلحظ البابا حجم التحولات الحاصلة في كل المنطقة باتجاه التخلّص من الأصولية والتطرّف والعودة إلى الوسطية والاعتدال. يزور البابا الإمارات وهو يعرّف كم أن نموذج تلك الوسطية بات صلباً وواعداً بعد التحولات التاريخية الكبرى التي عرفتها السعودية في السنوات الأخيرة. دخلت المملكة حداثة اجتماعية تطال ثقافة الفرد والعائلة ومؤسسات الدولة. تنتقل السعودية من عصر  »الصحوة« في التشدد إلى عصر آخر لم يكن السعوديون يحلمون به قبل سنوات.

على قاعدة هذا التحوّل ينتقل البابا إلى الجزيرة العربية. يدق البابا في الإمارات أبواب المنطقة على بعد قريب من أرض النبوة. لم يعد أحد يستغرب أن ينتقل ممثل الكنيسة الكاثوليكية الأعلى لزيارة السعودية يوما ما، قد لا يكون بعيداً. البابا نفسه بات يعرف ذلك، وبات يستنتج أن المنطقة أضحت طاردة للإرهاب، وبات يدرك أن للإرهاب حكايات تقررها أجندات الدول الملتبسة وأجهزتها الخبيثة، وليست من صناعة الكتب السماوية وعباد الله الصالحين.

سيحتاج العالم إلى مزيد من الوقت للانتقال من ثقافة كونية إلى أخرى. وجب على المناسبات الكبرى أن تتحول إلى سلوك يومي، ووجب على وثيقة الفاتيكان والأزهر أن تفرض على الساسة سلوكا آخر، بحيث يصبح عنوان العالم التفاهم على قاعدة أن البشر سواسية مهما اختلفت أعراقهم وألوانهم ولغاتهم وأديانهم.

يحمل البابا في زيارته جرعاً عالية من الأمل بهذا الشرق الأوسط الذي يروج داخله الظلم والعنف والدمار والإرهاب. وقد يقول قائل إن رجل الفاتيكان القوي سيمر في ديارنا في مشهدية عابرة ينشغل بها الإعلام دون أن يكون للأمر أثر في كسر هذا الجموح نحو التطرف والنزوع إلى العدم. لكن الأمر غير ذلك تماماً، ويكفي تأمل مسجد الشيخ زايد الكبير الذي احتضن  »لقاء الأخوة الإنسانية« لاستنتاج البعد العميق للحدث الكبير.

يعرّف البابا فرنسيس أن  »العنف« الذي لاحظه سلفه في الإسلام احتل مرحلة ضبابية في تاريخ المسيحية. عرّفت العصور الوسطى ألواناً من التعصّب والتطرّف أقيمت محاكم التفتيش خدمة لها، حتى أن الكنيسة في التاريخ الحديث اتهمت بالتواطؤ مع النازية وارتداداتها في العالم. فإذا ما تخلّصت الكنيسة من شوائبها فإن زجاج الكنيسة في هذا المضمار زجاجي لا يتيح رمي الآخرين بحجر.

في لقاء الفاتيكان والأزهر ما يمكن أن ينبه دعاة الإصلاح في العالم الإسلامي، والأزهر وإمامه خصوصاً، أنه كان على الكنيسة أن تطهر نصوصها مما لم يعد يتّسق مع قيم العصر وقواعده، وأن جدلاً كنسياً داخليا موجعاً انتهى إلى عصرنة المسيحية. تخلّص الفاتيكان (وما زال) من شوائب تراثية وسلوكيات خارجة عن سياق العصر، وبات رافعا لقيم الإنسانية الحديثة في ما أنتجته من نظم حكم، واحترام لمنظومة حقوق الإنسان، وسُبل تداول على السلطة، وموقف حازم ضد النازية والفاشية والعنصرية.

عناوين خطاب البابا في  »مؤتمر الأخوّة الإنسانية«

رفض العنف

»يجب أن تُدان، وبدون تردّد، جميع أشكالِّ العنف، لأنّ استعمال اسم الله لتبرير الكراهية والبطش ضدّ الأخ، إنما هو تدنيسٌ خطيرٌ لاسمه. فلا وجود لعنفٍ يمكن تبريره دينيًّا.

