حرب ناقلات وتبادل مواقف وتصريحات ورجم بالعقوبات

واشنطن طهران: الحرب المستحيلة!

محمد قواص (*)

تتدفق التقارير في محاولة لتفسير التحولات الدولية التي كشف عنها قرار الرئيس الأميركي بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران. وفي بعض التحليلات ما يتحدث أن التحولات قد تكون نتيجة لما ستؤول عليه تلك المواجهة المعقدة بين إيران والولايات المتحدة. وفيما يتخوف العالم، بما في ذلك خصوصا دول المنطقة المطلة على مياه الخليج، فإن المؤشرات المالية والاقتصادية الدولية التي من خلالها تُرصد أعراض الحرب والسلم، ما زالت مستقرة نسبيا لا توحي بأي رعب تكشفه الإحصاءات والتوقعات والأرقام. فمن يسك بدفة الأزمة ومن ينفخ أكثر في أشرعتها؟

زمام المبادرة

وحتى إشعار آخر تمسك إيران بزمام المبادرة. تندفع إلى الفعل وتترك للآخرين رد الفعل. وحتى الآن، ما زال للفعل أصداء مثيرة فيما يبقى رد الفعل هزيلاً فاتراً مرتبكاً. لا شيء في رد طهران على انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مفاجئ. تسلك إيران في ردودها خريطة طريق متوقعة ومنطقية. يسقط الاتفاق فتسقط التزامات أطرافه.

قبل أن يحتل باراك أوباما ناصية الحكم في البيت لم تكن الولايات المتحدة معنية بالتفاوض مع طهران. كانت واشنطن تدرج إيران داخل محور الشرّ وتمارس ضدها سياسة احتواء معروفة. انهمكت الترويكا الأوروبية منذ عام 2004 في تفقد إمكانات التفاوض إلى أن حوّلت

ها ارتجل ت رامب قرار الانسحاب من الاتفاق النووي؟

الأوبامية سفينة بلاده صوب وجهات أخرى (آسيا المحيط الهادي) اقتضت الاتفاق مع، وليس الالتفاف على، إيران.

ليس الاتفاق النووي شأنا إيرانيا ولم يكن يوما هدفا لنظام الجمهورية الإسلامية. سهرت واشنطن من خلال القناة الخلفية المباشرة في مسقط عاصمة سلطنة عمان على حياكة الاتفاق ثم سوّقت ولادته لدى الشركاء الدوليين الآخرين. وعلى ذلك فإن الاتفاق يمثل مقاربة واشنطن وليس طهران لتأجيل هاجس القنبلة النووية الإيرانية.

أن تذهب إيران نحو تهديد الملاحة الدولية في مضيق باب المندب ومياه الخليج فتلك جلبة يتطلبها الحدث تجيد طهران إحداثها. وأن تذهب إيران إلى رفع نسبة تخصيب اليورانيوم مما هو حلال إلى ما هو حرام، فهو إجراء منطقي يفترض أن من قرر تفجير الاتفاق أن يكون قد وضعه في الحسبان. فأما أن واشنطن تستدرج إيران إلى تصعيد عسكري و »نووي« لغاية مبرمجة ومقررة في خطط الدولة العظمى، وأما أن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب ارتجالي انفعالي يسهل على الساسة في طهران التعامل معه.

الوساطات

لم تلحظ طهران أي جدية داهمة تهدد نظامها الحاكم في إيران. البلد معتاد على العقوبات، وهي كانت أوسع مجالا حين كانت صادرة عن مجلس الأمن الدولي وتحظى بإجماع أممي. اتهمت واشنطن طهران بالوقوف خلف التفجيرات التي طالت سفن شحن قبالة ميناء الفجيرة في الإمارات (12 مايو)، رغم أن وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد أعلن لاحقا أن العمل قامت به دولة، لكن بلاده لم تجد أدلة كافية ضد دولة بعينها (ولهذا الموقف ما يستحق التأمل). واتهمت واشنطن إيران باستهداف ناقلتي نفط في خليج عمان (13 يونيو) وبإسقاط طائرة أميركية مسيّرة فوق مياه الخليج (20 مايو). ومع ذلك، ورغم كل هذه الاتهامات الأميركية حصراً، لم تلحظ طهران أي رد يليق بمستوى هذه الاتهامات.

