تسمى (فواتح السور) و(أوائل السور) و(الحروف المقطعة). وقد سماها المستشرقون (الحروف الغامضة)؛ وهي على خمسة أقسام؛ فردية وثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية؛ فما كان منها فردياً اقتصر على حرف واحد مثل قوله تعالى في سورتي (ق) و(ص). وما كان منها ثنائيا اقتصر على حرفين مثل قوله (حم). وما كان ثلاثيا كقوله (ألم) ورباعيا مثل (ألمص) وما كان خماسيا فمثل قوله (كهيعص). وقد شملت ثلاث عشرة سورة في القرآن هي البقرة وآل عمران ويونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر والشعراء والقصص والعنكبوت والروم ولقمان السجدة والأعراف والرعد ومريم والشورى.
أما سبب تسميتها بالحروف المقطعة فلكونها تُقرأ كحرف لا ككلمة؛ بمعنى أن قراءتها تكون كتهجئة الحرف الواحد مثل قولنا (ألف) لحرف (أ) و(ميم) لحرف (م) وهكذا؛ وقد جمعها الجمزوري في تحفته بالجملة التالية (صِلْهُ سُحَيْراً مَنْ قَطَعكَ)؛ الا ان المشهور أكثر جمعها في جملة (نَصٌ حكيمٌ قاطعٌ له سِر). وهي تشكل بمجموعها نصف الحروف الهجائية.
ولا يخفى على أي أحد أن هناك فرضيات كثيرة ومتعددة وضعت لتفسير هذه الحروف. وإنما اقول فرضيات لا نظريات كما ورد في بعض المصادر كون النظريه قضيه ثبتت صحتها بالحجه والبرهان أما الفرضيه فهي قائمة على الظن والاحتمال ولم تثبت صحتها؛ وعليه لا يصح أن نقول عن محاولات تفسير الحروف المقطعة بالنظريات وإنما هي فرضيات؛ ولأن أصحابها ينطلق كلُّ واحدٍ منهم من مشربه ومذهبه ومعتقده يمكن تصنيف هذه الفرضيات لقسمين: الأول فرضيات علماء المادة. والثاني فرضيات علماء أصحاب الديانات السماوية.
ومن الواضح جدا أن علماء المادة والذين لا يومنون بالغيب وما يتصل به كانت فرضياتهم لغوية فقط. بمعنى أنهم حاولوا من خلال هذه الفرضيات أن يثبّتوا أن هذه الحروف لا تتصل بالسماء ولابعوالم الغيب بأي شكل من الأشكال؛ خاصة أنهم لا يؤمنون بهذه العوالم ولذلك نجد فرضياتهم تدور في هذا الفلك.
فقد ذهب كوسنس الى أن الحروف المقطعة إنما تمثل كلمات توجيهية مختلفة. ولا عجب في هذا الرأي فهو أصلا يعتقد بأن هذه الحروف كانت سوراً وقد نُسخت وإنما هي خلاصة تلك السور المنسوخة! وهذا رأي عجيب وغريب في آن. أما جيمس بيلامي فقد ذهب الى أن هذه الحروف هي تلخيص لأسماء الله تعالى فقال ان (الر) ترد مع ألفاظ (الرحمن) أو (الرحيم). وهذه فرضية ساذجة ولا تمثل جميع الحروف المقطعة فضلا عن كونها تحاول أن تضع احتمالات التفسير في الإطار اللفظي وحده. إلا ان الغريب ادعاؤه أن هذه الحروف أو ما يسميها (الاختصارات) كانت على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكتوبة في مصحائف العهد المكي وهو ترد بدلا عن (بسم الله). وهي فرضية لا تصمد بتاتا أمام النقد. ومن الذين نقدوا هذه الفرضية ونفوا صحتها ويلش الذي بيّن ان كثيرا من الحروف المقطعة جاء في بدايات بعض السور المكية.
وقد تمادى ثيودور نولدكه في فرضيته بأنها لم تكن سوى علامات ذات رموز لا تحمل أي معنى. رغم أنه ومن ذكرتهم أعلاه لم يثبتوا على رأي واحد وقد خالفوا آراءهم في النهاية.