لذلك أرغب في التعبير عن تقديري لالتزام هذا البلد (الإمارات) في الموافقة على حريّة العبادة وضمانها، مواجهًا التطرّف والكراهية. بهذه الطريقة، فيما تُعزَّز الحريّة الأساسيّة للمرء بإعلان إيمانه الشخصي، والتي هي ضرورة جوهريّة كي يحقّق الإنسان ذاته، يتمُّ السهر أيضًا حتى لا يتمَّ استغلال الديانة، وتتعرّض لخطر نكران ذاتها بقبولها للعنف والإرهاب«.

الحرية الدينية

 »إن كنّا نؤمن بوجود العائلة البشريّة، فيجب بالتالي المحافظة عليها، كعائلة. وكما في كلّ عائلة، ذلك يكون أوّلًا من خلال حوار، يوميّ وحقيقي. هذا الأمر يستلزم هويّة شخصيّة لا يجب التخلّي عنها لإرضاء الآخر. ولكنّه يتطلّب في الوقت عينه شجاعة الاختلاف التي تتضمّن الاعتراف الكامل بالآخر وبحريّته، وما ينتج عنه من التزام ببذل الذات كي يتمّ التأكيد على حقوقه الأساسيّة، في كلِّ مكان، ومن قِبَل الجميع. لأننا بدون حريّة لا نكون بعد أبناء العائلة البشريّة وإنما عبيد.

من بين الحرّيات، أرغب في تسليط الضوء على الحريّة الدينيّة. فهي لا تقتصر على حريّة العبادة، بل ترى في الآخر أخًا بالفعل، وابنا لبشريّتي نفسها، ابنا يتركه الله حرًّا، ولا يمكن بالتالي لأيّة مؤسّسة بشريّة أن تجبره حتى باسم الله«.

الجسور بين الشعوب

 »ليس هناك من بديل آخر: إمّا نبني المستقبل معًا وإلّا فلن يكون هناك مستقبل. لا يمكن للأديان، بشكل خاص، أن تتخلّى عن الواجب الملحّ في بناء جسور بين الشعوب والثقافات«.

العدالة

 »العدالة تكون مزيفةً إنْ لم تكُن كونيّة. فالعدالة الموجهّة فقط إلى أفراد العائلة، وأبناء الوطن، ومؤمني الديانة نفسها، هي عدالةٌ عرجاء، إنها ظلم مقنّع«.

المساواة في الحقوق

 »أتمنّى أن تبصر النور، ليس هنا فقط بل في كلّ منطقة الشرق الأوسط الحبيبة والحيويّة، فرصٌ ملموسة للقاء: مجتمعاتٌ يتمتّع فيها أشخاصٌ ينتمون إلى ديانات مختلفة بحقّ المواطنة نفسه«.

السلام

 »في هذه المرحلة التاريخية الدقيقة، يقع على عاتق الديانات، ربّما أكثر من أيّ وقت مضى، واجب لا يمكن إرجاؤه بعد اليوم: الإسهام بشكل فاعل في تجريد قلب الإنسان من السلاح. إن سباق التسلّح، وتمديد مناطق النفوذ، والسياسات العدائيّة، على حساب الآخرين، لن تؤدّي أبدًا إلى الاستقرار. الحرب لا تولّد سوى البؤس، والأسلحةُ لا تولّد سوى الموت.

إن الأخوّة البشريّة تتطلّب منّا، كممثّلي الأديان، واجبَ حظر كلّ تلميح إلى الموافقة على كلمة (حرب). دعونا نعيد هذه الكلمة إلى قسوتها البائسة. فأمام أعيننا نجد نتائجها المشؤومة. أفكّر بنوع خاص باليمن، وسوريا والعراق وليبيا. لنلتزم معًا، كأخوة في العائلة البشريّة الواحدة التي شاءها الله، ضدّ منطق القوّة المسلحة، ضدّ تقييم العلاقات بوزنها الاقتصادي، ضدّ التسلّح على الحدود وبناء الجدران وخنق أصوات الفقراء«.

