تطبيق استراتيجية المكافحة رهن الإجماع الوطني: لبنان في مواجهة فساده السياسي والاداري

بيروت – غسان الحبال

أخيرا، لبنان الرسمي والشعبي في مواجهة استحقاق الفساد وتحدي مكافحته قبل انهيار »الهيكل« بمن فيه وفوق رؤوس الجميع.. أما السؤال المصيري فهو: هل ينجح لبنان واللبنانيون في إخراج »الفساد«، هذا العنوان العريض الرنان، من إطاره الشكلي كـ»كليشيه« سياسي في بازار التنافس السياسي والحزبي، ليتحول إلى عملية وطنية جامعة تستند إلى أليات لا يمكن لوطن أن يقوم ويتطور من دونها؟

يعتبر توصيف النائب السابق غسان مخيبر للفساد وأسبابه في لبنان وتعقيدات الخروج منه، هو الأكثر تحديدا ودقة، إذ يقول إن »العلة الأولى في لبنان هي في نظام الفساد البنيوي المبني على الزبائنية والمحمي سياسياً، ما يتيح ممارسات فاسدة، لكن مقننة في حالات كثيرة، ومحمية مذهبياً وطائفياً وسياسياً، بحيث تقضي على الحقوق والحريات الديمقراطية ومساواة المواطنين أمام القانون«.

ويقول حول إمكانات مكافحة الفساد وما يعتريها: »بكل أسف الطبقة السياسية الحالية هي الأقوى، وتتجدد، وقادرة على تأمين الغطاء لاستمراريتها عبر قانون الانتخاب، ولا يمكن زعزعتها، إلا بعمل مضنٍ وصعب. وهي لا تعتبر التغيير مطلباً جدياً، ما يتطلب تضافر جهود النزهاء

فؤاد السنيورة: المواجهة وتصحيح الصورة

ضمن تحالف وطني يعتمد الشفافية والمساءلة والمحاسبة«.

ويؤكد مختبر في إطار مكافحة الفساد الحاجة إلى »بناء ثقافة جديدة تسمح باعتماد الأدوات الفعالة. وأراهن على أن المشهد سيغير كثيراً على مستوى الفساد الكبير، إلا أن الأمر يتطلب هيئات رقابية فعالة«.

الفساد »كليشيه« لتصفية الحسابات

ولذلك.فإن عنوان مكافحة الفساد سرعان ما يتحول عند طرحه إلى ما يمكن وصفه بـ»كليشيه« للاستهلاك السياسي والاعلامي بسبب انحرافه وتحوله إلى أداة لتصفية الحسابات وللتصفيات السياسية المحسوبة ومعروفة الاهداف. وسرعان ما تقوم الخلافات بين القوى السياسية المتمثلة في الحكومة والبرلمان على حد سواء، لتضيع عناوين مصيرية كالإصلاح الاقتصادي والمالي وقرارات مؤتمر »سيدر« وتصبح في مهب الريح.

وقد بلغ الاستهلاك السياسي والإعلامي للحملة على الفساد ذروته مع التحاق التيار الوطني الحر وأداته الإعلامية (قناة »أو تي في«) بالحملة التي أثارها أساسا النائب حسن فضل الله (حزب الله) ضد الرئيس فؤاد السنيورة تحت عنوان مصير مبلغ 11 مليار دولار صرفت خلال فترة حكومتي الرئيس السنيورة 2005-2009، بما يوحي بمسؤولية السنيورة عن الفساد الذي يعيث بالبلاد منذ عهوده الأولى، فيما تظهر المستندات المالية أنها صرفت لتسيير شؤون المرافق العامة، وسط إقفال مجلس النواب من جانب رئيسه نبيه بري.

