أوروبا وأميركا تدعم إسرائيل والدول العربية موحّدة مع فلسطين

الغرب والعرب أمام “القضية الأولى

محمد قواص

“طوفان الاقصى”: العملية التي ستغيّر العالم

انقلب العالم رأسا على عقب، وبعيدا عن حدث أوكرانيا الذي تمحوّر حوله ” صراع الأمم”،  ليتموضع حول الحدث الأبرز في فلسطين. فرضت عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها “كتائب عز الدين القسّام” الجناح العسكري لحركة حماس في 7 تشرين الأول (اكتوبر) الماضي تموضعا دوليا جديدا شاملا. ولئن قاد ” الطوفان” إلى حرب إسرائيلية ضروس ضد قطاع غزة وخصوصا ضد المدنيين الآمينين، فإن “الزلزال” قاد على نحو فاضح إلى انكشاف موقف غربي متطرّف في دعمه المطلق لإسرائيل وقابل بإيقاعات وأعذار مختلفة بـ “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، بما في ذلك “تفهّم” ارتكابها لمجازر ضد الغزيين.

وأعاد الحدث فلسطين إلى واجهة الأولويات الدولية بعد أن أصبحت “القضية” نسيا منسيا وتراجعت مكانتها إلى حدود هامشي على المستويات الإقليمية والعربية أيضا. وقد بات للمنطقة العربية قضايا خطيرة ملحة، لا سيما منذ انفجار “الربيع” العربي عام 2011، بعد أن استأثرت فلسطين بقضايا العرب وباتت قضيتهم الأولى في العقود التي تلت “النكبة” الفلسطينية وقيام دولة إسرائيل عام 1948. وقد دخلت في العقدين الأخيرين دول من خارج المجموعة العربية، مثل إيران وتركيا، لتلعب أدوارا متقدمة لنصرة القضية الفلسطينيىة. وسواء كان موقف أنقرة وطهران صادقا أم انتهازيا خدمة لأغراض السياسات الداخلية والخارجية للبلدين، فإن الأمر سلّط المجهر بالمقابل على تواضع وانكفاء عربيين في شغل الدور الأساسي لإدارة المسألة الفلسطينية. غير أن انفجار الوضع بعد عملية الطوفان أعاد تظهير موقف العالم، العربي والغربي خصوصا، من “القضية” في بعديها الراهن والمستقبلي.

11 سبتمبر جديد

تشبه اللحظات الأولى لموقف الدول الغربية حيال ما جرى في غلاف غزة يوم 7 تشرين الأول (اكتوبر) 2023 الموقف الذي سارعت كل العواصم الغربية إلى اتخاذه حيال ما جرى في 11 أيلول (سبتمبر) 2001. تدافعت تلك العواصم إلى شجب عملية حماس وإدانتها والتعبير عن التضامن الكامل مع إسرائيل بنفس مستوى التوتّر الذي شاب مواقفها في إدانة فعلة تنظيم القاعدة قبل 22 عاماً وإظهار فائق الدعم للولايات المتحدة والتضامن معها.

لم يكن الموقف الغربي مفاجئا بل كان متوقعا وتقليديا ولم يتغيّر على مدى عمر دولة إسرائيل. قد حدث أن تمرّد الجنرال شارل ديغول عام 1967

: نتنياهو واليمين المتطرف: السقوط والفشل

وأوقف بيع فرنسا أسلحة لإسرائيل. وقد حدث أن وجّه فرانسوا ميتران صفعة لها حين استقبل عام 1989 الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في باريس. وقد حدث أن اتخذت دول أوروبية وحتى على مستوى الاتحاد الأوروبي مواقف “متفهّمة” للحقّ الفلسطيني داعمة ماليا لسلطته الوطنية، غير أن كل ذلك جرى على قاعدةٍ ثابتةٍ لم تتغير داعمةٍ لإسرائيل و “حقّها في الدفاع عن نفسها”.