أكثر من ذلك. لا ترى إيران من كافة محاولات التوسط التي جرت في الأسابيع الماضية إلا توْق أميركي نحو الحوار وليس الصدام. ترامب نفسه يؤكد ذلك بصفته سلوك ثابتا فيما تأتي تهديداته بالخيار العسكري عرضية لا مصداقية له. وفي ما حمله رئيس وزراء اليابان، وبعده وقبله موفدو عُمان وألمانيا وبريطانيا وسويسرا، وما حمله موفد فرنسا، بدا للمتلقي الإيراني أن الوسطاء يحملون في جعبتهم رسائل أميركية بصيغ مختلفة تروم إقناع طهران بالإفراج عن احتمال التفاوض كواجهة ضرورية من واجهات الحملة الانتخابية لترامب المرشح لانتخابات الرئاسة العام المقبل.

لا شيء وفق ذلك يضطر إيران إلى إحداث تحوّل في أدائها وتبدل في خطابها. تدرك طهران أن المفاوضات قادمة وأنها ذاهبة إليها يوما. لكن لا شيء عاجل ولا شيء يدفعها لتكون مواعيد الأمر مواتية لتوقيت رجل البيت الأبيض وأجندته. لم يحقق الرئيس الأميركي إنجازا في كوريا الشمالية بإمكانه أن يكون نموذجا ضاغطا على صاحب القرار في طهران. فإذا ما كان ترامب يحتاج إلى مزيد من الصور مع كيم جونغ أون، فلأمر كهذا مع قادة إيران أثمان باتت مطلوبة من طالب تلك الصور نفسه.

المشهد حتى الآن هو لصالح إيران. تحتاج إيران إلى تخصيب اليورانيوم بنسبة 90 بالمئة لإنتاج قنبلتها النووية. أما وقد رفعت نسبة التخصيب إلى حوالي 5 بالمئة وتهدد بمرحلة قادمة ترتفع فيها تلك النسبة إلى 20 بالمئة، فذلك يعني أن أمامها وقت طويل لملاعبة هذا العالم واستدراج مواقف من هنا وهناك والاستمتاع بوساطات جديدة. وحتى حين يحين وقت التفاوض وفق مواعيد طهران، فإن ذلك سيتم على قاعدة أن إيران ذاهبة نحو القنبلة النووية، وبالتالي من موقع قوة وليس من موقع الخانع لشروط مايك بومبيو الـ 12 الشهيرة.

لا يمكن للمراقب إلا أن يلاحظ أن العالم يتعامل مع إيران بصفتها دولة كبرى وأساسية في العالم وأن عليه القبول والتعامل والتفاوض والحوار مع نظامها النهائي. لا شيء في الولايات المتحدة وأوروبا يوحي بغير ذلك، حتى أن الرئيس الفرنسي يتداول الأمر مع الرئيس الإيراني حسن

خامنئي ليس مستعجلا للتغاوض مع واشنطن

روحاني كمقدمة لبحث الأمر مع الرئيس الأميركي. بدا وكأن  »الدول الصديقة«، كل على طريقته، تتوسط لترامب لدى طهران، وليس العكس، علّها تقدم للرجل شكلا من أشكال القبول بالتواصل معه، وهو الذي ما برح يردد ويكرر أنه جاهز لمقابلة أي مسؤول إيراني (يكاد يقول يقبل بلقائي).

لا حرب

تعرف إيران أنها دخلت الآن في الوقت الضائع. لا مجال لحرب تشنها الولايات المتحدة بقيادة رئيس يحسب أموره وفق المفيد والمضر في رحلته الجديدة نحو ولاية ثانية في البيت الأبيض. تعرف أيضا أن ترامب قد يعجز عن توجيه ضربات عسكرية موضعية شكلية، على منوال ما فعله في سوريا ردا على استخدام النظام هناك للأسلحة الكيماوية، إذا لم يملك ضمانات بأن لا رد إيراني يستدرجه وبلاده نحو حرب كبرى لا سيطرة على مآلاتها.