وكانت قناة »أو تي في« التلفزيونية التابعة لـ»التيار الوطني الحر« قد تبنت في مقدمة إحدى نشراتها الإخبارية موقف »حزب الله« والنائب فضل الله من موضوعة الفساد، ما اعتبره رئيس الحكومة سعد الحريري التحاقا لـ»التيار الحر« بحملة »حزب الله« ضد الرئيس السنيورة وكل ما يمثله إرث والده الرئيس الراحل رفيق الحريري، ملوحا بإمكان اعتكافه عن الدعوة لانعقاد مجلس الوزراء، ومعتبرا أنه »إذا كان هناك من ارتكابات فإن وظيفة القضاء ان يقول كلمته بعيدا عن الضغوط السياسية والحملات الاعلامية، واذا كان هناك قضاء غير مسيس فان اي من الاخطاء التي حصلت في الماضي لن يكون احد بريئاً منها سواء كان في السلطة أم خارجها، ولكن السلطة القضائية هي من يحدد ذلك، واذا كان لا بد من فتح صفحات الماضي، فيجب فتح كل الملفات وليس الاستنساب ومحاولة تجريم فريق سياسي لوحده، واذا كان الجميع مستعد لفتح معركة سياسية في البلاد، فتيار المستقبل مستعد لذلك، وعندها يجب ان توضع كل الملفات على الطاولة«.

باسيل يتنصل ويسترضي الحريري

وفي ضوء حديث الرئيس الحريري أمام زواره، والذي تم تسريبه للإعلام، سارع رئيس »التيار الوطني الحر« الوزير جبران باسيل إلى اجراء اتصال بالرئيس الحريري معتذراً عن مقدمة نشرة اخبار تلفزيون »أو تي في« الناطق بلسان التيار، وواضعاً هذه المقدمة في إطار »الاجتهاد الشخصي«، ومؤكداً ان »التيار لا يتبنى ما ورد فيها من هجوم على الرئيس السنيورة، ومن عزف على وتر التفريق بينه وبين الرئيس الحريري«، ومشدداً على وجوب حصر الخلاف ومنع تمدده أو توظيفه سياسياً.

وفي ضوء هذا الاتصال، أكدت مصادر مسؤولة في كل من »المستقبل« و»التيار الحر« ان الاشتباك الاعلامي انتهى في ارضه، وانه ليس نتيجة سبب مباشر او موقف او اجراء من احد الطرفين. وقالت مصادر »المستقبل«: »ان الموضوع انتهى عند هذا الحد، حيث صدرت مواقف معينة جرى الرد عليها، ولن نقول اكثر«، مشيرة إلى ان »لا خوف لا على التسوية الرئاسية ولا على التضامن الحكومي«.

اما مصادر »التيار« فقالت: »ان مقدمة نشرة »او تي في« كانت مجرد قراءة سياسية في موضوع الحسابات المالية جرى فهمها بطريقة خاطئة على انها استهداف للرئيس فؤاد السنيورة وتيار »المستقبل«، ونؤكد ان هذه هي حدود الموضوع وانتهى عند هذا الحد. ولا توجه لدينا

حسن نصر الله: أي مقابل لتبني مكافحة الفساد

لفتح مشكل سياسي او سجال اعلامي«.

وفيما كان المفكر المقرب من تيار »المستقبل« الدكتور رضوان السيد يرى في مقالة له نشرتها صحيفة »الشرق الأوسط« أنه »تبين خلال عامين ونيف مضت، أن منطق »التسوية« الذي أتى بالجنرال ميشال عون رئيسا للجمهورية، إنما هو »عقدٌ« على تقاسم كل شيء بين »حزب الله« وحلفائه، ورئاسة التيار الوطني الحر من دون حلفاء، أو أنّ حلفاء الحزب هم حلفاء الرئيس بما في ذلك النظامين السوري والإيراني«، كان الوزير باسيل يتحرك في اتجاه »حزب الله« وحلفائه للملمة الأوضاع ووقف التدهور السياسي وحصر حملة مكافحة الفساد في مسار إصلاح الإدارة والمؤسسات العامة.

نصرالله يتبنى ريادة المكافحة

إلا أن موقف الأمين العام لـ»حزب الله« السيد حسن نصرالله جاء ليحسم النقاش حول ملف مكافحة الفساد، وذلك في كلمة شرح خلالها أهمية المعركة وجدية »حزب الله« فيها ومخاطرها، واعتبرت مصادر »حزب الله« أن نصرالله أعطى »معركة مكافحة الفساد أهمية لسببين، الأول أنه تحدث عنها بهذه الجدية، وتالياً أصبح التراجع عنها صعباً لأنه يضرب مصداقيته، أما السبب الثاني فهو ربطها بالمقاومة، وربط المعركتين ببعضهما البعض، وهذا يعني أنه ربطها بقدسية ما لدى بيئة الحزب«، وقالت المصادر أن »حزب الله يرغب بتفعيل معركته ضد الفساد إعلامياً، وهذا ما يتولاه نصرالله، وسيتولاه خلال المرحلة المقبلة، إذ لن يخلو أي خطاب له من الحديث عن هذا الملف«، وهذا الأمر يوحي بربط المدى الذي يمكن للحزب أن يذهب إليه في معركة مكافحة الفساد، بنتائج الأحكام النهائية التي يمكن للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان أن تتوصل إليها.

