قد نختلف بشأن طبيعة المعطيات التي يقترن بها حاضر القرن الحادي والعشرين وأثار مخرجاته علينا، نحن العرب، وسوانا. بيد أننا قد نتفق على جدوى التفكير الإستراتيجي بهذه المخرجات والاستعداد للتعامل واياها، ابتداء من الحاضر، سبيلا لتطويعها. ولنتذكر أن من لا يفكر بالمستقبل ويعمد إل تطويعه وعلى وفق إرادته، لا يكون له مستقبل.
ونحن كأمة حضارية وتاريخية، لا نختلف عن سوانا من الآمم الآخرى في تطلعها إلى المستقبل الواعد. بيد أننا، مع ذلك، أمة تعاني حاليا من مخرجات واقع ينطوي موضوعيا على تأثير سالب في نوعية استجابتها لتحديات الحاضر والمستقبل. فهذه الاستجابة ليست واحدة أو موحدة، وإنما متقاطعة ومتناقضة.
إن هذا الواقع، الذي هو عندنا حصيلة لتفاعل تأثير اختلالات هيكلية عربية مؤثرة سلبا مع دور لقوى خارجية مناهضه أصلا لفكرة النهضة العربية، يراد له الامتداد إلى المستقبل سبيلا لآبقاء العرب خارج التاريخ والدور الدولي الفاعل والمؤثر.
وتعد إسرائيل من بين القوى الخارجية صاحبة المصلحة الاستراتيجية في تحويل العرب إلى طرف مهمش لا دور له في صناعة مستقبله. فإسرائيل هي أحدي تلك القوى الإقليمية التي تنطوي مشاريعها على إلغاء العرب، كهوية ومستقبل، سبيلا لتحقيق أهدافها التوسعية. وتفيد التجربة الممتدة منذ 1948 أن أنماط السلوك الإسرائيلي، ولعل أحدثها ما يجري في غزة من تدمير مبرج وقتل واسع للمدنيين الأبرياء ومنذ أكثر من شهر، أن هذه الأنماط تستوي وأنماط سلوك الدولة الإمبريالية. وعلية نتساءل: ما الذي يفيد به مفهوم الإمبريالية؟ وما الذي يجعل من إسرائيل قوة إمبريالية؟ وكيف تشكل تحديا للمستقبل العربي؟
1.في مفهوم الامبريالية
تقليديا، أقترن هذا المفهوم بتلك السياسات التي اعتمدتها قوى الاستعمار القديم سواء خلال موجته الأولى في القرن السادس عشر، وكذلك في موجته الثانية في القرن التاسع عشر. فهذه القوى، التي بدأت أوربية الانتماء ثم اضيف إليها الولايات المتحدة الأمريكية واليابان، عمدن إلى تبني الاحتلال العسكري المباشر لمناطق الوفرة في الموارد الأولية عبر العالم، ولاسيما فيما اضحى يسمى اليوم بعالم الجنوب (او العالم الثالث كما كان يسمى في وقته)، تأمينا لرفاهيتها الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، فضلا عن دعم تأثير سياستها الخارجية بمدخل مهم مضاف. وتبعا لذلك، قالت عدة اراء أن كل سياسة تستخدم القوة العسكرية سبيلا لاحتلال أراضي الغير هي سياسة امبريالية.
على أن هذا الفهم مر، ولاسيما بعد حصول الكثير من الشعوب على استقلالها السياسي، مر بتطور مهم. فالإمبريالية لم تبق مرتبطة بأدوات السيطرة العسكرية المباشرة فقط، وإنما صارت تقترن كذلك باليات الاخضاع غير المباشرة، اقتصاديا وثقافيا ومن ثم سياسيا. ومر ذلك انتشار إدراك، ومن ثم سلوك، اتخذ من الكلفة الواطئة لهذه الاليات مقارنة بالكلفة المادية والمعنوية العالية لأداة السيطرة العسكرية المباشرة سبيلا له، علما أن هذا السلوك لم يحل دون استمرار الاخذ بالقوة العسكرية المباشرة. ولنتذكر مثلا الاحتلال الأمريكي لكل من أفغانستان عام 2001, والعراق عام 2003.
وسواء اقترن مفهوم الامبريالية بأدوات السيطرة المباشرة و/ أو غير المباشرة، فإنه يلتقي ومفهوم الهيمنة. وكلاهما، كمفاهيم وممارسات، يلغيان تلك القيم التي تؤمن للإنسان إنسانيته، وللدول تحررها واستقلالها وارتقاءها الحضاري.
