العراق حقل تنافس المصالح الأمريكية والإيرانية 

د. ماجد السامرائي

ثلاث أحداث متصلة مع بعضها تتعلق بالوجود الأمريكي في الشرق الأوسط تبدو هامشية لكنها تؤشر الى معالم الاستراتيجية الامركة في عهد الرئيس (دولاند ترامب) حيث يحاول التوازن ما بين شعاره الانتخابي الشهير (أمريكا أولا) وبين متطلبات الدولة العظمى في العالم والتي أعلنت انها وحيدة بعد سقوط الاتحاد السوفتي أوائل تسعينيات القرن الماضي لكنها تراجعت بعد سلسلة من الأحداث الكبيرة حيث فشلت  في مشروع احتلالها للعراق عام 2003 وفشلها الآخر في سوريا وتنامي الدور الإيراني في هذين البلدين.

الحدث الأول الذي حصل الشهر الماضي قرار (ترامب) سحب قواته من سوريا بعد التشابك اللوجستي بين الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا وانفراد البلدان الثلاث من دون أمريكا بترتيبات الحل السياسي في سوريا بعدما قدمته روسيا من مكاسب لوجستية على الأرض فاقت النشاطات الميدانية للمليشيات المسلحة االموالية لإيران.

هذا القرار المفاجئ حتى لأعوان ومساعدي الرئيس الامريكي قد أربك جهات أمريكية سياسية وعسكرية عدة مما جعل (ترامب) يناور بالكلمات في برمجة ذلك الانسحاب وعلاقته باستراتيجة القضاء على  »داعش« لدرجة إنه في خطبتيه حول   »الاتحاد« وأمام ممثلي دول التحالف ضد  »داعش« أعلن بأن القضاء عليه سيعلن خلال أيام وإن لأمريكا الفضل بتخليص خمسة ملايين مدني عراقي من سيطرة واحتلال هذا الخطر الارهابي.

لكن هذا القرار الخاص بالجبهة السورية ارتبط بما يحصل في الملف العراقي من تعقيدات خلقتها تداعيات الاحتلال العسكري الأمريكي المباشر ما بين 2003 الى 2011 وهيمنة الاسلام السياسي على الحكم وعلاقة أحزابه الحاكمة بطهران مما أفقد السياسيتين الداخلية والخارجية العراقيتين من استقلاليتهما وهي العقدة التي كبر حجمها وثقلها في فقدان الاستقرار في البلد ومنعه من الدخول في خطوات الانماء البشري والاقتصادي بما يشيع المحبة والوفاق بدل الكراهية والتعصب والصراع على المناصب من أجل النهب الذي أوصل الناس الى مستويات مأساوية لدرجة إن مدينة البصرة المعروفة بسلة العراق تتحول الى مكب لنفايات إيران وأملاحها.

ولحق حدث قرار الانسحاب من سوريا حدث آخر أعطي في وسائل الاعلام العراقية المحلية أهمية هو الزيارة السرية للرئيس (ترامب) الى العراق وعدم مروره بالقنوات البروتوكولية المعروفة، فقد نزل في القاعدة الأمريكية غرب الأنبار (عين الأسد) متجاهلا المؤسسات الرسمية العراقية ومع إن هذه كانت عادة الرؤساء الأمريكان في تقديم التهنئة لمقاتليهم في الخارج سنويا خصوصاً في العراق  إلا أنها هذه المرة اكتسبت أهمية اعلامية وتعبوية خاصة من جهة اعلام الفصائل المسلحة في العراق التي تنسب لنفسها عنوان  »المقاومة« بوجه أمريكا التي تنفذ في عهد الرئيس الحالي برنامجا قاسيا للعقوبات الاقتصادية تعتقد من خلاله إنها تجبر نظام ولي الفقيه (خامئني) على تغيير سلوكه التوسعي المقلق للعراق ودول الخليج.

فالرئيس (ترامب) التاجر يتعامل في سياساته من منطق الربح والخسارة، وهو لا يريد استخدام القوة العسكرية لخدمة أهدافه وإنما التهديد بها لإجبار الخصم للإذعان لإرادته ويعتقد إن بلاده قدمت تضحيات بشرية واقتصادية كبيرة في العراق، حيث أعلن (البنتاغون) أخيراً بأن حصيلة الخسائر العسكرية البشرية بلغت 4 آلاف و384 جنديا أمريكا فى عمليات حربية إلى جانب 32 ألفا و180 جريحا أصيبوا فى عمليات حربية إضافة الى نفقات مالية يريد الرئيس الأمريكي استرجاع (5 ترليون دولار) صرفها في العراق.

ترامب لا يريد ترك العراق على المستويات السياسية والاقتصادية و يعتقد إن هذا البلد يمكن أن يوفر لشركاته الكثير من الأرباح.

إن الظرف الجديد الذي كبر وتعزز وتصاعد دفع بالقوى المؤيدة لإيران في العراق ان تتصدر المعركة الاعلامية والسياسية ضد ما سمي بالوجود الأمريكي في العراق وهو وجود مبرمج وفق الاتفاقية الاستراتيجية الأمنية التي وقعتهاحكومة نوري المالكي مع الحكومة الامريكية قبيل خروج قواتها عام 2011 وقد تحققت عودة الجنود الأمريكان قرابة(5500) عسكري بين مقاتلي النخبة والمستشارين الاستخباريين عام 2014 في عهد الرئيس (أوباما) إثر احتلال  »داعش« لثلثي الأراضي العراقية وفي مقدمتها (الموصل) وأشارت الوقائع والأحداث خلال حرب  »داعش« بأن القطعات الأمريكية خصوصاً الجوية التي كانت لها الفعالية الكبرى في سماء المعارك قدمت وسائل الدعم اللوجستي لقوات  »الحشد« التي اطلقت كعنوان يغطي فتوى  »الجهاد الكفائي« التي أطلقها المرجع الشيعي (السيستاني) لأتباعه الذي انخرطوا في فصائل مسلحة لمحاربة التنظيم الإرهابي الذي احتل الأراضي العراقية.

