كتاب الثقافة السياسية للدكتور حسين كنعان

رؤوف قبيسي:

ليس أمتع من أن تقرأ كاتباً تتشارك معه قضايا الفكر والثقافة، وإذا كان لبنانياً، فهذا يعني أنك تشاركه الهموم أيضاً، هموم الوطن الصغير وهموم الوطن الكبير! الدكتور حسين كنعان من هؤلاء الكتاب. آخر تأليفه، كتاب في الفكر السياسي عنوانه  »الثقافة السياسية – قيم واتجاهات«. أفتح الكتاب، وتلفتني السطور الأولى من التصدير  »ليس من ثقافة سياسية راقية وصائبة لا تقدس قيمة الحياة ومعناها، ولا تركز على الإنسان، ويكون عنوانها الحفاظ على الحريات العامة والعدالة والمساواة«. كلمات لا يمليها إلا عقل راجح واع وفاهم، وتحملنا في الوقت ذاته على التساؤل:هل هناك يا ترى، من حلول أمام الشعوب لتتقدم وتنهض، إذا لم تتمسك بهذه القيم الخالدة، قيم الحرية والعدالة والمساواة؟. خلاصة ما يرمي إليه المؤلف هو الوصول إلى هذا الوعي الاجتماعي الذي لا يتحقق في رأيه، إلا بالمشاركة العامة في صنع القرار، وهذه يعتبرها واجباً على كل مواطن في كل بلد، أي أن تنحصر السلطة بيد الشعب، ولا تكون  »منوطة برجل واحد أو بفئة معينة من أبناء المجتمع«.

قد يتبادر إلى الذهن أن المؤلف غربي الهوى، متأثر بالثقافة الغربية. هذا أمر واضح، فقد عاش الدكتور كنعان في الولايات المتحدة، وتخرج في جامعة جورج تاون، وعلم العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت، وشغل منصب نائب حاكم مصرف لبنان. لكن تأثره بالثقافة الغربية لا يحول دون فهمه القضايا اللبنانية والعربية المعقدة، وهو إذ يجترح حلولاً لهذه القضايا، يدرك أن العمل بها ليس أمراً سهلاً، في بلاد تفتقر إلى الديموقراطية، كما هي حال البلاد العربية، التي تعاني شعوبها قمع الأنظمة والفساد، والطبقية، وسلطة المؤسسات الدينية. يدرك المؤلف جيداً أثر هذا كله في حياة اللبنانيين والعرب، والمعوقات التي تحول دون بنائهم بنية اجتماعية سليمة، ما يفسح في المجال لتدخلات أجنبية في شؤونهم الداخلية، تصل إلى العقوبات، وأحياناً إلى الحروب والاعتداءات. يرى أن لا حل إلا بنعمة الديموقراطية، التي تحفظ وحدة البلاد وتحميها من طموحات القوى الطامعة. يعطي كندا والكنديين مثالاً ويقول:  » إذا اتفق وقرر رئيس الولايات المتحدة محاربة الكنديين، لأحبط هذا القرار شعبياً في أميركا، لأن الشعب الأميركي يعرف أن النظام الكندي في تركيبته الديموقراطية، مشابه لنظام بلده، ومشابه لعقليته ورؤاه السياسية«.

لا يقف المؤلف عند هذا الحد، يؤمن بأن الحضارة الإنسانية واحدة، مستمدة من تجارب الإنسان عبر التاريخ. يقول في الصفحة 33:  »الحضارة ليست الحداثة والعصرنة أو التغريب، وليست ملكاً للشرق أو للغرب، هي كما الديانات السماوية، ملك لكل البشر«. يعتقد أنه إذا اردنا أن نقَيم مطلق نظام سياسي، علينا أن ننظر إلى الدستور  »وإلى أي درجة ينص هذا الدستورعلى عملية انصهار المجتمع، في ثقافة سياسية وطنية واحدة، وإلى أي مدى تطبق أحكامه وقوانينه، وكيف توزع فيه السلطات وتراقب«. يأتي على ذكر لبنان واتفاق الطائف، الذي لا يعتبره دستوراً، بل اتفاقاً توصلت إليه القوى المتنازعة برعاية إقليمية ودولية، لوقف حالة الحرب. لكن هذا الإتفاق وفق قوله،  »لم يحل المشكلة، فثقافة الأفراد لا تزال كما كانت قبل الطائف، وربما أسوأ، ولا تزال الثقافة السياسة الوطنية بعيدة المنال، والمعاناة هي كما عهدناها«. في اعتقاده، أنه لن يكون بإمكان اللبنانيين دخول حضارة القرن الواحد والعشرين،  »إذا لم يقرأوا دستورهم قراءة موضوعية، ويطوروا بنوده، ليصبح راقياً وعملياً«.

