الحكواتيّة نجوى مِزهر- نحن كنساء اليوم نحكي ولا نواجه صعوبة، كوننا نعمل بطريقة محترفة

نسرين الرجب- لبنان

الحكواتي هو راوٍ شعبيّ كما يُعرف في بعض البلاد العربيَة، تُشتق لفظة الحكواتيّ من الفعل حكى، والذي جاء تفسيره في معجم لسان العرب:  »حكيتُ فلانا وحاكيته، فعلتُ مثل فعله أو قلت مثل قوله سواء لم أجاوزه، وحكيتُ عنه الحديث حكاية، .. ومنها المحاكاة أي المشابهة، ومنها: أحكيتُ العقدة أي شددتها، الحاكيَة الشادّة، حكت أي شدّت«، فالحاكي يشدّ أجزاء حكايته بعضها إلى بعض، وهو يجيد حياكتها بحيث تلتئم عناصرها مع بعضها، ويسعى إلى مشابهتها بالحاضر بحيث لا يستهجنها المُتلقيّ مهما بدت قديمة.

 لم يعُد هذا الفن حكرا على الرجال، فالمرأة الحكواتيَة التي أغفل ذكرها التاريخ، ظهرت إلى العلن لتروي وتحكي من دون تردُدٍ أو هذر. كان للحصاد فرصة للحوار مع الحكواتية اللبنانيّة نجوى مزهر، للحديث عن تجربتها الشخصيّة في عالم الحكيّ، وعن مسار حياتها.

 الحكواتيّة نجوى مزهر، امرأة في السادسة والستين من عمرها، تروي الحكايات للصغار وللكبار كل بحسبّ اهتماماته التي تدركها بخبرة الحكواتيّ، درست العديد من التخصُصات الجامعيّة في حقل العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة منها اختصاص ارشاد اجتماعي، حاصلة على إجازة في اللغة العربية وآدابها من الجامعة الللبنانية، ثم درست علوم اجتماعية، ولم تُكمل متابعة اختصاصها بسبب ظروف الحرب حينها، درست اختصاص علم نفس، ثم غادرت بعدها إلى فرنسا وحصلت على دبلوم (pratic social) من الجامعة الكاثوليكيّة في فرنسا، تعمل مع الأميّين، وتقوم بتدريب الأشخاص الذين يدرّبون في صفوف محو الأميّة، وهي حاليا تتابع العمل في مجال اختصاصها في الإرشاد الاجتماعي -الذي مكّنها من حضور تدريبات في مراكز عدة تابعة للخدمات الإنمائية-.

البدايات

منذ الطفولة كان والدها يحتل منصبا اجتماعيا هاما في القرية، حيث يجتمع الأهالي في الدار ليستمعون إليه، شجّعها والدها على قراءة السيَر الذاتية والقصص القديمة، بعد وفاة الأب، كان للصهر (زوج أختها الكبرى) دورا مؤثرا، فكان سندا للعائلة، وكان حكواتيا يحكي القصص..

 ساهم تخصُّصها في الأدب العربي في تقوية مهاراتها في القراءة والكتابة التأليفيّة، وبداياتها في حكاية القصص تحقٌقت عندما كانت مسؤولة عن مجموعة من الأُميّات والأميّين، فكانت تعمل معهم من خلال حكاياتهم والقصص التي يروونها ويسمعونها بالإضافة إلى تعليمهم القراءة والكتابة. تمكّنت من حضور فُرص تدريبية مع حكواتيين عالميين عن كيفية كتابة القصص وسردها، تعمل في جمعيّة خاصة بها، تستقبل فيها الأطفال الذين لديهم صعوبات تعلُميّة، عبر التركيز على الأنشطة والتي من ضمنها قراءة القصص وكتابتها والتمرين على الخروج بقصصهم الخاصة، التعبير كان من أهم الأهداف التي عملت من خلالها مع هؤلاء. فهي كانت تحكي القصص منذ زمن للصغار وللكبار.