واعتبرت المصادر أن »رفع الحزب لواء مكافحة الفساد كبند أول على جدول أعماله اللبناني، يعني أنه اختار المعركة الأكثر تحدياً واستقطابا للبنانيين الذين أكتوت حياتهم اليومية بمفاعيل الفساد، وأن هذا الخيار يأتي بعدما تحول الحزب جزءاً رئيسياً من تركيبة النظام إثر نجاحه في إيصال رئيس إلى سدة الرئاسة الأولى، وفرض قانون انتخابات نيابية حصد وحلفاؤه بنتيجته أكثرية برلمانية، ترجمها في حكومة يمسك بثلثها المعطل«.

أما إعلان أمينه العام نصرالله توليه ملف الفساد شخصياً، فيعني فوق مصادر »الحزب« أن نصر الله في »ذروة تحدٍ جديد، ويضع رصيده الشخصي والمعنوي على المحك أمام جمهوره ومناصريه وحلفائه، وأمام خصومه في آن، الأمر الذي يدل على جدية القرار وقوة الدفع التي يتكىء عليها«.

وتعليقا على ذلك، يقول أحد النواب المقربين من تيار »المستقبل«، أن ما »يفوت هؤلاء ومعهم الحزب، أن ثمة مسلمات لا بد من أن تتوافر في معركة مكافحة الفساد. أولها، وجود دولة تحكم بقواها الأمنية الشرعية وتبسط سلطتها على كامل أراضيها، وهو منطق يتناقض مع واقع حال الدويلة التي يُشكّلها الحزب في قلب الدولة، والتي أفضت إلى انحلال السلطة وغياب القانون نتيجة عدم تطبيقه بالسواسية على الجميع،

وثاني هذه المسلمات، أن يتمتع من يرفع لواء مكافحة الفساد بصدقية وثقة وتاريخ يسمح له بأن يقود تلك المعركة، فيما لا يخال الكثير من المراقبين أن هذه المواصفات تنطبق على حزب الله، وذلك نتيجة ممارساته وإمساكه بكثير من مفاصل الدولة الحساسة، ولا سيما مرافقه ومرافئه، فضلا عن مطاره، هذا فضلا عن استشراء الفوضى الاجتماعية في مناطق نفوذه، وفي تأمينه غطاء للمتنفذين وأعمالهم غير الشرعية، في غياب قدرة الدولة على ممارسة مهامها«ّ

مكافحة الفساد كمشروع وطني

ومع هدوء الحملة المفتعلة، وحيال جدية الشروط الأوروبية حول ضرورة تطبيق مقررات مؤتمر »سيدر«، بات لمكافحة الفساد درب واحد عنوانه إعلاء شأن الدولة، وما يتطلب ذلك من إعادة بناء مؤسساتها الإدارية على أسس سليمة مرتكزها الكفاءة وليس الولاءات الحزبية والمحسوبيات، وإعادة استعادة هيبة الدولة بمؤسساتها الأمنية والعسكرية والقضائية، وممارسة الحكم الرشيد، والخروج من عقلية الزبائنية، وهي مهمة تحتاج إلى قرار كبير من مختلف القوى الحاكمة وإلى انخراطها الفعلي فيها، وفي مقدمها »حزب الله«، ليس من موقع حامل شعلة مكافحة الفساد لدى الآخرين، بل من موقع قرار العودة إلى أن يكون حزباً لبنانياً بأجندة لبنانية منخرطاً في الدولة اللبنانية يتقيد بالقوانين والأنظمة.

