الدّكتور ربى سابا حبيب شاعرة العودة

بيروت من ليندا نصّار

    تأتيكَ »دكتورة  ربى سابا حبيب«  في قصائدَ من الحلم في ديوان »عبق الأمكنة أو تلك الكنوز« الصّادر عن دار ضرغام.

 »ربى سابا حبيب«،  أو شاعرة العودة كما لُقّبت في أغلب قصائدها، منذ بداية ديوانها، تظهر عندها تلك الحركة في نصوصها، وقد أوصلتها إلى القارئ ممثّلة كلّ الاتّجاهات، إنّها بين مدً وجزر تحرّك الحروف بمحبرة ناريّة تخترق الأعماق. وما يصنع من هذه الحركة هو تلك المعاناة، بين الغربة وأمل العودة، ذاك الأمل الّذي تعلّقت به بسبب علاقتها الحميمة بكلّ ما انتمت إليه، إنّها علاقة بالطبيعة الّتي خرجت من رحمها. ربى سابا حبيب على علاقة وثيقة بضيعتها »قلحات« وبدير البلمند، كنزها الّذي عشقته وراحت تتنقل بخفة في حروفها، تحمل الى الكون مافي داخلها من إحساس، وقد سكبت منه الكثير في نصوصها.

ـ الدكتورة ربى سابا حبيب... ما احلى العودة الى لبنان
ـ الدكتورة ربى سابا حبيب… ما احلى العودة الى لبنان

شاعرتنا تغلب الدّهر، تتخطى  ذكرياتها الجميلة بسلاح الصبر.  استطاعت أن تتخطّى الوحشة والملل والوحدة في المنفى، فكان التّصوّفُ غطاءً لها يحميها، وينقل جسدها عبر أفكارٍ إلهيّة. هذا التّدفّق العجيب في أفكارها الّذي صنعه القهر، عبّرت عنه بإيقاعات لغتها الشّفافة الصّادقة، فجاءت أجراس حروفها شرقيّةً غربيّةً تأرجحت بين الوطن الأمّ لبنان، وبين الغربة في فرنسا الدّولة الّتي احتضنتها، فجاءت كلماتها عذبة بكلّ معنى الكلمة. كتابها هو بمثابة صلوات ترفعها إلى طبيعة  دير البلمند مرتع الصّبا. وانطلاقًا من العنوان  »عبق الأمكنة أو تلك الكنوز«، نستطيع أن نعرف أنّها وظّفت حواسها في سبيل كتابة هذه القصائد، وصنعت منها  ذكريات بين المنفى الموقّت والوطن، وبين الذّاكرة والنّسيان. أقبلت إلينا مبدعةً حسّاسةً، سكبت عفويّتها في كتابها. وبين الحلم واليقظة كانت ربى تطمح إلى الكمال الّذي تعيشه في كلّ لحظةً. وقد تأثّرت  بالطّقس البيزنطي، فلغتها تبدو كأنّها صادرة عن قلب ملاك، خرج من نهر رقراق ليروي ينابيع الحياة بالشّعر الأزليّ.

 إذا تعمّقنا قليلاً في كتاباتها نلاحظ  منذ البداية ، تدعوها حروفها باسم شاعرة العودة فتقول: »وأعود اليك والكلم يزغرد فيّ بعد غياب«. وكم استطاعت ربى أن توظّف أحاسيسها في سبيل رواية العشق بينها وبين هذا الدّير فتقول في كتابها »عبق الأمكنة أو تلك الكنوز«: »أكتبكَ أرسمك كي لا أقيم في همومي كي لا أنسى ، وأنت معي ذبت بك معك والنّشيد نشيدي، رسالتي إلى الكون، الزّمن ضدّ الملل الوحشة، وأنت معي ضحك البدر الكاملُ«.هنا نلاحظ هذه العلاقة بينها وبين عناصر هذا الدّير فهو اكتمالها: »معك أدخل الأمكنة أميرة الزّمان مليكة العناصر، تعولُ في الذّاكرة تهتف للعودة، العودة«. إنّه أملها الوحيد بالعودة يشدّها إلى وطنها بعد غربة  ومنفى عاشتهما. هذا الدّير صنع منها أميرةً  وهي ملكةٌ في وطنها لبنان، هناك حيث مرحلة الصّبا: »كم افترشتُ نجومك رداءً، كم ملمسًا لحجارتك يدًا لتبلسم الجراح« هنا  يتبيّن لنا كم أنّها تشعر بالأمان فحتّى الحجارة القاسية ليّنة بحنانها، وعلى الرّغم من قساوتها هي أرحم من الغربة.