من أين تأتي الحكايات

تنتقي القصص من مكتبتها الخاصة، تُشارك في تدريبات خاصّة بالحكواتيين، وخلال التدريب يروي كُلٍّ من المُدرَّبين والمُتدرِّبين القصص لبعضهم، التبادل على شاكلة التعليم التعاوني، يروي كُل حكواتي القصة نفسها ولكن بأسلوب مختلف، آخذين بعين الاعتبار المعايير الاجتماعيّة والفكريّة في المجتمع الذي ينتمون إليه.  »نحرص على الاطّلاع والقراءة والتعمّق في فهم القصة التي نعمل عليها، ننتبه لأبعاد القصة وفهم مضامينها ومقاصدها، صياغة الجمل كلّ على طريقته، نجري مقارنات للقصص بين بلدين مختلفين، نبحث ونقرأ القصص القديمة (ألف ليلة وليلة، عنتر والزير.. )، فمن الواجب إعادة قراءة هذا التاريخ القصصي القديم من أجل التطوّر«.

يُيسر هذه الوُرش مُدربين وحكواتيين عرب وأجانب، ومن الأسس التي يتدربون عليها: وضوح الصوت، النطق واللفظ الواضح للحروف، الإيماءات، والحركات الموحية، طريقة الوقوف، والإلقاء، وهذا -والقول للأستاذة نجوى- لا ينفي أنّ لكل حكواتي حركاته الخاصة، يركّز مجال التدريب على الصوت الذي يُفترض أن يصل إلى أكبر عدد ممكن من المستمعين، الثقة بالأحداث المرويّة ليتمكّن المتلقي من الانسجام وتصوّرها بذهنه

لا يوجد آلية معيّنة لاختيار القصة – برأيها-، فهي تقرأ الكثير من القصص، وتنتقي المناسب منها، تقول بأنّها تحفظ القصة وتكرر قراءتها بهدف التدرّب على كيفية حكيِها للناس، مع الأخذ بعين الاعتبار لمعيار الوقت والمدّة الزمنية التي تحتاجها قراءة القصة، تحرص على الكتابة اليومية، لكل التفاصيل الخاصة بها، وتكتب قصصا قصيرة.

تُدخل قيما مختلفة، عن مواضيع منها: (البيئة، التلوث، الصدق.. ) فهي تنتقي القصص على حسب الفئة المُستهدفة، من أمثلة عن عناوين القصص التي تحكيها: (فقير من ورا مرته والغني من ورا مرته، الغزالة والسلحفاة –للصغار-، قصة جعيدان، قصة عن شاب من ذوي الاحتياجات الخاصة ساهم في إنقاذ وطنه من الأعداء)، بالإضافة إلى العديد من القصص التي تحمل عبرا وحكما، تختلف باختلاف الأعمار والمناسبات، تتكئ في الكثير من سردها على القصص الشعبية التراثية، التي يعيد كتابتها عدد من الكتّاب الجدد، يصيغونها على طريقتهم.

إحياء التراث الشفوي

ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي -كإحدى سلبياتها- في تعميق الهوّة الثقافيّة بين الأجيال، تتحدث الأستاذة نجوى مزهر عن الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والأجهزة الذكية، التي عطّلت العقل – حسب تعبيرها- وأثّرت على الأفكار والقيَم، منها الاحترام، عن ظاهرة الإدمان التكنلوجي، حيث لم يعد اجتماع مجموعة من الأشخاص أهل وأقارب يعني تواصلا وصِلات اجتماعية، بينما كلّ واحد منهم مشغول بهاتفه النقال، وهذا أثّر على الحياة الاجتماعية للفرد.

وفي محاولة لردم الهوّة المعرفيّة بين الأجيال، يقوم الحكواتيين من خلال الحكايات بإحياء التراث الشفوي، على الرغم من الصعوبات، تبدو الحكواتية نجوى مزهر متفائلة في رؤيتها للحِراك داخل هذا المجال، فتقول: يستمر هذا المشروع بفضل وجود داعمين وممولين يحرصون على الاستثمار في هذا المجال، وتأمين فرص التدريب، يهدف إحياء هذا التراث إلى تعزيز اهتمام الناس بثقافتهم وحضارتهم القديمة، والقيم المرتبطة بنمط الحياة للإنسان العربي.