وفق تلك الرؤية، وحتى ظهور معطيات تناقضها، فإن ترامب واقع في الفخّ، ولن يستطيع أن يحقق تقدما حقيقيا في ملف المواجهة مع إيران. وفق تلك الرؤية، فإن السجال مع طهران، والذي انضم إليه قبل أيام نائب الرئيس الأميركي مايك بنس سيكون من ضمن عدّة الحملة الانتخابية دون أن تكون أصلا محوريا في دفاع ترامب عن ترشيحه الثاني رئيسا للبلاد.

لم يستطع ترامب وربما لم يحاول اقناع الرأي العام الداخلي أن إيران تمثل خطرا استراتيجيا على الولايات المتحدة. فعلت الإدارة الأميركية ذلك عشية خوض الحرب ضد أفغانستان والعراق ويوغسلافيا. بيد أن أمر الصدام مع إيران بالنسخة التي أرادها ترامب منذ 8 مايو 2018 (الانسحاب من الاتفاق) بقي مسألة ترفية يخوضها ترامب وفريقه ضد خامنئي وفريقه. وإذا ما أراد ترامب العودة إلى البيت الأبيض مرة ثانية، فعليه استعادة خطاب شعبوي داخلي، برع به، باتجاه ازدهار أميركا والأميركيين، والترويج لخطاب التعامل مع العالم بلغة الصفقات الرابحة في مناكفة حلفاء بلاده (أوروبا وكندا مثالا) وخصوم بلاده (روسيا والصين مثالا)، وبالتالي استبعاد ما يمكن أن يكون مضرا خاسرا في التعامل مع الخارج.

لا يبدو أن مقاربة ترامب الرئيس للمسألة الإيرانية مربحة لترامب المرشح. تعرف طهران ذلك ولن تُقدّم له ما يمكن أن يريحه في مسعاه الرئاسي، وهي التي تعوّل على سقوطه وصعود أحد المنافسين الديمقراطيين الذين أجمعوا في آخر مناظرة في ما بينهم أنهم سيعودون إلى الاتفاق النووي الذي أخرج ترامب بلاده منه.

حتى تختار أميركا رئيسا فلا شيء يقلق إيران من الخارج. وما قد يقلب هذه الطمأنينة تبدل عملي جدي ذي مصداقية يأتي من الخارج أو مفاجأة تنفجر من الداخل.

يتفهم المراقب ألا تذهب إيران إلى طاولة المفاوضات. يُجمع النظام الإيراني، بمرشده ورئيسه، بمحافظيه ومعتدليه، على أن أي حديث عن مفاوضات بشأن ملفات سبق لطهران أن أكدت ألا تفاوض عليها، يشبه تلك البيريسترويكا التي خرج بها الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف في الثمانينيات فأسقطت الاتحاد السوفياتي وكل المنظومة الدولية حوله بعد سنوات.

ونكاد نعتقد أن انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي في مايو 2018 وإعلان وزير خارجيته مايك بومبيو للشروط الـ 12 بعد ذلك بأسابيع، قصدا تعقيد كل السبل التي قد تفكر إيران في سلوكها للنزول عن الشجرة. لم يكن من السهل تخيّل أن تقوم طهران بالاستجابة لإملاءات واشنطن وهي التي ما برحت منذ قيام الجمهورية الإسلامية تناصب الولايات المتحدة عداء وجودياً وتتبرع بمواجهة ذلك  »الشيطان الأكبر« في العالم.

صراع الإرادات

الصراع بين واشنطن وطهران صراع إرادات. روحاني يتحدث عن  »الصبر الاستراتيجي«. ترامب يقول إنه ليس مستعجلا.