والسيد (السيستاني) لم يدعو الى تشكيل  »حشد شعبي« بالمعنى الذي تحقق قبل فترة قصيرة من انتهاء معركة  »داعش« حيث بدأت الفصائل المسلحة ووجهائها السياسيين داخل العملية السياسية تحركاً نشطاً تم على أثره تشريغ قانون داخل البرلمان لشرعنة (الحشد) وهو الأمر الذي خلق فيما بعد ارتباكا داخل الفصائل السياسية داخل البيت  »الشيعي« تبعه الشروع بنفوذ سياسي داخل البرلمان والحكومة من وجود قوة رديفة ذات إمكانيات عسكرية مدعومة من إيران.

مما أوجد قلقاً داخلياً وعربيا ودوليا باحتمالات تعطل مشروع إعادة الاعمار للمناطق المحررة ولجميع مناطق العراق بسبب التخوف من قوة الظل خارج النطاق الرسمي الحكومي التي ترفق شعار  »المقاومة الممانعة« كما ‘ن إدارة (ترامب) تسعى الى تنفيذ سياسة تغيير في العراق لإنهاء هذه الازدواجية مثلما حصل في إيران حين تقدم نفوذ الحرس الثوري على مؤسسات الجيش والأمن وهذا الطلب تم إبلاغه لرئيس الوزراء (عادل عبد المهدي) بضرورة تفكيك  »الحشد الشعبي« وتعزيز دور الدولة، وهذا ما أغضب طهران التي نصبت رئيس الوزراء ورئيسي البرلمان واالجمهورية، فإيران جعلت من الساحة العراقية منطلقات لخوض صراع وحرب الوكالة غي صراعها المؤقت مع أمريكا.

وكان من بين عناصر استثمار التصعيد المحلي من قبل الفصائل العراقية الموالية لطهران استغلال تصربح الرئيس (ترامب) ببقاء قواته في العراق لمراقبة إيران، وهذا التصريح في المنطقين السياسي والقانوني لا يعتبر تهديداً عسكرياً أو أمنيا لإيران من داخل العراق.

وكذلك استغلال عمليات تجوال بعض المقاتلين الأمريكان ببعض شوارع بغداد والموصل والتي تقع في إطار الانتشار العسكري بموافقة الحكومة وليست إعادة الإحتلال كما يشاع في وسائل إعلام فصائل  »المقاومة والممانعة« وبعضها داخل الحكومة والبرلمان مما دفعها للترويج لمشروع إنهاء الاتفاقية الأمنية والعسكرية الامريكية العراقية، وهو مطلب يستخدم غطاء رفض العراقيين للوجود الأمريكي بكافة أشكاله، لكنه يشكل خدمة للإستراتيجية الايرانية للانفراد في العراق.

هناك انقسام سياسي حاصل تجاه الوجودين الأمريكي والإيراني داخل العراق  سببه الرئيسي عدم وجود حكومة قوية تفرض قوتها وإرادتها بقوة القانون كما إن قطاعاً واسعا من العراقيين وبينهم حتى المنخرطين داخل  »الحشد« أخذوا يشعرون بالتعب من حالة التجييش والعسكرة وهم في ذلك يضغطون على تحقيق فرضية العراق المستقل عن النفوذين الإيراني والأمريكي، ولعل التصريحات الاعلامية قبل شهر لأمين عام لواء الفصل العباس (أوس الخزرجي) تؤكد ذلك حيث أعتقل لمعارضته العلنية وفي وسائل الإعلام الوجود الإيراني في العراق مندداً بتصريحات وزير خارجية طهران خلال زيارته الأخيرة للعراق ولقاءاته ببعض ممثلي العشائر ومخاطبته (ترامب)  »نحن هنا أصحاب الأرض باقون وانتم راحلون« مما أثار حفيظة العراقيين بهذا التدخل السافر.

في المقابل صعدت بعض الفصائل الموالية لإيران من لهجتها التصعيدية فيما تصعد طهران من حملتها الاعلامية واستعداداتها العسكرية التي يقودها الحرس الثوري.

ورغم هذه المظهرية العسكرية للفصائل المليشياوية المؤيدة لإيران لكن هناك حراكاً داخل هذه الفصائل خصوصاً الموالية لمرجعية النجف يدعو الى دعم إرادة النظام والدولة العراقية خصوصاً إن المرجع (السيستاني) الذي أطلق دعوته خلال لقائه ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في العراق الى  »ضرورة حصر السلاح بيد الدولة وأن ينبني العراق علاقات حسن الجوار مع الدول المحيطة به« وهذه رسالة واضحة الى رفض هذه الفوضى في المليشيات والى أن تتراجع إيران عن سياساتها التوسعية.

العراقيون يرفضون الوجودين الأمريكي والإيراني، ويريدون عراقاً مستقلا في ظل حكومة مدنية غير مسيسة بالدين والمذهب بل بقوانين العصر المدنية االحافظة للحقوق الانسانية وتشيع المساواة والعدالة.

العدد 90 – اذار 2019