تحكي القصص في عدّة أماكن منها: المدارس، الساحات في القرى، المهرجانات التي كان منها مهرجان حكايا الذي نظّمته جمعية السبيل*، إضافة إلى مهرجانات تفتح باب المشاركة للحكواتيين في عدد من بلدان العالم، وكان لها فرصة المشاركة في مهرجان في الأردن.

 يمثّل إعادة إحياء هذا التراث حنين الناس للاستماع والسماع والنكش في عالم الحكايا والأساطير التي تمثّل فطرة الانسان الأولى في فهم نفسه والاستفادة من تجارب وحكم الماضين والحاضرين، والتي قد تتلاقى في الكثير من الأحيان على الرغم من تطوّر مفاهيم ومُثُل الحاضر.

تؤكّد الأستاذة نجوى بأنّ،  »فن الحكواتي« ليس نوعا من الفلكلور القديم والذي لا حاجة للمجتمع به، وترى بأنّ رفض البعض لهذا الفن يعود إلى أنّ الناس عادة يخشون الجديد ويقاومونه، ويحرصون على تثبيط عزائم من يأتي بالمُختلِف، وهنا تظهر مهمّة الحكواتي:  »نحن كحكواتيين نجهد إلى زرع الإلفة بين الناس والحكاية، بحيث نحرص على جذب انتباههم من خلال أسلوبنا الحكائي، ونشرح لهم عن أهمية ما نقوم به، وخاصة مع الأطفال في المدارس، كذلك يفرح الكبار بالحكاية لأنهم يستعيدون من خلالها ذكرياتهم الماضيّة، نركز على الأطفال والشباب الذين لا يعرفون الكثير عن ثقافتهم وحياة ذويهم، حيث لا أحد يحكي لهم، فنحاول إعادة إحياء هذا التراث، وهو ليس عرضا فلكلوريا! قد يشوّه البعض الهدف من هذا الفن، ولكن نحن كتجمُّع للحكواتيين نسعى إلى تعلُّم كل الطرق المناسبة لحكي الحكايات.. نحكي قصصا في مناسابات مختلفة واحتفالات، يأتي الناس من مختلف الأعمار، نحافظ على علاقة تواصل مع الناس من ناحية الحكايات، يستمعون إلينا ويتعلمون منا«.

منذ القدم كانت النسوة يحكين ولكن لم يكن ذلك في العلن

ترى الأستاذة نجوى مزهر؛ أنّ فن الحكايا ورثناه عن الجدّات والأمهات اللواتي كنّ ينفردن بحكاية القصص لأطفالهم وهو عمل لم يقم به الأب، فمنذ القِدم كانت النسوة يحكين ولكن لم يكن ذلك في العلن، وهذا هو الفرق؛ فالساحة كانت للرجال، ولكن اليوم اختلفت معايير المجتمع،  »نحن كنساء اليوم نحكي ولا نواجه صعوبة كوننا نعمل بطريقة محترفة، فلا نجد أية صعوبه أثناء الحكي أينما كان وإلى أيٍّ كان من نتوجه له«.

لم تواجه صعوبات في إثبات نفسها:  »كل المواقف التي حدثت معي حفزتني على الاستمرار، لأن تجمع الناس حولك يمنح شعورا بالفرح، كوننا ننقل شيئا للناس الذين دفعتهم حشريتهم للفرجة في المرة الأولى، ولكن في المرة القادمة يأتون بدافع الاهتمام والحب«.

تجمع خاص بالحكواتين

يوجد في لبنان تجمعا يضم أحد عشر حكواتيا، يتدربون سويّا، وهناك تجمّع مثيل له في الأردن  »ولقد تلقينا دعوة للذهاب إلى الشارقة، حيث يوجد فيها تجمّع كبير للحكواتيين ومدارس خاصة بهذا الفن، ويوجد في فرنسا أيضا.. وفي عدة بلدان«.