يسهل على من يقرأ الكتاب بتؤدة، أن يدرك أن مرامي المؤلف هي نفسها تطلعات وأماني مجموعات واسعة من اللبنانين والعرب، الذين يتطلعون إلى دول مدنية، لا تكون السلطات فيها حكراً على الطوائف، أو الحزب الواحد، أو الأسرة الواحدة. يريد لبنانه المتعدد الطوائف  »طائفة واحدة، هي الطائفة اللبنانية بمزاياها القومية والوطنية«. في الصفحة 49 يأخذ لبنان مقياساً فيقول :  »منذ 1940، توالى على هذا البلد أكثر من عشر نكبات مأساوية، كانت دائما تلبس الثوب الطائفي، تحدياً لكل الديانات والرسالات«. يتطرق في شرح مفهومه للثقافة السياسية إلى موضوعات متباينة، عربية ودولية، مقسماً كتابه المؤلف من 250 صفحة إلى أبواب عدة.

قد لا يوافق بعض الدارسين المؤلف، بعض نظراته المدونة في هذه الأبواب، خصوصا ما يتصل منها بمسائل اللغة والديانات والقيم، وأثرها في عملية التكامل. في الصفحة 84 يقول على سبيل المثال، إن عامل اللغة يحتل المراكز العليا في عملية التكامل والاندماج السياسي، لكن كلامه عن سويسرا في الصفحة 82 يقلل من شأن هذا العامل إذ يقول:  » إن مختبر الكنتونات السويسري أعطى هذه العملية وسام استحقاق، بصهر المجتمع بما فيه من إنتولوجيات ولغات مختلفة، وقوميات متعددة في قالب وطني واحد«. لا أحد ينكر أثر اللغة في مسار الانصهار، لكن حال بلد مثل لبنان، والدول العربية، يزيح في رأينا مسألة اللغة الواحدة من المراكز العليا في عملية التكامل السياسي، إلى أدنى المراكز، لا بل يقتلها قتلاً شنيعاً، إذا أخذنا في الاعتبار، ما بين العرب من ضغائن، وما بينهم من خلافات وحروب، ما يعني أن التجربة السويسرية الناجحة مسألة تشابه ثقافي، لا مسألة لغة واحدة!

لا شك أن كتاب الدكتور كنعان قيم وجديد في المكتبة العربية، مفيد للقراء عامة،، وللسياسيين والعاملين في الشأن العام بنوع خاص، لكنه مثل أي كتاب مفيد، لن يحدث في رأينا التغيير المنشود، ما لم تنهض طبقة سياسية واعية راقية تلتزم ما فيه من أطروحات نيًرة، وحالنا في لبنان وبلاد العرب، أبعد من أن توجد هذه الطبقة من السياسيين، اقله في ما تبقى لنا من أعمار، ما يجعلنا نردد على مضض، عبارة سعد زغلول التاريخية لزوجته صفية:  »غطًيني يا صفية ما فيش فايدة«. قالها سعد زعيم الأمة المصرية وهو على سرير المرض، وها نحن الآن في العام 2019، ووضعنا في لبنان ودنيا العرب، يزداد سوءاً بعد سوء، وسنة بعد سنة!

قد تكون في تلك الرواية مغالطة تأريخية في رأي من قرأ سيرة سعد زغلول، وأن الشعور بفقدان الأمل في قضية مصر، لم يتسلل أبداً إلى روح ذلك الزعيم الراحل، بل لفظ كلماته بعد شعوره بدنو أجله، طالباً إلى زوجته بألا تجرعه المزيد من الدواء، لأنه لن يأتي في رأيه بأي نتيجة. مهما يكن من أمر، وسواء صحت الرواية أو لم تصح، فالعبارة تصلح لأن يقولها أي مواطن عربي، يعيش هذه الأيام، حال البؤس التي تمر بها هذه المنطقة الحزينة، من محيطها إلى خليجها!

العدد 96 – ايلول 2019