عناوين خطاب الإمام الأكبر الدكتور أحـمـد الطيب شيخ الازهر في  »مؤتمر الأخوّة الإنسانية«

الإرهاب

 »وكان الأمل أن تطُل علينا الألفية الثالثة، وقد انحسرت موجات العنف والإرهاب وقتلِ الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، ولكن خاب الأمل مرة ثالثة حين دهمتنا حادثة تفجيرِ برجي التجارة في نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر من مطلع القرن الحادي والعشرين، والتي دفع الإسلام والمسلمون ثمنها غاليًا، وأُخذ فيها مليار ونصف المليار مسلم بجريرة أفراد لا يزيد عددهم على عدد أصابع اليدين، فقد استُغلَّت هذه الحادثة استغلالًا سلبيًا في إغراء  »الإعلام« الدولي بإظهار الإسلام في صورة الدين المتعطش لسـفك الدِّماء، وتصوير المسلمين في صورة برابرة متوحشين اصبحوا خطرًا داهمًا على الحضارات والمجتمعات المتحضرة، وقد نجح هذا الإعلام في بعث مشاعر الكراهية والخوف في نفوس الغربيين من الإسلام والمسلمين، وسيطرت عليهم حالة من الرُّعب ليس من الإرهابيين فقط، بل من كل ما هو إسلامي جُملةً

الوثيقة

 »ما تسالمنا عليه هو:

أن الأديان الإلهيَّة، بريئة كل البراءة من الحركات والجماعات المسلَّحة التي تُسمَّى حديثًا بـ  »الإرهاب«، كائنًا ما كان دينها أو عقيدتها أو فكرها، أو ضحاياها، أو الأرض التي تُمارِس عليها جرائمَها المنكرة.. فهؤلاء قتلة وسفاكون للدِّماء، ومعتدون على الله ورسالاته.. وأن على المسؤولين شرقًا وغربًا أن يقوموا بواجبهم في تعقُّب هؤلاء المعتدين والتصدي لهم بكل قوة، وحماية أرواح الناس وعقائدهم ودور عباداتهم من جرائمهم.

كما تسالمنا على أن الأديان قد أجمعت على تحريم الدِّماء، وأن الله حرَّم قتل النفس في جميع رسالاته الإلهية: صرخ بذلك موسى عليه السلام في الوصايا العشر على جبل حوريب بسيناء وقال:  »لاَ تَقْتُلْ! لاَ تَزْنِ! لاَ تَسْرِقْ!« ( )، ثم صدع به عيسى عليه السلام من فوق جبل من جبال الجليل، بالقرب من كفر ناحوم بفلسطين،  »في كنزه الأخلاقي النفيس« الذي يُعرف بموعظة الجبل، وقد أكَّدَ السيد المسيح ما جاء به موسى، وزاد عليه في قوله:  »سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ، فإنَّ مَنْ يَقتل يَسْتَوْجِبَ حُكْم القضاء، أما أنا فأقول لكم: من غضب على أخيه استوجب حكم القضاء (…) ومن قال له: يا جاهل استوجب نار جهنم«( )، وجاء محمد وأعلن للناس من فوق جبل عرفات في آخر خطبة له تُسمَّى خطبة الوداع، أعلن ما أعلنه أخواه من قبله، وزاد أيضًا وقال:  »أيُّها النَّاسُ، إنِّي والله ما أدري لعلِّي لا ألقاكم بعدَ يومي هذا، بمكاني هذا، فرحم الله امرءًا سمع مقالتي اليوم فوعاها (…) أيُّها النَّاسُ، إنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضكم عليْكُم حرامٌ، كحُرمةِ يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، وستلقَونَ ربَّكم، فيسألُكم عن أعمالِكم (…) أَلاَ لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغَائِبَ«. وكان يقول من فرَّق بين والدة وولدها فرَّق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة.. ومَنْ أشارَ إلى أخيهِ بحديدَةٍ، فإِنَّ الملائِكَةَ تلْعَنُهُ، وإِنْ كانَ أخاهُ لأبيهِ وأُمِّهِ«.

 »هذا إلى عشرات الآيات القرآنية التي تحرم قتل النفس، وتعلن أن من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.

وتلاحظون حضراتكم وحدة الخطاب الإلهي ووحدة معناه، بل وحدة المنصَّات التي خطب عليها هؤلاء الأنبياء الكرام، وهي: جبل الطور بسيناء في مصر، وجبل من الجبال في فلسطين، وجبل عرفات بمكَّة في جزيرة العرب.«

النصوص

 »على أن هـذا الانحراف الموظَّف في فهم النصوص ليس قاصرًا على نصوص الأديان واستغلالها في العدوان على الناس، بل كثيرًا ما يحـدث مثله في أسواق السياسة، حين تُقرأ نصوص المواثيق الدولية المتكفلة بحفظ السلام العالمي قراءة خاصَّة تبرر شنَّ الحروب على دول آمنة، وتدميرها على رؤوس شعوبها، ولا مانع بعد أن تقضي هذه السياسات شهواتها العدوانية البشعة.. لا مانع من الاعتذار للثكالى واليتامى والأرامل بأنها أخطأت الحساب والتقدير. والأمثلة على ذلك واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.

