غريب في لبنان غريب في لندن العربية

رؤوف قبيسي:

لم أكن أتصور عندما اغتربت عن لبنان، أنني سأعود إليه خائب الأمل. أشعر أنني غريب فيه غريب عنه، وأقطع بأن معظم اللبنانيين، يشعرون بما أشعر، نتيجة حجم الآثام والجرائم التي ارتكبها لوردات الحروب بحق هذا البلد الصغير الجميل، وترتكبها بحق شعبه هذه الأيام، هذه الطبقة الفاسدة من السياسيين. كذلك لم أكن اتصور أن لندن ستتغير هي الأخرى، وأصبح غريبا فيها غريبا عنها. جئتها للمرة الأولى مطلع سبعينات القرن الماضي، وانتسبت إلى مدرسة قريبة من شارع  »إدجوار رود« المكتظ حالياً بالساكنين العرب، ولا أذكر انني رأيت عربياً واحداً في تلك المنطقة، لا مقيماً ولا سائحاً. كان عددهم يومها محدوداً، غالبيتهم من العاملين في السفارات العربية، وفي القسم العربي التابع لهيئة الإذاعة البريطانية، وكانت الصحف العربية تأتي متأخرة، وتباع في محلين، واحد بمنطقة  »هولبورن«، وآخر في حي  »كوينزواي«.

لم يخطر في بالي أن يأتي يوم أجوب فيه شوارع هذه المدينة العريقة وألمح عرباً من المشرق، وعرباً من المغرب، وأقليات من بلاد العرب، منهم الكرد والتركمان والأشوريون والكلدان والبربر. زائرون ومقيمون بأشكال وألوان، منهم الشاب ومنهم الكهل، منهم الطالب ومنهم العامل، ومنهم اللاجىء والآخر المقيم بطرق غير شرعية. كذلك لم يخطر في بالي أن يأتي يوم أرى في شوارع لندن، رجالاً ذوي لحى يرتدون العباءة والغترة والعقال، ونسوة محجبات، وأخريات منقبات! كان يمكن أن يحدث ذلك، لو كنت أفكر بأمبراطورية عربية جديدة، أو بالعهود الغابرة، يوم كان التوق لاكتشاف ما وراء الصحراء أمراً يقتضيه توسع الحكم، وتفرضه العلاقات التجارية والثقافية. كذلك لم أكن أتصور، أن يأتي يوم أشم فيه العطور العربية، ممزوجة بدخان النراجيل، ورائحة الفول والحمص والكباب، مع ألوان مختلفة من عبق أسياخ الشاورما المنتشرة هنا وهناك، وأسمع الغناء العربي ينساب من البيوت والمحلات والمطاعم والسيارات، مظاهر تشعرك أنك ليس في لندن، بل في طريق الهرم في القاهرة، أو في وسط بيروت التجاري، أيام عزها! كذلك لم يخطر في بالي ولا في بال غالبية الناس أن تندلع حرب أكتوبر 1973، وتندلع بعدها بعامين، حروب الأهل في لبنان، وتبدأ قوافل العرب بالمجيء إلى بريطانيا ليصل عددهم في لندن وحدها، أكثر من عدد ما كان من البريطانيين في كل الدول العربية التي حكموها في أزمنة الإنتداب! لكن ما حصل قد حصل كما يقول الغربيون في أمثالهم، وأصبح العرب في لندن جزءاً عضوياً من كيانها، واعتاد الإنكليز، أعيان الأمبراطوية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، على هذه الظاهرة، وهم المحافظون المعروفون بقلة تكيفهم مع الظواهر الطارئة على حياتهم.

ماذا يعني أن يشعر مواطن لبناني بأنه غريب في لندن  »العربية«؟

الجواب سببه أن الحضور العربي ليس حضورا عربياً خلاقاً على الإطلاق، وقد يعني أن العرب بدأوا يأخذون بالثأر، ويردون الصاع صاعين، لو عاد ابن خلدون، صاحب المقدمة الشهيرة المعروفة باسمه، والباحث في سنن الطبيعة والطبائع إلى الوجود لقال:  »تبًت يدا البريطانيين، حكمونا ونشروا لغتهم وثقافتهم بين ظهرانينا، وها نحن نثأر منهم، ونغزوهم في ديارهم«! المؤكد أن حكم ابن خلدون على العرب المعاصرين لن يكون أقل حدة، مما قاله في قدماء العرب، وهو يشهد حال التفتت الاجتماعي والثقافي والروحي التي يعانونها في المهاجر وفي غير بلد من بلدانهم! مهما يكن من أمر، حضور العرب في بريطانيا ما كان يوماً غير ظاهرة سياحية أو تجارية، لا بل ظاهرة لمرض عميق الجذور، كما ذكرت جريدة  »الغارديان«. لم يصل إلى قوة مؤثرة في اشكال الحياة اللندنية، وأثره في الحضارة الغربية يكاد يكون معدوماً، باستثناء أعمال فنية خجولة، وترجمات أدبية تظهر بين حين وآخر. الأميركيون والإيطاليون والألمان والفرنسيون والإسبان جاؤوا إلى بريطانيا وتركوا بصمات حضاراتهم في مسارحها وأدبها وعماراتها وفنونها وجامعاتها ومؤسساتها الثقافية. حتى اليهود الذين يعادون العرب ويعاديهم العرب، لهم من آثارهم في بريطانيا وأوروبا أضعاف ما للعرب.