لا تتعلق المسألة فقط بحسابات جيوستراتيجية تقيسها الدول في علاقاتها البينية. فإسرائيل هي جزء من الوعاء الثقافي اليهودي-المسيحي الذي تقوم داخله القيّم الغربية وأعمدة منظومتها. وإسرائيل هي جزء من الفضاء الغربي في العالم ولطالما اعتبرتها الأدبيات الأيديولوجية العربية رأس جسر غربي في الشرق الأوسط.

غير أن التميّز الإسرائيلي في العقل الغربي الحديث بعد الحرب العالمية الثانية ينهل وجاهته مما راكمته قيّم ما بعد هذه الحرب من حجج تبررّ النصر والقضاء على النازية والفاشية. يفسّر الأمر مسارعة الاتحاد السوفياتي وقبل الولايات المتحدة وكثير من الدول الأوروبية للاعتراف بإسرائيل بعد ساعات من إعلان قيام الدولة في 15 أيار 1948. وحين تفاقم الكشف عن “الهولوكست” اليهودي خلال السنوات التي تلت تلك الحرب، ارتبط دعم إسرائيل بدعم اليهود والتضامن مع ضحايا المحرقة وجعل الأمر قانوناً لدى كافة الدول الغربية لا يحتمل شكوكا أو مراجعة.

الدعم الغربي الفوري

اللافت أن الرأي العام الغربي تفاعل في بعض المراحل مع السردية الفلسطينية المضادة لسردية إسرائيل ومبررات احتلالها. وسجّل الرأي العام، الأوروبي خصوصا، انقلابا لصالح الفلسطينيين في مرحلة “الانتفاضة” الأولى أواخر الثمانينات التي عُرفت حينها بانتفاضة “أطفال الحجارة”. وقد شهدت الجامعات الغربية موجة من المهرجانات والتظاهرات كما شهدت البرلمانات سجالات مناصرة للفلسطينيين وداعمة لحقّهم بالتخلّص من الاحتلال وإقامة دولتهم المستقلة مستندة إلى قرارات أممية صدرت تدين الاحتلال وتوفّر أرضية لذلك. ومع ذلك فإن هذا الرأي أثبت أنه غير قادر على التخلي عما هو ثابت متجذّر في العلاقة مع إسرائيل كلما تغيّرت أشكال المقاومة أو زُعم ذلك.

يندرج الموقف الغربي من عملية “طوفان الأقصى” في سياق تاريخي قيَمي عميق وفي سياق الموقف من الإرهاب عامة وذلك الذي يهدد إسرائيل بـ “هولوكست” جديد مزعوم. ولئن تعبّر الهياكل الرسمية عن الموقف المتماهي مع الرواية الرسمية الإسرائيلية للحدث وتُظهر شرائح اجتماعية تضامنا آلياً لصالح “الإسرائيلي الضحية”، غير أن الأمر لا يعكس بلادةً نهائية في مقاربة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وكأن المطلوب مواكبة الصدمة الإسرائيلية واستيعابها من دون الإفراط في الإبحار داخل السفينة الإسرائيلية.

بدت ألمانيا مبالغة في انفعالها في الموقف الداعم لإسرائيل والملمّح إلى عزم على وقف الدعم للفلسطينيين. وكان يجب دائما تفهّم خصوصية الحالة الألمانية في ماضيها النازي الهتلري مرتكب المحرقة لتفسير إفراط برلين في التعبير عن فائض مشاعر وغضب. خرجت من داخل الاتحاد الأوروبي دعوات مثل تلك التي أطلقها أوليفر فارهيلي، مفوض الجوار والتوسّع، وهو هنغاري مقرب من  من رئيس وزراء فيكتور أوربان،  بمعاقبة الفلسطينية على “إرهاب” يقول الأوروبيون أنفسهم إن قلّة منهم قد ارتكبته. وكان على اسبانيا وفرنسا أولا أن تصوّب هذا الانحراف وترفض وقف المساعدات الأوروبية للفلسطينيين.