عن جنسيّة المدربين تقول:  »المدربون عرب، منهم من لديه الجنسية الفرنسية مثل جهاد درويش هو عربيّ من الجنسية اللبنانية، عاش مدّة طويلة في فرنسا، يحكي قصصا باللغة الفرنسيّة إضافة إلى اللغة العربية، كذلك هناك شابة من مصر ولديها أيضا جنسيّة فرنسية، كل المدربين عرب تقريبا، هناك مدربون من فلسطين«.

في مهرجان حكايا الذي نظّمته جمعية السبيل كما ذكرت سابقا؛ والذي جرى خلال شهر آب الماضي من هذا العام، شارك حكواتيين من عدّة بلدان عربيّة، من مصر من الأردن من تونس أيضا، تساهم هذه التجمعات في إعادة إحياء التراث، يوجد بيننا ترابط على أساس المعرفة بالآخر، والتواصل الدائم فيما بيننا، شاركت في مهرجان في الأردن، حكيت قصصا في مصر..

الدعم النفسي للأشخاص

تقوم نجوى مزهر بتقديم دورات تدريبيّة بناء على طلب المؤسسات والمراكز المهتمة، فهي تنشط في مجال الإرشاد الاجتماعيّ ومساعدة الأطفال ذوي الصعوبات التعلُميّة، والتدريب على كيفية تعليم الأميين، بالاتفاق معهم على المدة الزمنيَة، وعن مشاريعها الحالية والقادمة. أشارت إلى أنّها: تتابع مع مجموعة من الشبان والشابات الذين تركوا مدارسهم في سنٍّ مبكرة، ويعملون في مهن مختلفة:  »أحاول أن أعيد معهم علاقتهم بالتعلّم عن طريق القصص، والحكيّ، نتحدث مع بعضنا عن مهنهم كيف يسعون إلى تطويرها، وكيفية تحسينها، كل ذلك يُكتب، ويُعاد تأليفه، هو نوع من قصص الحياة الذي له أهميّة كبيرة، ويهدف هذا المشروع إلى تحقيق نوع من الدعم النفسي للأشخاص. ومن أجل تنفيذ المشروع قدمنا طلبا لدى وزارة الشؤون الاجتماعيّة للحصول على مكان داخل المستوصف التابع لهم، وهو مشروع مجانيّ، من أجل النهوض بهؤلاء الشبان«.

لديّها بعض القصص القصيرة وكتابات قديمة،  »الآن لا أنتج كتابة جديدة، نظرا لنمط الحياة العملي، ظروف الحياة تشغلنا عن فعل ما نحب لأّنفسنا«

مهنة الحكواتي الى أين؟

هذا الفن أصبح مهنة لبعض الأشخاص، يعتاشون منها كالمدرِّبين الذي يعملون على صقل مواهبنا، والكلام للأستاذة نجوى، والبعض الآخر، منهم أنا لديّ عمل آخر، لذا فلا أتكئ كليّا على الحكيّ من أجل كسب رزقي.

وعن مصير هذا الفن، فهي تعتقد أنه  »ما دام هناك حكواتيين في لبنان والأردن وفرنسا وكثير من البلدان، فالمهنة في تطوّر دائم، ونحن كحكواتيين نقوم بمهمة نقل هذه التجربة العمليّة لأشخاص آخرين مهتمين بهذا المجال، ليصبحوا لاحقا حكواتيين، نذهب إلى كبار السن ونشجعهم على الحكيّ عن قصصهم القديمة لأولادهم في الأماكن العامة، لطالما كان هناك من يتحمس لهذا الموضوع.

*مهرجان حكاياتنا« نظمته جمعية  »السبيل« في 29 و30 و31 أغسطس (آب) الجاري. جال هذا المهرجان في نسخته الثانية بين العاصمة بيروت ومدينة صيدا الجنوبية والهرمل البقاعية. وشارك فيه نحو 16 حكواتيا جاءوا من لبنان ومصر وسوريا وفلسطين بهدف إعادة إحياء الحكاية الشعبية شفهيا بعيدا عن الكتب أو وسائل التواصل الاجتماعي.

العدد 98 – تشرين الثاني 2019