- إسرائيل كقوة إمبريالية
لقد أكد بن غوريون، أحد المؤسسين، إن إسرائيل” … ليست هدفا بحد ذاته، بل هي وسيلة لهدف. والهدف هو انشاء إسرائيل الكبرى… وإن إسرائيل لابد أن تضم كل المنطقة التي كان الملك داود والملك سليمان قبل ثلاثة ألاف سنة يسيطرون عليها.” كما أن أحد زعماء الحركة الصهيونية، سوكولوف, كان قد قال: ” إن أهم أهداف (النبي) موسى هو تأمين مستقبل الآمة اليهودية والاستيلاء على أراضي الميعاد إلى الآبد”.
وحول وظيفة ” إسرائيل الكبرى” تعددت الرؤى الصهيونية. ومن بينها تلك التي دعت إلى أن تؤدي إسرائيل في الشرق الأوسط ذات الوظيفة التي كانت الامبراطورية الرومانية تؤديها آنذاك. ويُعد معروفا أن هذه الإمبراطورية رمت إلى أن يسود العالم السلام الروماني، أي السلام الذي بعبر عن ثقافتها ومصالحها. ومن هنا كانت امبراطورية إمبريالية.
وتفيد أنماط الحركة الإسرائيلية حيال العرب أنها كانت تقليدا لوظيفة الإمبراطورية الرومانية، ولكن على نطاق إقليمي. ومما يوكد ذلك أن إسرائيل عمدت ومنذ عام 1948 إلى تبني استراتيجية عليا نبعت منها استراتيجيات متوسطة وأخرى فرعية رمت من خلالها تحقيق عدة اهداف مترابطة سبيلا لتأمين الهدف الأساس الذي أشار إليه بن غوريون والمذكور في أعلاه. ومن منطلق اعرف عدوك بموضوعية، لا يصح الافتراض أن إسرائيل كيان غير هادف. ونرى أن هذه الأهداف، وبضمنه وسائلها، اقترنت ومنذ عام 1948 صعودا بالاتي:
فمن ناحية، عُد, ابتداء, هدف تثبيت الكيان هو الهدف الأساس, وفي سبيل تحقيقه تم تبني ثمة وسائل ابرزها بناء قوة عسكرية نوعية رادعة, تقليدية وغير تقليدية( نووية غير معلنة رسميا حتى الآن), وتشجيع الهجرة اليهودية إلى اسرائيل تأمينا لتفوق عدد السكان اليهود في فلسطين المحتلة على عدد المواطنين العرب الفلسطينيين, هذا فضلا عن تعزيز العلاقات مع القوى الكبرى, ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية, التي كانت أول دولة تعترف بإسرائيل في 14 مايس1948 ومباشرة عقب إعلانها الاستقلال في التاريخ ذاته, تأمينا لدعمها الاقتصادي والعسكري والسياسي. ولا يستطيع المرء القول إن إسرائيل فشلت في تحقيق هذا الهدف. ولنتذكر فقط نوعية الدعم العسكري والمعنوي الأمريكي لإسرائيل خلال عدوانها على غزة.
وأما من الناحية الثانية، فلقد عمدت إسرائيل إلى تحقيق الشرعية الإقليمية عبر إحداث تغيير في المدركات العربية حيال الصراع العربي- الصهيوني، ومن ثم توظيف مخرجات ذلك سبيلا لدفع العرب إلى عقد معاهدات السلام معها وصولا إلى تطبيع علاقتهم معها. ومن أجل ذلك كان التركيز اولا على مصر. ويفسر، أبا إيبان، وزير الخارجية الإسرائيلية للفترة (1974-1966)، السبب وراء هذا التركيز قائلا: ” لازلت اعتقد أن مركز مصر في العالم العربي قويا…وربما بعد أن تتم تسوية جزئية معها سنجد دولا عربية أخرى تكون على استعداد للقيام بالفعل ذاته.”
وغني عن القول، أن استشراف أبا إيبان لم يكن خاطئا. فالعديد من الدول العربية ذهبت، بعد توقيع مصر لاتفاقية كامب ديفيد عام 1978 ومعاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية عام1979, ذهبت رسميا إلى تطبيع علاقاتها مع إسرائيل تباعا، أو أنها في سبيلها إلى الشيء ذاته، بل أن ثمة من رأى في الاتفاق الفلسطيني-الإسرائيل (أي اتفاق غزا-اريحا لعام 1994) دليل على” انتصار الصهيونية”. على إن اقتداء بعض العرب الرسميين باتفاقيات كامب ديفيد لم يكن بمعزل عن سياسات إسرائيلية عمدت إلى الاستفادة من غلبة التفكير والسلوك القطري على التفكير والسلوك القومي العربي سبيلا للإغراء بإعادة أراضي عربية محتلة مقابل السلام بمفهومه الإسرائيلي.