بدت المبالغة أيضا في الموقف الأميركي. فإضافة إلى كلمة الرئيس جو بايدن الحاسمة الحازمة في التضامن مع إسرائيل دفعت واشنطن بتعزيزات عسكرية بحرية نحو المنطقة وعجّلت في إرسال الذخائر إلى إسرائيل وكأنها تتعرض لحرب كونية وجودية. كل ذلك من أجل تحذير إيران والقول “إياكم”. ولئن دأبنا منذ قيام دولة إسرائيل على اعتبارها عصا غربية غليظة وحتى شرطيا أميركيا في المنطقة وتملك نفوذا على قرار واشنطن

: لم تجد واشنطن إلا موقفا موحدا ضد إسرائي

نفسها، فإن الولايات المتحدة تندفع للدفاع عن إسرائيل بما فضح استنتاجاً أميركية بانهيار أسطورة وجب ترميمها.

فلسطين: قضية غربية!

سيسقط هذا الدعم كلما تقدم الوقت. لا يمكن للعالم أن يدير صراع الأمم وفق أبجدية بنيامين نتنياهو وصحبه. يمثّل الشرق الأوسط منطقة حيوية للعالم أجمع بحيث تحرص دول العالم، الغربي كما روسيا والصين والهند .. إلخ، إلى تجنّب وقوعها في عبث وفوضى. يتقدم الصوت المدافع عن الفلسطينيين بصعوبة داخل وسائل الإعلام الغربية (على رغم الهستيريا التي أصابتها) بحيث تتناقله وسائط الإعلام الاجتماعي ويتحوّل إلى “ترند” في العالم وداخل الدول الغربية خصوصا. لا ننسى أن موقف بايدن المتضامن مع إسرائيل أتى بعد قطيعة مع نتنياهو وحكومته وبعد مواقف أصدرتها واشنطن ضد قوانين إصلاح المحكمة العليا في إسرائيل، وهي مواقف ارتقت إلى مستوى غير مسبوق في التدخل العلني في شؤون إسرائيل.

وجب استنتاج أن المسألة الفلسطينية (وخصوصا بسبب طابعها الإسرائيلي) تبقى مسألة غربية، وخصوصا أميركية، وفق التقدير الشهير للرئيس المصري الراحل أنور السادات. حتى روسيا والصين فإنهما تتعاملان مع قضية فلسطين تعامل ردّ الفعل وليس الفعل، ولم يثبت يوماً أنها على الرادارات الأساسية لسياستهما الخارجية. ولأن الأمر كذلك فإن الغرب يكشف عن خواء في تعامله مع لحظة شرق أوسطية دراماتيكية، وظهر بليدا عاجزاً تغيب عنه رجالات سياسية قيادية كبيرة قادرة على اجتراح أفكار ومواقف تسقط عنه هذا الجفاف وهذا السقوط الشعبوي السهل. وبدا هذا الغرب أكثر إرباكاً من أصوات إسرائيلية (جدعون ليفي وغيره) لم تتردد في تحميل إسرائيل وحكوماتها و احتلالها المصير الذي تعيشه. وبدا الغرب عاريا أمام السؤال المنطقي: لماذا تدعمون أوكرانيا في حربها ضد “الاحتلال” الروسي.

وإذا ما تستفيد حكومة إسرائيل من التضامن الانفعالي الغربي العام للقيام بضربات “إبادة” بحق الغزيين الذي اعتبرهم وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت “حيوانات بشرية”، فإن واشنطن وحلفاءها لن يغطوا كل ما تخطّطه آلة الحرب الإسرائيلية ضد القطاع. وقد لا يتعلّق التحفّظ الغربي بأسباب أخلاقية بقدر علاقته بمصالح الغرب في الشرق الأوسط وما تُعّده واشنطن في المنطقة والعالم في سياق صراعها الاستراتيجي مع الصين. وإذا ما يَعِد نتنياهو الإسرائيليين بردّ مزلزلزل يغيّر الشرق الأوسط، فإن أمورا كثيرة تغيرت وستتغير منذ 7 تشرين الأول قد يكون نتنياهو نفسه أول من سيدفع ثمنها.