من أجـل ذلك نادينـا في هـذه الوثيقـة  »بوقـف اسـتخدام الأديان، والمذاهب، في تأجيج الكراهية والعنف والتعصُّب الأعمى، والكفِّ عن استخدام اسم الله لتبرير أعمال القتل والتشريد والإرهاب والبطش، وذكَّرنا العالَم كله بأن الله لم يخلق الناس ليُقْتَلوا أو يُعذَّبوا أو يُضيَّق عليهم في حياتهم ومعاشهم… والله –عز وجل- في غنى عمَّن يدعو إليه بإزهاق الأرواح أو يُرهب الآخرين باسمه«.

المسيحية والإسلام

 »يجب علينا نحن المسلمين ألا ننسى أنَّ المسيحيَّةَ احتضنت الإسلام، حين كان دينا وليدا، وحمته من طغيان الوثنية والشِّرك، التي كانت تتطلع إلى اغتياله في مهده، وذلك حين أمر النبيُّ المستضعفين من أصحابه، وهم أكثر تابعيه حين اشتد عليهم أذى قريش وقال لهم:  »اذهبوا إلى الحبشة فإن بها ملكًا لا يُظلم أحد في جواره« وقد استقبلهم هذا الملك المسيحي في دولته المسيحية، وأكرمهم وحماهم من قريش، ثم أعادهم إلى المدينة المنورة بعد أن اشتد عود الإسلام واستوى على سوقه.

وكلمة أخرى لإخوتي المسيحيِّين في الشرق: أنتم جزء من هذه الأُمَّة، وأنتم مواطنون. ولستم أقليَّة، وأرجوكم أن تتخلصوا من ثقافة مصطلح الأقليَّة الكريه، فأنتم مواطنون كاملو الحقوق والواجبات، واعلموا أن وحدتنا هي الصخرة الوحيدة التي تتحطم عليها المؤامرات التي لا تفرق بين مسيحي ومسلم إذ جد الجد وحان قطف الثمار«.

المسلمون في الغرب

 »كلمتي للمواطنين المسلمين في الغرب أن اندمجوا في مجتمعاتكم اندماجًا إيجابيًّا، تحافظون فيها على هويتكم الدِّينيَّة كما تحافظون على احترام قوانين هذه المجتمعات، واعلموا أن أمن هذه المجتمعات مسؤوليَّة شرعيَّة، وأمانة دينيَّة في رقابكم تُسألون عنها أمام الله تعالى، وإن صدر من القوانين ما يفرض عليكم مخالفة شريعتكم فالجأوا إلى الطُّرق القانونيَّة، فإنها كفيلة بردِّ الحقوقِ إليكم وحماية حريتكم.

كما أقول لشباب العالَم في الغرب والشرق: إن المستقبل يبتسم لكم، وعليكم أن تتسلحوا بالأخلاق وبالعلم والمعرفة، وعليكم أن تجعلوا من هذه الوثيقة دستور مبادئ لحياتكم، اجعلوا منها ضمانًا لمستقبل خال من الصراع والآلام، اجعلوا منها ميثاقًا بانيًا للخير هادمًا للشر، اجعلوا منها نهاية للكراهية.. عَلِّمُوا أبناءكم هذه الوثيقة فهي امتداد لوثيقة المدينة المنورة، ولموعظة الجبل، وهي حارسة للمشتركات الإنسانيَّة والمبادئ الأخلاقيَّة. وسوف أعمل مع أخي قداسة البابا، فيما تبقَّى لنا من العُمرِ، ومع كل الرموز الدِّينيَّة من أجلِ حماية المجتمعات واستقرارها، وهنا يجب أن أُشيد بملتقى تحالف الأديان لأمن المجتمعات الذي انعقد هنا في أبو ظبي نوفمبر الماضي وحظي بدعمٍ من الأزهر الشَّريف ومن الفاتيكان، وحضره عددٍ من قادة الأديان للقيام بمسؤوليتهم من أجل حماية كرامة الطفل«.

(*) صحافي وكاتب سياسي لبناني

العدد 90 – اذار 2019