- إسرائيل والمستقبل العربي
إن نجاح إسرائيل في تحقيق الهدفين أعلاه تفاعل مع ثمة متغيرات دولية نجمت عن انتهاء حقبة الحرب الباردة (1991-1947). فبداية تربع الولايات المتحدة الأمريكية على قمة النظام السياسي الدولي أفضى بها الى ممارسات تستوي وغطرسة القوة، ومنها مثلا غزو واحتلال أفغانستان والعراق في عامي 2001 و2003 بالتتابع. أن مخرجات غزو واحتلال العراق خصوصا لا تفيد أن بهذا الغزو والاحتلال اريد التخلص من نظام وطني وقومي فحسب، وإنما أيضا البدء بإرساء معالم قرن أمريكي للعالم بدءا من الوطن العربي عبر الهيمنة الشاملة عليه اعتمادا على الجمع بين أدوات القوة الناعمة والخشنة الأمريكية.
ومن هنا تم في وقته طرح مشروع ما سمي بنظام الشرق الأوسط الجديد. وبهذا اريد فرض هوية جديدة على العرب تتلاشى فيها مرجعية القومية العربية لصالح وعاء جغرافي فضفاض يفضي إلى تحول الوطن العربي الجامع لكل مكوناته الحضارية والثقافية والسياسية إلى واقع جغرافي مختلف عبر إدخال دول غير عربية متل تركيا وإيران وسواهما في مثل هذا النظام تمهيدا ليس فقط لإضفاء الشرعية لاحقا على إسرائيل وإنما تحويلها ايضا إلى مركز والدول العربية إلى أطراف تابعة له.
إن سياسة المراحل هذه التي اعتمدتها إسرائيل مند 1948 حتى الآن تفيد أن سياسة التوسع الإسرائيلية لا نهاية، وأن ما جرى ويجري في غزة في حقيقته ليس إلا امتدادا لهذه السياسة وغطرسة القوة التي تصاحبها. ونرى أن إسرائيل ما كانت تستطيع، حتى مع الدعم الخارجي لها، الاستمرار في هذه السياسة لولا مخرجات مشهد التردي المصاحب للواقع العربي الممتد منذ زمان سابق طويل متفاعلا مع التوظيف الإسرائيلي لها لصالح دفع العرب إلى الاستسلام. ويعبر، أبا إيبان، عن ذلك بقوله: ” إن سياستنا في التطويق والردع تهدف إلى إدخال تيارات فكرية في العقل العربي (سبيلا لتكريس) الشك، ومن ثم اليأس والاستسلام (العربي).” ونتساءل: هل تًعد سياسة التطبيع التي اعتمدتها ثمة نظم سياسية عربية مع إسرائيل حصيلة لمضمون هذا القول؟
بيد أن هذه السياسة الإسرائيلية تجد تفسيرا لها أيضا في طبيعة العلاقة بين الصهيونية العالمية وقوى الاستعمار الجديد. وحول هذه العلاقة تتباين الآراء. فبينما يؤكد رأي على دور الحركة الصهيونية في دفع هذه القوى إلى تبني أهدافها، يذهب رأى أخر إلى تأكيد التداخل والترابط بين الاثنين خدمة لأغراضهما المشتركة في تكريس الضعف قي الجسد الوطني و/أو القومي العربي. ونحن نتبنى هذا الرأي. ومما يؤكده الدور الأوربي في انشاء الكيان الإسرائيلي والاعتراف الأمريكي به مباشرة، من ثم الدعم الأمريكي والاوربي المستمر ماديا ومعنويا له ومنذ عام 1948. ولعل نوعية الدعم الذي يحظى به عدوانه على غزة مثال على ذلك. إن هذا الدور والدعم يفيدان بالترابط العميق والوثيق بين الطرفين، وهو الآمر الذي يجعلهما وجهين لسياسة واحدة عنوانها مناهضة العرب.