جدير بالذكر ان المفسرين على مر الزمن قدموا فرضيات مختلفة لتفسير هذه الحروف؛ فقال بعضهم انها تُظهر اسم السورة. وقال آخر انها تختصر أحد اسماء الله تعالى. فيما ذهب بعض العرفانيين الى انها رموز مملوءة بالأسرار تقوم على قيم عددية ويمكن فهم معانيها. وهناك من حاول تفسير الحروف المقطعة على أساس عددها في القرآن فقسمها لحروف زوجية وفردية؛ علما أن هذه المحاولات العددية لم تقتصر على فهم الحروف المقطعة فحسب؛ فهناك أيضا فرضية ذاع صيتها تعرف بـ(مضاعفات العدد تسعةَ عشر في القرآن) وهي فرضية قد تستند لقاعدة الرياضيات والأرقام إلا أنها في الواقع ليست ذات فائدة لأنها لا تبين لنا أيَّ سرٍّ حقيقيٍّ لمعاني القرآن؛ بمعنى ما فائدة إثبات سر العدد من دون ترجمة ذلك في الواقع التفسيري المحتمل. والقرآن كما هو معروف إنما أهميته في فهم معناه وتطبيقه. إضافة الى ذلك لا وجود الى ما يثبت ان العدد في القرآن قد يرمز الى هذا النوع من الإعجاز؛ إذ لا أهمية للعدد بنفسه بقدر ما لفهمه وتأويله من أهمية. فقوله مثلا (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية). فلو قلنا أن العرش مادي اصبح لنا أن نتخيل له حملةً وأصبح لنا أن نجتهد في كونهم ملائكةً أم خلقا آخر. لكن العرش في الأصل معنى وهي من الآيات المتشابه التي لا بد أن نؤولها فنقول إن العرش قد ينبئ عن القوة أو السلطة أو النفوذ أو التدبير وهكذا. وإذا ذهبنا الى هذا القول وجب علينا أن نؤول الثمانية أيضا بما يناسب المقام وعندها تسقط رمزية العدد من حيث كونه عددا. علما أن المعروف عند العرب قديما أنهم كانوا يستعملون العدد للكثرة والقلة وفق استعمالات دأبوا عليها إضافة لكونهم قد يستعملون المثنى للجمع وقد يستعملون جمع المؤنث السالم لجمع القلة والمذكر لجمع الكثرة فاذا قالوا قالت العرب أي قليل منهم أما اذا قالوا قال العرب أي الأغلبية والكثرة. من أجل ذلك قد تتهافت فرضية العدد تسعة عشر من خلال هذا الطرح. ويمكن أن نستشهد بما جاء في القرآن الكريم لتوضيح هذا الأمر أكثر. قال تعالى (استغفر لهم او لا تستغفر لهم ان تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين)؛ وقد ورد في الأثر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال عندما نزلت هذه الآية (لأزيدنّ في الاستغفار لهم على سبعين مرة)، رجاءً منه أن يغفر الله لهم, فنزلت (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ). إذن لو زاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على السبعين فهل سيغفر الله لهم!؟ وهذا ينبئنا بأن الرقم في حد ذاته قد يشير الى الكثرة أوالقلة ولا يشير الى العدد الذي يرمز إليه.
ومن الفرضيات في تفسير الحروف المقطعة ما قاله المتخصصون القدامى في هذا الشأن. ففي ذات الوقت الذي أرجع فيه قسم كبير منهم علمها لله تعالى وأنه لا ينبغي الخوض فيها قال بعضهم إنما هي حروف نورانية وأنها (سر القرآن الكريم). وممن قال بهذا الرأي الشعبي. فيما اعتقد بعض آخر بكون أن جمعها يوصل لحقيقة (الاسم الأعظم)؛ وهذا الأمر لا بد له من دليل؟
من أجل ذلك بدا ان العلامة الطبرسي في تفسيره يميل لنفي رمزية هذه الحروف من كونها تشير لحوادث وأسماء مختصرة وما شابه. فأورد أن اليهود لما سمعوا (الم) قالوا مدة ملك محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) قصيرة إنما تبلغ إحدى وسبعين سنة. فلما نزلت (الر) و(المر) و(المص) و(كهيعص) اتسع عليهم الأمر.
إلا ان الرأي الذي يقول بأنها سر بين الله سبحانه وتعالى وحبيبه النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وانه لا يتسنى لآخرين أن يتوصلوا اليها ولا يمكنهم فهمها هو في الحقيقة بعيد عن الرسالة المحمدية والقصد الالهي.
وإذا أردنا أن نفترض فرضية لتفسير هذه الحروف علينا أولا أن نصنفها من أي قسم هي؛ أهي محكمة أم متشابهة؟ ورغم ان جواب التصنيف واحد ولا يختلف عليه اثنان – وهو أنها آيات متشابهة – فأن القاعدة في معرفة الآيات المتشابهة هي ردها الى المحكمة من باب قاعدة (رد المتشابه الى المحكم) من أجل فهمها. ولكونها حروفا وليست كلمات أو جملا يصعب على المحققين والمتخصصين قياسها بالمحكمات ولذلك ظل فهمها عصياً عليهم.