إيران هي الوحيدة التي تعرف أن أمر الانقلاب الخطير الذي قامت به الولايات المتحدة ضد الاتفاق النووي ليس مزاجاً يطال بنداً من هنا وبنداً من هناك داخل نص الاتفاق، بل إنه يقارب وجود ودور ووظيفة إيران، وينهي عقودا من التعايش الغربي مع دولة ولاية الفقيه. وفي ما نقله رئيس وزراء اليابان و، بعده وقبله، موفدو عُمان وألمانيا وسويسرا وفرنسا، وفي ما نقلته القنوات الخلفية بين البلدين ما لا يشجع إيران على اقتراف خطيئة العبور إلى المفاوضات.

لن تستطيع إيران الصمود طويلا أمام موجات العقوبات المؤلمة التي لا تنتهي والتي ما برحت واشنطن تفرضها دون كلل. هذا سلاح واشنطن الأول والأخير، حتى لو أن صولات وجولات عسكرية واكبت ذلك يوماً ما. تدرك طهران بقلق أن الاقتصاد الإيراني يتصدّع على نحو بنيوي بعد عام على بدء إطلاق حزم العقوبات من واشنطن. ويسود تساؤل داخلي حول ما سيكون عليه حال هذا الاقتصاد في العام الثاني. قد لا تعرف منابر الخارج بدقة حقيقة النزيف الداخلي الذي تحدثه عقوبات ترامب. وحدها طهران تعرف حقيقة ذلك.

ما مستقبل وساطة ماكرون؟

أن تفرض واشنطن عقوبات على المرشد علي خامنئي، فهذه إشارة خطيرة قد تعني أن الولايات المتحدة التي لطالما أكدت وألحت أنها لا تريد تغيير النظام بدأت تراجع هذه القراءة، وأن  »معاقبة« الزعيم الوحيد الذي من شأنه  »تجرّع سم« المفاوضات تهدف إلى إحراجه ودفعه نحو مواقف أكثر تشددا في رفض هذا التفاوض.

وأن تُفرض عقوبات على وزير الخارجية محمد جواد ظريف، فذلك يعني أيضا أن واشنطن باتت لا تفرق ولا تريد أن تفرق بين جناح محافظ وأخر معتدل حتى لو كان أحد وجوه الاعتدال وجه ظريف المبتسم.

وأن تفرض واشنطن عقوبات على 8 من جنرالات الحرس الثوري، فذلك أن واشنطن التي تتهم الحرس بالوقوف وراء كافة العمليات العسكرية والأمنية الأخيرة، باتت تستفز هذه الذراع العسكرية الأمنية الإيرانية وتستدرجها نحو تهور أكبر.

تسعى إيران لفك الخناق الاقتصادي من خلال نقل الصراع إلى مستوى أمني عسكري يمكن أن يقلق العالم. كرر جنرالات الحرس الثوري الإيراني التهديد بإغلاق مضيق هرمز. ولمن لم يفهم هذا التهديد أعاد ظريف صوغه بعبارات واضحة:  »إذا مُنعنا من تصدير نفطنا فلن نسمح لنفط الآخرين بالمرور«. ولمن لا يصدق التهديد ويعتبره تهويلا، فإن ناقلات نفط اشتعلت في مياه خليج عمان. وما أُريد له أن يكون رداً إيرانيا مقلقا بالنسبة لواشنطن، قابله ترامب باستخفاف كبير.

يعلن الرئيس الأميركي أن بلاده تتفوق على كافة بلدان العالم في إنتاج النفط والغاز، وأنها تتفوق في ذلك على السعودية وروسيا.  »لا نحتاج إلى مضيق هرمز«، يقول. يتابع أن المستفيد الأول من المضيق هي الصين، ذلك أن 91 بالمئة من مستورداتها من الطاقة تأتي من هناك. أضاف الرجل أن اليابان وإندونيسيا ودول أخرى تحتاج إلى هذا المضيق و »نحن نقدم لهم خدمة كبرى بإبقائه مفتوحاً«. ترامب لا يهمه المضيق، وما يريده فقط، وفق أحدث مواقفه، ألا تمتلك إيران السلاح النووي وألا تستهدف مصالح أميركية لأن الرد سيكون كاسحا. يأتي رد روحاني:  »لا نريد حربا«، ويأتي رد ظريف:  »لا تصنع سلاحا نوويا«.