إن سياسة التهجير والدمار الشامل الذي نجم عن العدوان الإسرائيلي على غزة، والقول ببقاء السيطرة الآسرائيليةعليها انما يراد بها التمهيد إلى ألغاء الهوية العربية لغزة، ثم تهويدها لاحقا بالكامل كما يحصل مع القدس. والسؤال، لماذا يُراد تهويد أراضي فلسطينية عربية؟
ابتداء، يزعم الفكر اليهودي الصهيوني أن فلسطين ملك لليهود استنادا إلى طروحات ما يسمى بالوعد الآلهي وارض الميعاد. وغني عن القول إن هذه المزاعم تفندها وتلغيها حقائق التاريخ، والاديان السماوية، بل وحتى العهد القديم. وبغض النظر عن هذه المصادر المهمة، يقدم الفكر اليهودي التلمودي إجابة عن التساؤل أعلاه. فهذا الفكر يربط المكان والزمان بدور اليهودي الصهيوني. إذ يؤكد أن “اليهودي الصهيوني الذي ينكر الآخر ولا يعترف إلا بذاته، يريد المكان له وحده، أي أنه يريد الأرض، وهو يريد الزمان أيضا. أي أنه يريد الاستيلاء على التاريخ والانفراد به…. أما الآخر الذي يقصد به العربي “… فيجب أن يطرد وإلا سيكون مصيره القتل والاخضاع.”
ويتفاعل هذا التفكير العنصري مع سياسة إسرائيلية ممتدة، هي سياسة شراء الزمان سبيلا لتحقيق عملية تهويد فلسطين، ومن ثم فرض الامر الواقع على العرب. ومما يساعد على ذلك الدعم الأمريكي لتهويد القدس عبر نقل السفارة الأمريكية من تل ابيب إلى القدس. وقد دفع هذا الفعل بحلفاء الولايات المتحدة الى فعل الشيء ذاته، الآمر الذي قد يعني اعترافا دوليا بالقدس عاصمة لإسرائيل.
وفي الختام، نقول إن العرب يواجهون في القرن الحادي والعشرين مثلما كان هو الحال بعد عام 1948 تحدي حركة إمبريالية عنصرية توسعية استعلائية تعمد إلى تأكيد ذاتها عن طريق الغاء مناهضيها. وطبيعي أن يكون العرب هم العدو الآول لمثل هذه الحركة، لاسيما وأن إستراتيجيتها تنزع إلى اضعاف الايمان بالآمة والحيلولة دون النهوض العربي عبر تعبئة أدوات القوة الخشنة والناعمة ضدها.
لذا نرى أن لا سبيل ربما لمغالبة هذا الكيان العنصري إلى عن طريق الوعي التاريخي والاستراتيجي بأهدافه فضلا عن العمل الجاد والمتجدد من أحل بناء الوجود الحضاري العربي، فهذا الوجود هو وحده الذي يستطيع أن يجعل التخطيط الصهيوني/الإسرائيلي قابلا للاندحار في نهاية المطاف. ولنتذكر أن صراعنا الممتد مع إسرائيل والقوى الداعمة لها هو صراع في التاريخ وعلى التاريخ من اجل المستقبل الأفضل، لآن غير ذلك ينطوي على دعم النزوع الإقليمي المتوافق مع الدولي على تسريع خروج العرب من التاريخ، وجعل مستقبلنا اسيرا لإرادة ومصالح غيرنا. وهذا أن حصل فأن الخسارة الباهظة ستكون من نصيبنا. ومن أجل دون ذلك، ينطوي حشد القوة العربية، وهي فاعلة ومؤثرة في حالة توظيفها الهادف كما تم أحيانا في السابق، من أجل بقاء عموم فلسطين عربية وعدم الرضوخ للآمر الواقع الراهن.
وقد تستوي هذه الدعوة والتفكير الحالم جراء معطيات واشكاليات الواقع العربي الراهن. بيد أن هذا الواقع لا يمكن أن يكون ازليا. فالتغيير هو سنة الله تعالى في هذا الكون. فالتغيير في عالم اليوم اضحى ظاهرة غير مسبوقة. ونحن العرب لا نستطيع أن نكون خارج هذا العالم المتغير بسرعة. لذا لنعمل معا من أجل تسريع عملية التغيير في الواقع العربي وتوظيف مخرجاته سبيلا لحسم صراعنا الحضاري الطويل مع العدو الصهيوني/الإسرائيلي، لصالح مستقبلنا المشرق .
- أستاذ العلوم السياسية/ السياسة الدولية ودراسات المستقبلات