فلسطين: العرب وإيران

تستفيد إيران من تداعيات ما ستنتهي إليه معركة “طوفان الأقصى” التي أطلقتها حركة حماس. الحركة حليف لطهران والجناح الذي يتحكّم بقطاع غزة بقيادة يحي السنوار ومحمد الضيف هو الأكثر ولاء لطهران. وإذا ما اختارت إسرائيل أنواعاً من المواجهة ضد إيران داخل سوريا وداخل إيران، فإن إسرائيل نفسها تستنتج بإفراط وقوف إيران وراء الحدث الجلل الذي اُطلق من غزة.

غير أن الحدث هو فلسطينيٌّ بامتياز وهو في نتائجه يغيّر كثيرا من مفردات الصراع ويقلب كثيرا من مسلّماته. ولئن تحكّم ستاتيكو موازين القوى بالأداء الفلسطيني العام على مستوى منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وكافة الفصائل، فإن انهيار الستاتيكو يفرض ديناميات فلسطينية جديدة قد لا تكون المنظومة الحالية جاهزة لها.

والحدث هو أيضاً عربي بامتياز لجهة استدراجه لمواقف صدرت عن العواصم العربية، لا سيما تلك الأساسية منها المنخرطة تقليديا بالشأن الفلسطيني. ولئن يظهر إجماع عربي بشأن مسؤولية إسرائيل في الوصول إلى حالة التعفّن والتوتر والانسداد التي وصل إليه الفلسطينيون جميعاً، فإن العرب مدعوون إلى توفير غطاء سياسي واسع لمشروغ حلّ يقوم دوما على أساس مبادرتهم للسلام لعام 2002.

لن تستفيد إيران من شراكة في مآلات السلم والحرب في المنطقة وخصوصا في شأن النزاع الفلسطيني الإسرائيلي إلا إذا تخلّف الفلسطينيون بكافة مشاربهم والعرب بكافة بلدانهم عن ملئ الفراغ الذي أتاح لإيران أولاً وتركيا في مرحلة لاحقة تقديم واجهات دعم واحتضان ورعاية لمسألة لطالما كانت حتى وقت متأخر “قضية العرب الأولى”.

عودة “القضية الأولى”

وجب الاعتراف، أيا كان تقييم عملية “طوفان الأقصى” وأيا كانت الأجندات المحلية أو الإقليمية التي تقف وراءها، أن المسألة الفلسطينية استعادت زخمها واسترجعت أولويتها داخل المشهد الدولي العام. خيّل للجميع، حتى لنا جميعا، أن كوارث العرب إثر “الربيع العربي” وانهماك العالم بمواجهة جائحة كورونا ثم التعامل مع الحرب في أوكرانيا وتصاعد الصراع بين الولايات المتحدة والصين جعل من فلسطين وقضيتها شأنين هامشيين منسيين. حتى أن “القضية” دخلت في قاموس الرتابة وخرجت من منزلة الصراع وانحدرت إلى درك “إدارة الصراع” وفق المفهوم الذي ران العقل الاستراتيجي الإسرائيلي خلال العقود الأخيرة.

وإذا ما أخرجت المنظومة الغربية بزعامة الولايات المتحدة إثر انطلاق “طوفان الأقصى” مخالب إنحياز جلف للرواية الإسرائيلية وتبنٍ كامل للمظلومية الإسرائيلية، فإن في ثنايا الأمر اندفاع اللحظة وأن لحظات أخرى ستفرض تراجع هذه الاندفاعة كما أظهرت الأيام ذلك. ولئن تحتاج إسرائيل إلى كل هذا التضامن الغربي للتعويض عن الزلزال الذي أصابها في يوم 7 تشرين الأول (اكتوبر)، فإنه وجب عدم نسيان الموقف الغربي، لا سيما الأميركي بالذات قبل الحدث والذي وصل إلى حدّ ما يشبه القطيعة بين إدارة الرئيس جو بايدن في الولايات المتحدة وحكومة بنيامين نتياهو في إسرائيل.

وجب التذكير أن القضية الفلسطينية عادت إلى الطاولة الدولية قبل أشهر من “طوفان الأقصى”. حتى أن واشنطن انهمكت في توفير بيئة فلسطينية تسهّل إبرام اتفاق تطبيع في علاقات السعودية وإسرائيل. جعلت الرياض المسألة الفلسطينية شرطا موضوعيا وبنيويا حاسما للانخراط في الجهود الأميركية الهادفة إلى توقيع اتفاق تاريخي تطمح إدارة بايدن إلى جعله إنجازا يُحسب للرئيس في حملته الانتخابية لرئاسيات 2024.