مضيق هرمز

إيران تهدد الممر الدولي. ترامب لا يقلق، ويرى أن على المستفيد من هذا الممر أن يقلق. لم تعد ورقة مضيق هرمز ورقة إيرانية رابحة بيد طهران في صراعها مع واشنطن. بدا أن هذه الورقة صارت عبئا تخافه دول مفترض أن تعوّل طهران على تضامنها ودعمها ضد ضغوط الولايات المتحدة.

قد لا تقلق إيران كثيراً من الموقف الأميركي بقدر قلقها من مواقف بقية عواصم العالم لا سيما الحليفة منها.

في عزّ الضائقة الإيرانية تخرج الصين ببيان مُمل يدعو كافة الأطراف إلى ضبط النفس. وفي عزّ هذه العزلة التي تعاني منها إيران ترسل روسيا سكرتير مجلس الأمن الروسي ليلتقي نظيريه الأميركي والإسرائيلي في القدس للمشاركة في حضور اجتماع ملتبس هدفه المعلن مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا. تكتشف طهران أيضا أن كافة  »فاعلي الخير« الأجانب الذين جاؤوا للتوسط لم يفعلوا ذلك، بل حملوا رسائل أميركية حادة وتبرعوا بالنصح بالاستجابة.

باتت كافة العواصم مقتنعة أن نسخة إيران التي صدرت عام 1979 حين انتصرت الثورة الايرانية بقيادة روح الله الخميني قد تقادمت، وأنه بات لزاماً تغيير ذلك النهج، ولما لا تغيير ذلك النظام برمته. تشعر الصين وروسيا أن إيران عامل غير مفهوم في مستقبل الخريطة الدولية

ترامب: مضيق هرمز لا يهمنا

وأنها ليست رقماً مضمونا في خارطة الصراع التقليدي مع الولايات المتحدة. فأن تمتلك إيران سلاحاً نوويا فذلك يمثل خطراً استراتيجيا مباشراً وعاجلا على البلدين ولا يمثل ذلك بالنسبة للولايات المتحدة.

يقول ترامب إن بلاده تقدم خدمات للمستفيدين من مضيق هرمز الذي لا تحتاجه الولايات المتحدة. وفي ما لا يقوله فإن بلاده تقدم خدمات للصين وروسيا، ودول أخرى طبعا، في الموقف الذي اتخذه منذ أكثر من عام والذي حوّل إيران من دولة يتوسّع نفوذها ويتصاعد وهجه إلى دولة مرتبكة تنشد عون الاصدقاء وترفع أسوارها خوفاً من انهيار قد يصيب نظامها.

هاجس الداخل

بيد أن الخطر الحقيقي القاتل هو ذلك الداخلي الخامد حتى اشعار آخر. خرجت المدن الإيرانية التي ينتمي أغلبها إلى التيار المحافظ المتشدد في الخريف الماضي في مظاهرات كبرى احتجاجا على الوضع الاقتصادي في البلاد. وللمفارقة كان موقف المتشددين والمعتدلين واحد في إدانة هذا الحراك واعتباره غوغائيا. بعضهم وضع الأمر داخل سياقات غير محسوبة ضد الرئيس حسن روحاني وحكومته. حينها كان اللوم مرّكز على سوء أداء روحاني وفريقه، وحينها لم يكن أولي الحكم في طهران يودون الاعتراف أن لمصائب الداخل علاقة بالسياسة الخارجية التي تعتمدها إيران في مقاربة الجوار والعالم.

لم يتحرك هذا الشارع حتى الآن على رغم ضراوة العقوبات. تبدل خطاب الحاكم. باتت مآسي البلاد مرتبطة بشراسة بما يمارسه الخارج و »الشيطان الأكبر«، وأن أي احتجاج بيتي سيُعتبر خيانة وتعاملا مع الأعداء. لم يتحرك هذا الشارع لكنه سيتحرك. قد لا يعرف الخارج طبيعة التململ الداخلي وحساسيته. إيران تعرف ذلك وتدرك تفاصيله وتخشى من خروج المارد من القمقم.