نسمع عن عرب اشتروا المخازن والشركات والفنادق والمنازل والقصور، نشاط لا يتعدى حدوده المادية الصرفة. لم توجد في مدينة مثل لندن هيئة عربية واحدة تعنى بشؤون الثقافة كما يجب، وتغير الصورة التقليدية الماثلة في أذهان العالم عن العرب. كان العرب في المتخيل الجماعي للغربيين عبارة عن صور رتيبة من بيوت الطين، والخيم والنخيل، والخيل والجمال والسيوف والرماح، وكثبان الرمال والصحارى والواحات والبوادي والنساء المنقبات. ظلال حفرتها في الذاكرة رسوم الفنانيين الكلاسيكيين، ومؤلفات الرحالة الذي زاروا الشرق، والكتاب الذين تصوروه. حين بدأت هذه الصورة تتغير شيئاً فشيئاً، وتحل محلها صورة جديدة حضارية عن عرب حداثيين ومعاصرين، خطفتها صورة سلبية حادة عن إرهابيين واصوليين، لكأن الأقدار تريد أن يظل العرب في صورة الأمم المتخلفة. لن ندخل في جدل السياسة، لنعرف من المسؤول، العرب أنفسهم أم الغرب، ذلك حديث يطول. الصورة ماثلة في أذهان الجموع على أي حال، ولا يبدو أن العرب يعملون الكثير لتغييرها، بل ما نراه على الشاشات، وما نقرأه في الصحف يؤكدها يومياً ويا للأسف.

لبريطانيا في كثير من دول العالم وجود ثقافي عبر المجلس الثقافي البريطاني. ألمانيا لها معهد  »غوته« وللفرنسيين معهدهم الثقافي الفرنسي. الإسبان عندهم معهد  »سرفنتس« وللأميركيين، مركزهم الثقافي ايضاً. أما العرب فليس لديهم مجلس ثقافي واحد، مع أنهم، في أمس الحاجة لذلك، قياساً إلى الصورة السلبية الغالبة عنهم في أذهان الغربيين. تكاد المساعي العربية، الرسمية والشعبية، لتغيير هذه الصورة أن تكون معدومة. أليس من المحزن، أن تظل صورة العرب في العالم كما هي اليوم؟ هل كتب عليهم أن يظلوا هكذا إلى أبد الآبدين؟ في أي عاصمة أوروبية صغيرة من مظاهر الثقافة والفنون أكثر ما في كل العالم العربي، وعدد ما يقرأ من الكتب في بلد أوروبي أكثر مما يقرأ في الدول العربية كلها، وعدد ما يعرض من مسرحيات ومهرجانات فنية راقية في عواصم مثل لندن، أو باريس، أو روما، أو مدريد، يفوق ما يعرض في الدول العربية كلها.

أين المشكلة إذن؟ نعرف أن الأصوليين يملكون الجواب، وجوابهم معروف، العودة إلى الجذور، لكن أي جذور؟! في المقابل، هل قدم الآخرون، كل الآخرين، جواباً؟ لا نعرف ما إذا كانت أعمال هيئات أكاديمية وفكرية مثل  »مؤسسة الفكر العربي« و »معهد العالم العربي« قد عالجت هذه الظاهرة، وقدمت للحكومات العربية حلولاً. العرب يملكون المال والعقول، وبلادهم فيها ثراء وخير وفير، فلماذا تشتعل الحروب في ديارهم أكثر من أي منطقة أخرى في العالم؟ لماذا يتصدرون قائمة الشعوب الأكثر كرهاً في العالم؟ لماذا هم الوحيدون بين الشعوب يعادون الديموقراطية، ويعتبرونها فكراً مستورداً، مع أنها نتاج عقول عربية ويونانية قديمة؟ هل السبب وراء هذا كله خلاف بين مدرستين، واحدة تنشد العودة إلى الأصول، وأخرى تريد السير إلى الأمام، فتتهم الأولى بأنها تعوق قطار التقدم والازدهار؟ هل هناك أسباب أخرى؟ تلك أسئلة أساس يتعين على العرب الإجابة عليها، ليتصالحوا مع أنفسهم ومع العالم، وفي ضوء هذه الإجابة، يتحدد مصيرهم بين الأمم، وطبيعة دورهم في الحضارة المعاصرة.

العدد 95 – اب 2019