تجدها في  كتابها توظّف حواسها في سبيل وصف الجمال.ثمّ تنتقل إلى ذكرِ ضيعتها أيضًا القريبة من الدّير، تقول ربى سابا حبيب: »أكتبك وقلحات أندلس للقلب والمصير« فهي تعتبر أنّ قلحات ضيعتها هي مثل الأندلس بالنّسبة إلى العرب. وتقول أيضًا: »كفاني أموت على أرضكَ« فالوطن  اكتفاء الإنسان… وبالنّسبة إليها، أن تعود إلى وطنها وأن تغمض جفنيها فيه هو الأهمّ مهما كان الثّمن.في مكان آخر تقول ربى: »أكيد أنت ولدتني مع عشبكَ« وهنا تظهر العودة إلى الأصول وتتجلّى في التّعبير عن حبّها : »أغنّي، أرتّل، والخالقُ فمتى تأويني في رحابكَ« … بهذه العبارات تجلّى طموحها إلى المأوى الأخير الّذي سيكون في وطنها لبنان.

 وتعود ربى لتتغزّل بالدّير إيضًا فتصفه : »أراك والبحر أمامك فوق ذهب حقولك نار«… هذه العبارات كلّها مليئة بحرارة، حرارة المحبّة والعشق تجاه هذا الدّير كما أنّها تبتعد ثمّ تعبّر مجدّدًا عن الطّقس البيزنطيّ :

»الطّقوس البيزنطيّة تحاصرني من كلّ الجهات أعتقلني بخورك«. يظهر هنا هذا الإيمان في داخلها فهي مشدودة إلى هذا البخور أبهى تقدمة لله الخالق . ثمّ تنتقل للتّعبّد لله تقول: »يا يسوع إلهي أنت ذاتي من طيبي صندل وبخور«. ولا ننسى الوحدة الّتي لم تتركها من بداية كتابها إلى حين نهايته. فهي تعبّر عنها في المنفى الّذي عاشته في الغربة: »لأنّني وحيدة أعاشر أسود الأنتظار وكل مساءٍ ننزل معاً الى المياه كي نشرب…«

 لم يخل ديوان »عبق الأمكنة أوتلك الكنوز« من التّعبير عن أقرب شخص إلى قلبها،  إنّها الأمّ الحنون الّتي رافقتها في رحلتها حملتها في قلبها: »أمّي وأبعد من الحنان وأمّي أشرس من النّسيان يا دفء الذّاكرة يا ألف سماء يا كلّ البيوت يا كلّ الحروف المورقة«… نلاحظ هذا الإحساس المتدفّق في تعبيرها عن مشاعرها تجاه أمّها تعبّر ربى عن الحنان الّذي فقدته في الغربة عن هذا النّسيان الّذي لم تستطع أن تعيشه، لم تستطع أن تنسى ولو للحظة واحدة قصّتها مع أمّها. والأمّ تمثّل الوطن بأكمله، من هنا هي كلّ الحروف المورقة، ولولاها لما كانت ربى شاعرة حملت إلينا هذا الكمّ من القصائد.

ـ غلاف كتاب »عبق الامكنة وتلك الكنوز«
ـ غلاف كتاب »عبق الامكنة وتلك الكنوز«

 ونلاحظ تحوّلات الغربة،  وشريعة العودة كما تقول في كتابها »فالغربة مهما غيّرت الإنسان،  تبقى العودة  بالنّسبة إليه شريعة أبديّة. وبعد كلّ هذه السّنوات تعود إلى دير البلمند حاملة  كلّ  عذابات الغربة: »حملتكَ وأهلي يلوّحون لي مع حجارتكَ جدرانكَ أعودُ وذاك التّراب«…

وبعد كلّ هذه السّنوات عادت ربى سابا حبيب: »أرجع إليك لأنّ إيقاعك في داخلي لم يتوقّف … هاجرت معي يبست على اسم أبي«… »كالابن الشّاطر أكتب العودة«… هذه العودة للحركة بين مدٍّ وجزرٍ بين قبول الحياة في الغربة وحمل كلّ ما فيها من ذكريات ورفض البقاء والتّحلّي بأمل العودة إلى لبنان.

هذا الدّير الّذي لم يتركها والّذي كان يسكن فيها هناك، حملته معها بطفولتها وذكرياتها، هاجر معها وهي الآن تعود كالابن الشّاطر إليه .فكما هاجرت ربى وزادها حروفها، ها هي تفرغ الآن هذا الزّاد بقصائد لا تنتهي ولا تروي عشقها لوطنها لبنان.