ولعل في عبارة الأخفش الأوسط من كونها (مقسماً بها) إشارة مهمة في وصف الحروف المقطعة، فقال (إنما أقسم الله بهذه الحروف لشرفها وفضلها، لأنها مباني كتبه المنزلة، ومبادئ أسمائه الحسنى وصفاته العليا وأصول كلام العرب، بها يتعارفون ويذكرون الله تعالى ويوحدونه).
ولأن أهل العلم اجتمعوا على أن لهذه الحروف معنى وأن ذكرها له حكمة، دأبوا في محاولات الوصول الى فرضيات قد توصلهم لمعانيها وفهمها، لدرجة ان الحافظ بن حجر العسقلاني أحصى ثلاثين فرضية فيها، وقال إن منها ما هو قريب وإن منها ما هو بعيد. وعليه لا نستغرب لو قرأنا دعوات في الكف عن محاولات فهمها كما فعل العلامة السعدي الذي قال (الأسلم فيها السكوت عن التعرض لمعناها من غير مستند شرعي، مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثًا، بل لحكمة لا نعلمها).
واذا أردنا أن نحاول فرض فرضية جديدة لفهم معاني الحروف المقطعة أو أوائل السور وجب علينا أولا ان نفهمها في سياق كل سورة. وثانيا وجب علينا أن نفهمها ضمن الإطار العام للقرآن الكريم أي بمعنى أننا ننطلق من القرآن وننتهي اليه وان لا يكون للواقع الخارجي أي تأثير في عملية الفهم. وثالثا أن لا يغيب عن بالنا أن القرآن كما أن فيه التفسير فيه التأول أيضا. ورابعاً وهو الأهم ضرورة فرض العمل بالآيات للوصول لحقائق معانيها فتكون هناك مواءمةٌ بين اللفظ والمعنى. وعليه نقول اننا لسنا بالضرورة أن نفهم كل ما جاء في القرآن الكريم لأن بعض ما فيه أسرارًا باطنية لا يعلمها إلا الأنبياء والمرسلون وأصحاب المقامات العالية. فلو تأملنا قوله تعالى (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) فما هي هذه الكلمات؟ إذ أنها بين الله تعالى وعبده آدم. خذ مثلا آخر في القرآن؛ نبي الله موسى (عليه السلام) وهو من أنبياء أولي العزم يعترف بعدم علمه ببعض العلوم التي اختص الله بها عبدا آخر في زمانه في قصة مشهورة مذكورة في القرآن فقال له العبد الصالح (وكيف تصبر على ما لم تحط به خُبرا)، وموسى من أنبياء أولي العزم وقد غابت عنه علوم جمة لدنيّة. وعليه أقول لا يمكن لنا أن نفهم معاني الحروف المقطعة على مستوى الجماعة؛ وأعني (الفهم الجمعي)؛ إذ لا يمكن ان نفهم معاني الحروف المقطعة على مستوى الفهم الجمعي أبداً. من أجل ذلك فرضيتي تقوم على مبدأ (الفهم الفردي) الذي لا يجوز فيه التعميم كونه من مصاديق العمل العبادي الذي يوصل بالضرورة الى الله تعالى والى علمه الأبدي النافع. بمعنى أن فهمها من العلوم الخاصة وليس من العلوم العامة. ولنأخذ مثالا على ذلك قوله تعالى (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك بعرشها قبل أن يرتدّ إليك طرفك) وهذه المقدرة المقرونة بالعلم (علم من الكتاب) قد قام بها من هو دون نبي الله سليمان أي هو ليس بنبي وتشير الى أنَّ من أطاع الله وابتغى اليه العلم والحقيقة فتح الله عليه أسرار العلم الخاصة.
فالحروف المقطعة لها ميزتان الأولى أنها جاءت في مفتتح السور لا في وسطها أو آخرها؛ وهذا يشير الى كونها أداة لجلب الانتباه. أما الميزة الأخرى فهي أن الله تعالى أقسم بها وهذا ينبئ بكون أن لها شرفا عظيما ومنزلة كبيرة. ومن أجل فهم الحروف المقطعة لا بد للمتصدي لها أن يكون له حظ عظيم من العبادة والتقرب والسير في طريق الله تعالى لأن بعض المفاهيم القرآنية لا تتم إلا بالعمل والتقوى. وربما هذا يفسر كثرة الشواهد القرآنية الحاضة على العمل بعد الإيمان كقوله تعالى (الذين آمنوا وعملوا الصالحات). وعليه يمكن لأي عبد من عباد الله تعالى أخلص علمه لله تعالى وسار في طريق عبادته خالصا مخلصا أن يجد الطريق للوصول لأسرار وحقائق القرآن وأن يصل لفهم حقيقة الحروف المقطعة. والتي يمكن أن يتم بفههما ترابط سلسلة مفاهيم القرآن الكريم ليس على مستوى اللفظ وإنما على مستوى المعنى؛ وهذا هو روح هدف القرآن الكريم.