إرحلي…

منتصف الليل استفاقت من أرق لا ينتهي… جلست تسترجع الحوار الاخير…. الحوار الاحادي الاتجاه، الذي قالت فيه ما أراد قوله… الذي أنقذته فيه من خنقة انسحاب لا يجرؤ على المبادرة به…. حوار أدارته وحدها، ولم تحصل مقابله إلا على تنهدات، ونفَس متقطع، ورضوخ كامل، لقرارها بإقفال الملف… لم يُجب ولم يتمسّك بها كما جرت العادة، بل اختار الصمت… ربما لأنه يتألم، ربما ليحفظ طريق العودة في يوم من الايام، ربما لانه اكتشف انه بها خان حبه الحقيقي، وانها لم تكن إلا وهماً. المهم أنه قابل نيران وجعها بالصمت… وصمته هذه المرة كان صاخباً ساطعاً ، بليغاً…

وهي لم تفسر يوماً الاشياء كما يحلو لمشاعرها، بل لطالما جَلدت نفسها بتفسير واحد قاسٍ… انتهى العرض … نزلت الستارة…»إرحلي الآن، لا أعرف لماذا، لكن إرحلي«…

هذا ما صرخ به سكونه…

منتصف الليل استفاقت في عتمة حالكة… تبحث عن قوّتها، عن جنونها…تجمع تحدياتها الخائبة، تضحك على نفسها، على ترددها وتسخر من استعداد آخر للإنتظار… أشعلت شمعة قرب سريرها …»مثل شمعة أذوب كلما تغيبين عنّي« هكذا كان يقول لها… تضحك..

اشعلت الشمعة لتصلي، علّ في الصلاة مفراً من ذكراه… فتحت علبة حليّها، ولبست كل هداياه، كمن يحتفل بجنازة حب عظيم…كمن يودّع كل أدوات جريمة أودت بروحه إلى غير رجعة…. استعرضت كل رسائله لها على الهاتف.. لا زالت تحلّل البلهاء!! »هذه رسالة تدل على أنه يحبني وتلك على أنه لن يرحل، وأخرى يهددني فيها ويصرخ فيها أن أجيبيني، فروحي تختنق عندما تخاصمينني«.. تضحك دامعة وتركض الى الحديقة كهارب من شبح يطارده… تلهث وحدها في الليل… تحفر في الارض، قبراً لغرام قتلها ألف مرة… تدفن في حضن التراب كل أثر له… الرسائل، الهدايا، الهاتف…

 »خلص« سوف تقدر عليه حتماً… سوف تشطبه من أيامها القادمة حكماً… أقفلت حفرة عمرها… وعادت الى غرفتها كفارس أنهى بنجاح حرباً ضروساً… عادت منهكة حزينة مسلحة بثقة هشّة…

الغرفة قاتمة لا شيء فيها إلا الشمعة…

شمعة …نورها بات أعظم… نارها يهدد الكون والكواكب… كذاكرتها تماماً لم يبق فيها إلا ما يُشعلها وما يضيئها… لم يبق فيها إلا هو… فأدركت أنها دفنت ما كان ممكناً أن يحوّله إلى »عادة«.. أن يبهّت حبّه تدريجياً… دفنت ما كان ممكناً أن يضجّرها من استعادة آثاره مع الوقت.. دفنت سلاح نسيانه… وخلّدته في النار والنور والروح…