وفيما تدافعت الآراء لإتهام عملية “طوفان الأقصى” بأنها ورشة إيرانية تسعى للانقلاب على قطار التطبيع العربي الإسرائيلي والسعودي الإسرائيلي خصوصا، خرج البيان الذي صدر عن وزارة الخارجية السعودية بعد ساعات على بدء تلك العملية ليعيد التذكير بالموقف السعودي التقليدي الرسمي ويعيد وضع نفس النقاط على نفس الحروف سواء في  التحذير من “مخاطر انفجار الأوضاع نتيجة استمرار الاحتلال، وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة، وتكرار الاستفزازات الممنهجة ضد مقدساته”، أو في تجديد الدعوة للمجتمع الدولي بـ”ضرورة إنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بحل الدولتين، بما يحقق الأمن والسلم في المنطقة ويحمي المدنيين”.

إسرائيل تواجه نفسها

يدفع قطاع غزة ثمنا باهظا سبق أن دفعه مرارا في محاولة لاستعادة إسرائيل هيبتها واسترجاع ثقة الإسرائيليين بقوة جيشهم. لكن ذلك لن ينهي الصراع، بل بالمقابل ينهي بلادةً داخل النخب الفكرية والسياسية الإسرائيلية كما داخل المجتمع الإسرائيلي بالذات. توقفت إسرائيل عن إنتاج تعددية فكرية بشأن مستقبلها في المنطقة واكتفت بإلغاء ورش السلم منذ اغتيال اسحق رابين عام 1995. راح الناخب الإسرائيلي يقذف بأطقم اليمين وأقصى اليمين نحو الحكم بداعي الحزم للتعامل مع الأخطار الوجودية الأمنية. قيّض للكتلة الناخبة أن تحمل إلى الحكم في آخر انتخابات في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022 أقصى أنواع الفاشية والعنصرية التي سبقت عتاة اليمين التقليدي (من اسحق شامير إلى آرييل شارون) في قوميتها وتطرّفها ومقتها لأي تسوية مع الفلسطينيين.

وجب على الفلسطينيين والعرب أن يتأملوا جيداً ما أصاب إسرائيل من زلزال لا مثيل له منذ تأسيس الدولة عام 1948. ولئن فشل التطرّف في حماية أمن إسرائيل، فإن المنطق أن يبدأ العقل الإسرائيلي بالبحث عن بدائل من خارج صندوقه المفلس. وجب تأمل كّم المقالات (حايبم ليفينسون في الهآرتس مثالا) التي صدرت في إسرائيل تمارس نقدا ذاتيا وهجوما على نتنياهو وجوقة اليمين المتطرف حوله. وإذا ما يوفّر الحدث احتمالا بيئة لمباشرة منافذ حلّ، فإن العرب والفلسطينيين وحدهم مؤهلون لالتقاط اللحظة التاريخية التي تمنّ إيران وغيرها النفس بالإمساك بها.

يقول نتنياهو إن الردّ الإسرائيلي ضد حماس سيغيّر الشرق الأوسط. والأدقّ أن التغيير قد بدأ فعلا بعد ساعات من بدء “الطوفان. صحيح أن شكل هذا التغيير ما زال ضبابيا، لكن ولكي لا تتغيّر المنطقة باتجاه بوصلة إيران أو إسرائيل، فإن لديكتاتورية الجغرافيا قواعد وشروط تفرض على قطاع غزة وعلى من يحكمه الإذعان لاحكامه. فمهما كانت درجة تحالف حماس مع إيران فإن ملاذها الجغرافي هو مصر وما تمثّله من امتدادات داخل العالم العربي. تعرف طهران ذلك جيداً وهي مدركة أن “القضية” هي عربية بامتياز ومآلاتها تنحو نحو شواطئ العرب مهما ضاعت البوصلة وشردت اتجاهاتها. فقط وجب على العرب أن يعيدوا تأكيد هذه المسلّمة وينهوا انخراط الآخرين في “قضيتهم”.