كما أصبح من الملح اليوم أن يأخذ موضوع مكافحة الفساد مساره الجدي بعيدا عن المهاترات والاتهامات المتبادلة بالمسؤولية عن الفساد وانتشاره أفقيا وعموديا، وفعلا بدأ الحديث يتركز أكثر فأكثر حول تحديد مكامن الخلل في القوانين والإدارة والمؤسسات العامة والجهاز البشري

الحريري وباسيل.. وتحدي جمع المتناقضات

العامل فيها، مرورا بتفعيل الأجهزة الرقابية والقضائية، ووصولا إلى تحويل مكافحة الفساد.إلى مشروع وطني تلتحق به جميع القوى في السلطتين التنفيذية والتشريعية بعيدا عن انتماءاتها السياسية والطائفية والمذهبية.

كما تحول الاتجاه مجددا نحو الهدف المركزي الذي يفترض ان تتوافق عليه جميع القوى السياسية في البلاد، وهو اطلاق الخطوات الحيوية الاولى لبدء استجابة لبنان لموجبات الاصلاح المالي والاقتصادي، وانجاز التوافقات الاساسية على تعيينات ضرورية تعتبر حجر الاساس في التعامل مع مقررات »سيدر« التي تم الاتفاق عليها مع الموفد الفرنسي لتنسيق تنفيذ هذه المقررات السفير بيار دوكين.

ويرى النائب السابق غسان مخيبر أن المطلوب لا يقتصر على الإرادة السياسية لأنها وإن توفرت تحتاج إلى الأدوات، وأن الخلاص يكون بتطبيق مشروع الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد وخطتها التنفيذية، التي أطلقتها في العام الماضي وزارة الدولة لشؤون التنمية الإدارية بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الانمائي، تحت عنوان: »إستراتيجية مكافحة الفساد…نحو مستقبل أفضل«.

الاستراتيجية الوطنية تفرض ذاتها

ويعرّف مشروع الاستراتيجية مفهوم الفساد ويحلل أسبابه في لبنان كما يحدد اربعة اهداف استراتيجية رئيسية هي ارساء الشفافية، تفعيل المساءلة، الحد من الاستنسابية في عمل الادارة، منع الافلات من العقاب. كما يطرح الآليات والشروط المسبقة اللازمة لانجاز الاستراتيجية ويقدم ثلاثاً وستين توصية، اثنان وثلاثون منها إلى الحكومة بأجزائها الثلاثة التنفيذية والتشريعية والقضائية، اضافة إلى عشرين توصية للهيئات الرقابية المستقلة واحدى عشرة توصية تكميلية مشتركة بين كل القطاعات.

واهم هذه التوصيات:

ـ حماية نزاهة إدارة الموارد البشرية في القطاع العام

ـ تعزيز نزاهة الصفقات العمومية

ـ تعزيز دور النظام القضائي في مكافحة الفساد

ـ تعزيز دور الأجهزة الرقابية في مكافحة الفساد

ـ تعزيز مشاركة المجتمع في بناء ثقافة النزاهة

ـ الوقاية من الفساد على المستوى القطاعي

وتكمن أهمية الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد في كونها اول وثيقة واستراتيجية رسمية محكمة من نوعها في تاريخ البلاد، تُعنى بمكافحة الفساد بشكل متخصص ومحدد، وتتبنى رؤية متكاملة لمكافحة الفساد تجمع بين التوعية والوقاية والمعاقبة، اضافة إلى انها لا تتوقف عند المطالبة بإقرار القوانين أو عند عموميات مكافحة الفساد، بل تحرص على دعم تطبيق تلك القوانين وتوفر سبلا إضافية لبلوغ الأهداف المرجوة، وتسعى إلى نقل العمل إلى المستوى القطاعي.

كما يهدف المشروع إلى تحديث التشريعات والأنظمة وآليات العمل وفقاً لأفضل المعايير والتجارب فيما يتعلق بمكافحة الفساد.

ومن شروط نجاحه:

ـ السرعة في إقرار حزمة التشريعات المتعلقة بمكافحة الفساد والإثراء غير المشروع وتعزيز دور هيئات الرقابة.

ـ التعاون بين كافة الجهات المعنية بتطبيق التشريعات المتعلقة بمكافحة الفساد.

ـ ثقة المواطن بالقوانين الموضوعة حول الإثراء غير المشروع وتضارب المصالح، وبما يشجعه على التقدم بشكاوى جديّة.