قد تضج منطقة الخليج كثيرا بهدير السفن الحربية الغربية، لكن لا أحد تحدث عن مواجهة مع إيران. كل المبادرات، سواء تلك التي تضج بها الكواليس الأوروبية أو تلك التي تعدُ بها الولايات المتحدة، تتحدث عن تحالفات من أجل الحفاظ على أمن الملاحة الدولية. لا أحد تحدث عن حرب ولا أحد يقيم حملات لتحضير الرأي العام الداخلي في أوروبا أو الولايات المتحدة لشن حرب محتملة ضد إيران. غير أن كثرة السفن في مياه الخليج مقابل اليابسة الإيرانية قد لا تمنع حصول احتكاكات بالصدفة أو بالقصد قد تُخرج الجمع عما هو مخطط وتُدخل العالم بما هو ارتجالي يصعب وقف تداعياته وإخماد لهيبه.

أكثر من ذلك. لا ترى إيران من كافة محاولات التوسط التي جرت في الأسابيع الماضية إلا توْق أميركي نحو الحوار وليس الصدام. ترامب نفسه يؤكد ذلك بصفته سلوك ثابتا فيما تأتي تهديداته بالخيار العسكري عرضية لا مصداقية له. وفي ما حمله رئيس وزراء اليابان، وبعده وقبله موفدو عُمان وألمانيا وبريطانيا وسويسرا، وما حمله موفد فرنسا، بدا للمتلقي الإيراني أن الوسطاء يحملون في جعبتهم رسائل أميركية بصيغ مختلفة تروم إقناع طهران بالإفراج عن احتمال التفاوض كواجهة ضرورية من واجهات الحملة الانتخابية لترامب المرشح لانتخابات الرئاسة العام المقبل.

تعرف إيران أنها دخلت الآن في الوقت الضائع. لا مجال لحرب تشنها الولايات المتحدة بقيادة رئيس يحسب أموره وفق المفيد والمضر في رحلته الجديدة نحو ولاية ثانية في البيت الأبيض. تعرف أيضا أن ترامب قد يعجز عن توجيه ضربات عسكرية موضعية شكلية، على منوال ما

وجود عسكري من أجل اللاحرب؟

فعله في سوريا ردا على استخدام النظام هناك للأسلحة الكيماوية، إذا لم يملك ضمانات بأن لا رد إيراني يستدرجه وبلاده نحو حرب كبرى لا سيطرة على مآلاتها.

أن تفرض واشنطن عقوبات على المرشد علي خامنئي، فهذه إشارة خطيرة قد تعني أن الولايات المتحدة التي لطالما أكدت وألحت أنها لا تريد تغيير النظام بدأت تراجع هذه القراءة، وأن  »معاقبة« الزعيم الوحيد الذي من شأنه  »تجرّع سم« المفاوضات تهدف إلى إحراجه ودفعه نحو مواقف أكثر تشددا في رفض هذا التفاوض.

وأن تُفرض عقوبات على وزير الخارجية محمد جواد ظريف، فذلك يعني أيضا أن واشنطن باتت لا تفرق ولا تريد أن تفرق بين جناح محافظ وأخر معتدل حتى لو كان أحد وجوه الاعتدال وجه ظريف المبتسم.

في عزّ الضائقة الإيرانية تخرج الصين ببيان مُمل يدعو كافة الأطراف إلى ضبط النفس. وفي عزّ هذه العزلة التي تعاني منها إيران ترسل روسيا سكرتير مجلس الأمن الروسي ليلتقي نظيريه الأميركي والإسرائيلي في القدس للمشاركة في حضور اجتماع ملتبس هدفه المعلن مواجهة النفوذ الإيراني في سوريا. تكتشف طهران أيضا أن كافة  »فاعلي الخير« الأجانب الذين جاؤوا للتوسط لم يفعلوا ذلك، بل حملوا رسائل أميركية حادة وتبرعوا بالنصح بالاستجابة.

طهران تخشى الانفجار الداخلي

 

 

 

 

 

 

(*) صحافي وكاتب سياسي لبناني

العدد 96 – ايلول 2019