إسرائيلي قتل رابين

سيبقى سؤال كبير ستطول الإجابة عليه بشأن الحيثيات التي دفعت “القسام” للقيام بعمليتها العسكرية وبشأن إنهيار وسائل الردع الإسرائيلي في ذلك اليوم. من الأسئلة ما هو مرتبط بخطّة حماس ما بعد الهجوم وما كانت تتوقعه وما تُعِدُ له، ومرتبط بأجندة إسرائيل في الاستعداد لحربها داخل قطاع غزة والقدرة على الذهاب بعيدا بها.

غير أننا نستنتج نتائج الفعل ونراقب ما بعده ولا نرى في ردود الفعل الإسرائيلية والإقليمية والدولية ما هو مفاجئ أو غير تقليدي. بمعنى أن من خطّط للعملية كان يعرف جيداً ما سيليها ولا يمكن أن يكون قد انتظر غير ذلك ما يطرح أسئلة بشأن المرحلة الغزية من معركة غلاف غزة. ولئن شنّت إسرائيل بشراسة غارات تدميرية ضد غزة في حروب سابقة، فإن انتهاج خيار أكثر تدميرا وشراسة هو من أبجدياتها المعتمدة والمتوقّعة التي تحظى هذه الأيام فوق ذلك ببيئة دولية مشجّعة متفهّمة وحاضنة.

وفيما أن الحرب في تعريفها الأكاديمي هي “شكل من أشكال السياسة”، فإن كتّاباً إسرائيليين وغربيين يتساءلون حول وجود السياسة أو منافذ لها في المعركة البرية التي تهوّل بها إسرائيل ضد غزة برعاية أساطيل غربية (أميركية بريطانية على الأقل).

يعود بيتر سنجر الفيلسوف الاسترالي الأستاذ في جامعة برينستون في الولايات المتحدة إلى شيء من التاريخ لتفسير ما حصل في 7 اكتوبر. يقول “إن الفرصة الحقيقية الأخيرة لتجنب الصراع المأساوي بين إسرائيل وحماس قد دمرتها عملية قتل واحدة: اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين في عام 1995”.

يضيف: “لم يكن القاتل ناشطا فلسطينيا، ولكنه متطرّف إسرائيلي يعارض اتفاقيات أوسلو، التي سعى بموجبها رابين إلى صفقة من نوع “الأرض مقابل السلام”. كانت الصفقة لعنة على المتطرفين الإسرائيليين، الذين يعتبرون أنه لا يمكن التفاوض على السيادة اليهودية في الأرض المقدسة”.

الحلّ ليس عسكريا

في هذا السياق يدلي وزير الخارجية الإسرائيلي شلومو بن عامي بدلو يسعى من خلاله إلى إعطاء تفسير يستشرف فيه ما بعد معركة غزة. يقول إنه “باستبعاد أي عملية سياسية والتأكيد، في المبادئ التوجيهية الملزمة لحكومة بنيامين نتنياهو على أن -الشعب اليهودي له حقّ حصري وغير قابل للتصرف في جميع أنحاء أرض إسرائيل-، جعلت هذه الحكومة المتعصبة إراقة الدماء أمرا لا مفر منه”.

وإذا ما انتهجت إسرائيل، لاسيما منذ سيطرة اليمين على الحكم في العقود الأخيرة، وخصوصا من قبل الحكومات التي ترأسها نتنياهو، الخيار الأمني للتعامل مع “الحالة” الفلسطينية، وإذا ما يعترف متخصصو الشرق الأوسط في العالم، وحتى في إسرائيل والولايات المتحدة، بأن غياب المنافذ السياسية يقف وراء ظاهرة حماس والعنف و “الإرهاب”، فإن حلا أمنيا موعودا في غزة لن يحمّل علاجاً حقيقيا للمأساة في هذه المنطقة.

يقول ريتشارد هاس الدبلوماسي الأميركي والرئيس السابق لمجلس العلاقات الخارجية في هذا الصدد إنه “بينما يجب أن يكون هناك عنصر عسكري لردّ إسرائيل على تحدّيها الأمني، لا يوجد ردّ عسكري فقط. وسيتعين إدخال عنصر دبلوماسي في المعادلة، بما في ذلك خطة إسرائيلية ذات مصداقية لإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة”.

قد يكون مبكّرا في عزّ المواقف الغربية الانفعالية العاطفية صعود أصوات، حتى بمواكبة دعم إسرائيل وإدانة ما تعرضت له، توحي بضرورات فتح ثغرات في الجدار المانع للتفاوض واستكشاف سبل التسوية.

حتى أن رواج شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” يمنع هذه الأيام تسريب أي تعابير عن تسوية سياسية أو مستقبل سلم محتمل داخل التصريحات والنصوص الرسمية التي تصدر عن العواصم الغربية أو عن المسؤولين الغربيين الذي يزورون إسرائيل. أخذت المعارضة اليسارية في فرنسا على بيانات وزارة الخارجية الفرنسية والاليزيه خلوها من الدعوة إلى وقف إطلاق النار وغياب كلمة “سلام” عن نصوصها.

“الدولتان” من جديد

يستمر التعويل على مرحلة جديدة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تسقط فيها الخيارات الأمنية التي لم تجلب أمنا لإسرائيل، بل كارثة غير مسبوقة في تاريخها. تكفي متابعة ما تكتبه أقلام إسرائيلية (قبل تلك التي ظهرت في العالم) في عزّ موجة التضامن مع إسرائيل عن الحاجة إلى حلّ فلسطيني، لاستنتاج ما سيتشّكل من ضغوط دولية، غربية خصوصا. ستنهل هذه الضغوط من حزم غربي مندّد مستنكر شاجب لما تعرّضت له إسرائيل من أجل تحقيق تحوّلٍ إسرائيلي، قد يدفع ثمنه نتنياهو نفسه، للذهاب نحو مقاربات أخرى للعلاقة مع المسألة الفلسطينية ومستقبل إسرائيل في الشرق الاوسط.

ومع ذلك يتخوف باراك بارفي وهو باحث  سابق في مؤسسة New America في شؤون الشرق الأوسط من عدم استخلاص عبر الحدث الدراماتيكي الكبير. يقول: “بعد حرب يوم الغفران عام 1973، أدى إدراك إسرائيل أنها لم تكن منيعة إلى وضع البلاد على طريق السلام مع مصر. أكبر مأساة في الحرب الحالية ستكون عدم القدرة على فعل الشيء نفسه مع الفلسطينيين”.

ووفق مشهد الارتجال وعدم اليقين تعيش غزة أياما مأساوية من دون أي ضمان بأن تفرج الأيام ما بعد الحرب عن مستقبل واعد. والواضح أن الوضع الداخلي الإسرائيلي كما الموقف الدولي شديد التحوّل كل يوم وسينقلّب من طور إلى طور كلما طال زمن الحرب في غزة. والواضح أيضاً أن تجاوز صدمة 7 أكتوبر ستعيد العقل إلى المزاج الدولي العام لإعادة تقييم للحدث تأخذ بالاعتبار أن تاريخ حدوثه يعود لأسباب تتعلق بعقود من الاحتلال ولا يمكن اقتصار تفسيره على ما حدث في ما تصفه إسرائيل بـ “السبت الأسود”.

من يراقب نتائج زيارات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في عواصم المنطقة يستنتج موقفا عربيا واحدا رافضا لحرب ضد غزة باتت يعتبرها المعارضون اليهود حرب إبادة ويعتبرها الفلسطينيون نكبة جديدة. وما سمعه بلينكن سيصل صداه إلى المواقف في واشنطن نفسها التي يفترض أن يكون لديها خطة ما بعد الحرب. والواضح أن الولايات المتحدة التي، كما إسرائيل والعالم أجمع، لم تكن تملك أي معطيات لتوقّع “الطوفان”، تهرول بارتجال لإعادة الإمساك بالمشهد الدولي وذلك خصوصا في الشرق الأوسط